شادي ملك *
لطالما ارتبطت السكك الحديدية في أذهاننا بالقضبان الثقيلة والمحطات والقطارات الضخمة، ولكن هذه الصورة لا تعكس الواقع الذي نعيشه اليوم، فالسكك الحديدية لم تعد مجرد وسيلة نقل تقليدية، بل باتت محركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي، والتنمية المستدامة.
اليوم، ومع تسارع النمو السكاني وتغير سلاسل الإمداد العالمية، تزداد الحاجة إلى وسائل نقل أكثر كفاءة وموثوقية وصديقة للبيئة. ويمتلك قطاع السكك الحديدية فرصاً استثنائية ليكون في قلب هذا التحول، لكنه لا يستطيع أن يحقق ذلك إلا عبر ركيزتين أساسيتين: التعاون والابتكار، وهو ما شهدناه من خلال المعرض والمؤتمر العالمي للسكك الحديدية والنقل والبنية التحتية (جلوبال ريل 2025) الذي استضفناه للعام الثاني على التوالي في العاصمة أبوظبي، حيث جسد منصة لتعزيز فرص التعاون بين نخبة من المشاركين والجهات الرائدة في القطاع من مختلف دول العالم.
بعد خبرتي الواسعة في هذا القطاع ثبت لي أن الأفكار المبتكرة لا يمكن أن تؤتي ثمارها بمعزل عن العمل مع الآخرين. لذا، عندما يحتكر مالكو البنية التحتية البيانات، ويتردد المنظمون في اتخاذ القرارات الحاسمة، وتعجز الشركات الناشئة عن توسيع نطاق أعمالها، سينعكس ذلك سلباً على القطاع ككل. وفي المقابل، تحقق قطاعات أخرى مثل التجارة الرقمية قفزات هائلة لأنها تبنّت معايير عالمية ومنصات مشتركة.
كشفنا في «جلوبال ريل 2025» عن أول مركز وطني للابتكار في النقل في دولة الإمارات العربية المتحدة، مركز قطارات الاتحاد للابتكار (ERIC)، بما يشكل دليلاً ملموساً على إيماننا بأن مستقبل قطاع السكك الحديدية سيُحدد بمدى قدرتنا على الابتكار والتعاون بشكل فعّال، لنتعاون معاً لإيجاد الحلول وتعزيز النمو.
وسيسهم مركز قطارات الاتحاد للابتكار (ERIC) في إرساء نهج تعاوني متكامل في قطاع السكك الحديدية بدولة الإمارات. حيث سيشكل هذا المركز منصة تجمع الجهات الحكومية والأكاديمية وقادة القطاع والشركات الناشئة، وسيتمحور حول أربعة مراكز للتميز تشمل البنية التحتية، وأنظمة الإشارات، وأصول التنقل، والأنظمة الرقمية. وسيتناول كل مركز التحديات الكبرى بدءاً من الصيانة التنبّئية إلى العمليات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، إلى جانب توجيه دعوة واضحة للعمل المشترك شعارها «التعاون في إيجاد الحلول، والنمو معاً».
أثبتت الابتكارات القائمة على البيانات، مثل الصيانة التنبّئية، فاعليتها في قطاع النقل، إذ إنها تسهم في تقليل التأخيرات وخفض الكلف وزيادة معدل رضا الركاب. وبالمثل، تسهم حلول التذاكر الذكية في توزيع أعداد الركاب على مدار اليوم خارج أوقات الذروة، مما يحد من الازدحام ويحسّن تجربة الركاب ويزيد الإيرادات. وقد أثبتت هذه الابتكارات جدواها، لكن التحدي الحقيقي يكمن في توفير بيئة متكاملة تتيح تطبيقها على نطاق واسع لتحقيق أثر ملموس.
هذا هو الهدف من إنشاء مراكز مثل، مركز قطارات الاتحاد للابتكار (ERIC)، حيث لا يقتصر دورنا على اختبار التقنيات فحسب، وإنما نسعى لتسويقها تجارياً أيضاً. علاوةً على ذلك، يوفر هذا المركز منصة للشركات الناشئة للانتقال من مرحلة النماذج الأولية إلى المشاريع التجريبية، وللجامعات لتحويل أبحاثها إلى معدات جاهزة للاستخدام. كما يتيح المركز الفرصة للجهات التنظيمية لصياغة الأطر القانونية بالتوازي مع سير عمليات الابتكار، وليس بعد الانتهاء من جميع مراحلها.
وتفخر دولة الإمارات بإطلاق هذه المبادرة، لكن من الضروري التأكيد على أن الابتكار في قطاع السكك الحديدية لا يمكن أن يكون مشروعاً محدود الأفق. من هنا تبرز أهمية منصات مثل «جلوبال ريل»، وكذلك يتّضح سبب سعي قطارات الاتحاد لتوسيع نطاق عملها ليشمل مشاريع في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي وخارجها. من جهة أخرى، نؤمن بأن الأفكار لا تعترف بالحدود، حتى وإن كانت المسارات المادية تنتهي عندها، فالتحديات التي نواجهها، وخاصةً في مجال الحد من الانبعاثات الكربونية، والتوسع الحضري، والتحول الرقمي، تمثل تحديات مشتركة تتطلب جهوداً مشتركة لإيجاد حلول مناسبة لها.
لذلك اخترنا إطلاق مركز قطارات الاتحاد للابتكار (ERIC) خلال فعاليات معرض «جلوبال ريل 2025»، الحدث الأبرز عالمياً في قطاع السكك الحديدية والذي جمع قادة القطاع من جميع أنحاء العالم، لنوجه رسالة واضحة: اجعلوا من هذا المركز منطلقاً لأفكاركم، ومشاريعكم التجريبية، وشراكاتكم المستقبلية.
بالطبع، الابتكار ليس هدفاً بحد ذاته، وإنما وسيلة لتحقيق غايات محددة. بالنسبة لنا تتمحور أولوياتنا حول خمسة محاور رئيسية، تشمل الاستدامة، والسلامة، وتحسين تجربة العملاء، وتعزيز الكفاءة، والتحول الاقتصادي.
وفي هذا السياق، نخضع كل مشروع نعمل عليه لمجموعة من المعايير الصارمة لضمان توافقه مع أهدافنا. وتشمل هذه المعايير تقييماً دقيقاً لمدى مساهمته في خفض الانبعاثات، وتعزيز معايير السلامة أثناء الرحلات، وتحسين تجربة الركاب، وقدرته على تخفيض الكلف التشغيلية وخلق قيمة اقتصادية واجتماعية مستدامة.
تتخطى أهمية قطاع السكك الحديدية مجرد كونه وسيلة نقل، فهو يرتكز على مبدأ الثقة المتمثلة في ثقة الأفراد في الحصول على رحلات موثوقة، آمنة، وميسورة الكلفة، وكذلك ثقة الشركات التي تعوّل على كفاءة شبكة خدماتنا اللوجستية، وهو ما أصبح واقعاً ملموساً بفضل جهودنا. وأخيراً، ثقة الحكومات التي تعتبر السكك الحديدية محركاً أساسياً للتنمية الاقتصادية. ومن وجهة نظري، تُعد الثقة الثمرة الأسمى للابتكار.
* الرئيس التنفيذي لشركة قطارات الاتحاد
0 تعليق