بسام عبد السميع يكتب: إشراقنا على قدر صفاءنا الداخلي - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الجمعة 10 أكتوبر 2025 | 07:11 مساءً

بسام عبد السميع

بسام عبد السميع

بسام عبد السميع

﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ - سورة الرعد : الآية 4.

تعد هذه الآية من أبرز مواضع الإعجاز في كتاب الله - وكل آياته موضع إعجاز - إذ ترسم صورة دقيقة للسنن الكونية كما تنعكس في السنن الروحية.

فهي مشهد طبيعي بسيط في ظاهره، لكنه خريطة دقيقة لقانون التنوع في الخلق. فيها علم وإشارة عرفانية وحكمة تربوية متداخلة.

يقول المفسرون الأوائل (الطبري ، القرطبي، ابن كثير): إن الله تعالى يلفت الأنظار إلى اختلاف الأراضي رغم تقاربها. و"قطع متجاورات" أي أراضٍ متلاصقة متقاربة الحدود، لكنها متباينة في الإنبات: هذه تُنبت خصبًا، وتلك تبقى قاحلة، رغم أن المطر واحد.

وأما قوله تعالى :"وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان". أي بساتين مختلفة الثمار، فمن النخيل ما يخرج من أصل واحد (صنوان)، ومنها ما تفرّق في جذوره (غير صنوان).

ثم تأتي الجملة الجامعة: "يُسقى بماءٍ واحدٍ ونفضل بعضَها على بعضٍ في الأكل".. إنه تصوير بديع للتنوع في ظل الوحدة. فالماء واحد، لكن الثمر يختلف؛ لونًا وطعمًا ورائحةً وخصبًا. فهي صورة لقدرة الله على إظهار الكثرة من الواحد، وتصريف الأسباب على وجهٍ لا يُدرك إلا بعين الحكمة.

تأخذ الآية بعدًا أعمق عند المفسرين المتأملين مثل الرازي ، الأصفهاني ،الغزالي، وأبوحيان التوحيدي: الأرض هنا رمز للإنسان، والتربة هي القل، فكما أن الأرض تختلف خصوبتها، كذلك القلوب تتفاوت في استقبال الوحي.

الماء في الآية هو المعرفة الإلهية (الوحي) التي أرسل للناس جميعا، لكن الثمر- العمل- يختلف بحسب صفاء النفس واستعدادها. فالناس جميعًا يُسقون من ماء واحد من فيض الله، لكن الاستجابة تختلف، فمنهم من يُثمر صلاحًا وشكرًا، ومنهم من لا يُخرج إلا شوكًا وجدالًا.

أما العارفون بالله كابن عربي والسهروردي، فيرون في هذه الآية قانون الفيض الإلهي الذي يشرح العلاقة بين الحق والخلق.

يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: تتنوع الثمار على وحدة الماء، كما تتنوع المعارف على وحدة الحق، فليس التفاوت في النور، ولكن في القلوب التي تتلقاه.

ويقول السهروردي في كتابه حكمة الإشراق: الأنوار العليا تفيض على القوابل، فكل يشرق على قدر صفائه.

فالماء في الآية هو النور، والأرض هي القلوب، وكل إنسان يشرق بقدر صفائه الداخلي. فالنور لا يتغير، لكن المرآة إما أن تعكسه نقيًا، وإما أن تشوّهه غبار النفس والأنانية.

وتطرح الآية سؤالًا جوهريًا لكل واحد منا : هل قلبي أرض خصبة تُثمر إذا سُقيت؟ أم قاحلة مهما نزل عليها المطر؟

إن الآية لا تتحدث عن الآخرين، بل تعيد الإنسان إلى ذاته، إلى نوع التربة التي يحملها في صدره. فمن هيأ قلبه للحق أزهرت فيه الهداية، ومن تركه قاسيًا لم يُنبت إلا الغفلة.

هكذا نعود إلى الحكمة الخالدة: إشراقنا على قدر صفائنا الداخلي، فالله يفيض نوره على الجميع، لكن القلوب لا تعكس النور إلا بقدر ما تطهّرت من الكدر.

إن في كل إنسان أرضًا عطشى تنتظر مطر الرحمة، وقلبًا يمكن أن يغدو جنةً إذا سُقي بماء الصدق ونور الإخلاص.

ومن وعى هذا السر علم أن الاختلاف ليس ظلماً في القسمة، بل عدلٌ في توزيع النور، وأن الله واحدٌ في فيضه، متعدّدٌ في تجلياته، وأن ما على الأرض إنما هو مرآةٌ لما في القلب.

حقًّا: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

0 تعليق