كتب يوسف الشايب:
قد تجد الأرض المقدسة مُصوّرة ببراعة تحبس الأنفاس على جدران الكنائس وصالات العرض في جميع أنحاء أوروبا، لكن بالنسبة للفنانة الفلسطينية ديما سروجي، فإنها ببساطة وطنها، ومكان ذكريات الطفولة، "الجيدة والسيئة على حد سواء".
معرضها "كوزموغرام المشاهد المقدسة" (A Cosmogram of Holy Views)، وافتتح، أول من أمس، في غاليري "آب آنبار" في العاصمة البريطانية، لندن، ويستمر حتى 29 تشرين الثاني المقبل، كان نتاج أبحاث استمرت عقداً في التراث المعماري للمسيحيين الفلسطينيين، وتجربة حياة بأكملها تحت الاحتلال الإسرائيلي.
يكمن في صميم المعرض ما تصفه الفنانة بأنه "التنافر المعرفي" بين نظرة العالم الخارجي إلى وطنها و"الواقع على الأرض"، والذي صورته بصراحة هادئة، على حد توصيف مقال في موقع "جريدة الفن" (The Art Newspaper)، ففي أعمال ذات قوة بصرية كبيرة، تُقابِل بين الأسطورة والواقع، فمن خلال استخدام بارع لوسائط متعددة: صور "بولارويد" الفورية من تسعينيات القرن الماضي، ولوحات "بريديلا" من عصر النهضة، بالإضافة إلى قطع من الزجاج المنفوخ والحجر المنحوت والشمع المصبوب صُنعت يدوياً في فلسطين، تداعب سروجي باستمرار كوميديا سوداء سريالية.
ثمة سلسلة من الكولاجات المصنوعة من الزجاج الملون، تتراكب لوحات أوروبية مع مشاهد من الحياة الحديثة في فلسطين، ففي عمل "عودة إلى الناصرة"، تشكل اللوحات الجدارية الفخمة لعودة العائلة المقدسة إلى ديارها بعد مذبحة الأبرياء التي ارتكبها هيرودس، خلفية لصورة من طفولة سروجي نفسها في المدينة، حيث يظهر جلد الفنانة الرضيعة وهو يتحول إلى اللون الأرجواني بسبب نقص الهواء، في حرب الخليج الأولى، عندما لم يُمنح سوى عدد قليل من الأطفال الفلسطينيين أقنعة واقية من الغاز.
تستلهم أعمال أخرى من توثيق سروجي الدقيق للتراث الفلسطيني، من محاجر الحجر، وصُنّاع الصدف، والكنائس التي لم تُبنَ، وهو تراث تصفه بأنه لم يحظَ بالدراسة الكافية.. واليوم، وبعد مرور عامين على حرب الإبادة في غزة، وفي ظل وقف إطلاق النار الذي لم يُختبر بعد، لا يزال هذا التراث في خطر.
على الرغم من استمرار ازدهار الصناعات الحرفية في الضفة الغربية الفلسطينية، إلا أن ممارسات الحرفيين الفلسطينيين قد تغيرت بفعل عقود من العنف والاحتلال، فتقليدياً، كانوا يستخدمون الصدف، الذي يُجلب من البحر الأبيض المتوسط، لصنع صناديق لحفظ المقتنيات المقدسة للكنائس حول العالم.
واستخدمت سروجي في معرضها نفس تقنيات صنع الصدف لتصميم مجسم لمنزل جديها "العادي تماماً" في الناصرة.. مستذكرة جدتها، التي نزحت مرتين بسبب الصراع، واهتمت بالمنزل بعناية فائقة، والناصرة التي تصفها بأن باتت "مدينة لا تصلح للعيش".
تُوضح قائلة: "أتلاعب بما هو مقدس"، مشيرة إلى سلسلة من المزارات الحجرية المنحوتة التي أعيد تصورها، وهي مرصعة بنقوش دائرية مضيئة من الزجاج الملون.. تُركت هذه القطع فارغة بشكل ملحوظ ومؤثر، لأنه بالنسبة لسروجي، "المقدس هو المزار نفسه، وعلى أي حال، فإن جميع الذخائر المقدسة نُهبت أو دُمّرت".
في بعض أكثر أعمال المعرض تأثيراً، بعنوان "قرابين شبحية"، يقف المتجوّل في المعرض للتأمل فيما يمكن اعتباره مُقدّساً وسط فظاعة ما يحدث في غزة، حيث يكشف الانسحاب التدريجي لقوات الاحتلال الإسرائيلي حالياً عن المزيد من الدمار.. وشعوراً منها بالعجز في مواجهة مذبحة أصدقائها وأقاربها، أمضت وقتاً في مرسمها تنحت يدوياً نماذج شمعية لوجوه وأجساد بشرية.
"هذه الأعمال هي بمثابة تحوير للتقليد العريق المتمثل في تقديم القرابين النذرية في الكنائس"، لكنها هنا "قرباني الخاص لأهل غزة"، وقد أُعيد إنتاجها بتقنية ثلاثية الأبعاد باستخدام برامج التصوير المساحي، بعضها مستوحى من أجزاء من جسدها، لكن البعض الآخر يمثّل الأطراف مبتورة لأطفال استشهدوا في غزة، وتجاوز عددهم العشرين ألفاً.
"إنه الشيء الوحيد الذي حافظ على سلامة عقلي خلال أشهر الإبادة الجماعية هذه"، مضيفة دون تردد: "ملمس الشمع يشبه ملمس الجلد.. هناك شيء دافئ فيه".
ربما تكون لعنة الفنان الفلسطيني، اليوم، أن يتعايش عن قرب مع الموت، لكن أعمال سروجي هي تأكيد إيجابي على وجود مجتمعها العريق وتراثه.. "إنها تتمحور حول الحياة الفلسطينية أكثر بكثير ممّا تتمحور حول الموت الفلسطيني".
0 تعليق