جيل تيك توك: نهاية الأيديولوجيا أم تحولها؟ - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في نقاش مع بعض الأصدقاء، أغلبهم مفكرون وكتاب عايشوا حقبات من الوعي العربي، كان للقومية العربية صدى في النفوس عظيما، أقرّ معظمهم أن زمن الأيديولوجيا قد ولى بلا رجعة. شخصيًا لم أشعر يومًا بالانتماء الفكري إلى أي منظومة أو جماعة أو حزب، ولم أقتنع بأن الثقافة توجب موقفًا نابعًا من فكرة معينة تختصر الرؤية إلى الحياة.

ربما هذا هو السبب في أني أتقبل جيل تيك توك -أسميه هكذا اختصارًا لمرحلة وعي ظهر فيها تيك توك بقوة وسيطر على واقع الشباب- وربما لذلك لم أشعر بأي خسارة إن كانت الأيديولوجيا قد ماتت، لكني سألت نفسي: هل ذلك ممكن؟ هل تيك توك أيديولوجيا معاصرة؟

لا تحاول هذه المقالة إعطاء جواب نهائي وصريح لأني لا أمتلكه، إنما هي مقاربة شخصية وقراءة خاصة للحاصل، أستعرض فيها أطروحة نهاية الأيديولوجيا باختصار وأثر ذلك على الأفراد والجماعات.

هل انتهت الأيديولوجيا؟

يُشاع في الأوساط الأكاديمية أن الأيديولوجيات الكبرى قد انتهت أو على الأقل فقدت قدرتها على التعبئة التي كانت تملكها في القرن الـ20. لكن، ما المقصود بهذا القول؟ وهل الواقع المعاصر، في زمن تيك توك، يدعم هذا الزعم أم يرفضه؟

في الستينيات من القرن الماضي، رأى المفكر دانيال بيل في كتابه "نهاية الأيديولوجيا"، أن الحركات الكبرى كالشيوعية والقومية والاشتراكية الثورية قد استنزفت طاقتها الفكرية، وأن المجتمعات الحديثة باتت تحركها سياسات براغماتية وإصلاحات صغيرة لا مشاريع كبرى. بعد ذلك، ظهرت ردود تقول إن الأيديولوجيا لم تمُت، بل تحوّلت: من أنظمة متكاملة إلى أيديولوجيات جزئية أو ثقافية تُمارَس داخل الثقافة الشعبية والإعلام والتكنولوجيا.

جدد بعض الباحثين خلال العقدين الأخيرين الاهتمام بالأيديولوجيا من زاوية علم النفس السياسي، مؤكدين أن الأفراد يميلون إلى عناوين وممارسات أيديولوجية حتى وإن لم يدركوا ذلك، ربما لأن الأيديولوجيا "هي وعي الجماعة لذاتها… بمعنى أنها تدافع عن مصالحها الخاصة". فهل يمكن أن صورتها تبدلت كما تبدلت صور الكثير في عصرنا؟

Woman surfing on TikTok. Popular social media app TikTok. Afyonkarahisar, Turkey - February 18, 2023.
في تيك توك يُرفع فيديو من 30 إلى 60 ثانية يعبر عن موقف سياسي أو نقد اجتماعي أو هاشتاج بدل أن يُكتب مقال طويل (شترستوك)

جيل تيك توك والأيديولوجيا الرقمية

مع صعود جيل جديد يعيش في فضاء رقمي مغمور بالصورة السريعة والمقطع القصير، يبدو السؤال هزيلا والإجابة جلية، لكن يحق لنا ونحن نتابع هذا الجيل أن نتوقف قليلا عند بعض ممارساته ونفسرها لنسأل: هل يعيش جيل تيك توك بالفعل خارج الأيديولوجيا؟ أم أنه يعيش تحولات جديدة لم نعتد قراءتها؟

إعلان

في هذا السياق، يمكننا تتبع 4 سمات رئيسية تبرز كيفية تعامل هذا الجيل مع الأفكار والقيم:

الأيديولوجيا في زمن السرعة

الأيديولوجيا، في تعريفها الكلاسيكي، منظومة أفكار شاملة تفسر العالم وتوجه الفعل السياسي والاجتماعي، وهي كما يشير الدكتور عفيف عثمان "عبارة عن نسق من الأفكار، وهو وعي الجماعة لذاتها ولمصالحها، لذلك لا تنتهي الأيديولوجيا طالما هناك صراعات اجتماعية".

وطالما أن الأمر كذلك، فنحن في واقع أيديولوجي مختلف. مع جيل تيك توك، لا نجد خطابات مطولة أو كتبًا فلسفية تتداول، بل مقاطع لا تتجاوز ثوانٍ، محملة بالرموز والإشارات الساخرة، أو مشاهد التضامن والتحدي والرفض.

ألا يدخل ذلك ضمن صيرورة الأيديولوجيا كتعبير وجودي عن الجماعات المختلفة والجماعة الإنسانية الكلية وتفاعلاتها وصراعاتها؟ ربما اختفى الحزب والشعار الكبير والخطب الرنانة، ولكن ظهر الهاشتاج.

من العقيدة إلى المزاج

يهتم جيل تيك توك بقضايا الهوية والبيئة والعدالة الاجتماعية والحرية، ويعبر عن انتمائه إلى تلك القضايا بما يمكن أن نطلق عليه "السيولة الرقمية"، التي لا تثبت نفسها في خطاب ثابت، بل ربما هي قادرة على التحول والتشكل اللحظي من دون قيد أو شرط أو شعور بضرورة الانتماء العقائدي.

على العكس، ربما يحاول أن يتجنب أو يرفض النماذج والأطر، ويكتفي بدينامية القضية وتماسها مع اللحظة الراهنة. يتضح هنا أن الأيديولوجيا التقليدية تحولت إلى شبكة من المواقف اللحظية، تلتقطها خوارزميات وتعيد تدويرها بصيغ بصرية مؤثرة.

قوة الصورة وضعف البنية

قديمًا كانت الأيديولوجيا تبني مشروعًا طويل الأمد، أما جيل تيك توك فيختبر الأثر الفوري. كيف؟ إن مقطع فيديو قصيرًا قادر على تحريك الرأي العام أكثر من كتاب نظري.

صحيح قد يكشف هذا -مقارنة بالماضي وصلابته- ضعف البنية العميقة، لكنه يبرز قوة التعبئة اللحظية. وهنا المفارقة: الأيديولوجيا تتحول من مشروع تاريخي إلى موجة رقمية، ومن خطاب شامل إلى فلاش عاطفي يعيد تشكيل الوعي لحظة بلحظة.

روح شبابية أم ميوعة قيم؟

يفضل الشباب اليوم الفيديو القصير والمحتوى الفوري. في تيك توك، يُرفع فيديو من 30 إلى 60 ثانية يعبر عن موقف سياسي، أو نقد اجتماعي، أو هاشتاج، بدل أن يُكتب مقال طويل. يستخدم الشباب اليوم رموزا كـ"الميمز"، يطلقون النكات ويسخرون بقسوة وتمكن عجيب من كل شيء تقريبًا: من عادات الأهل، من السياسيين، من رومانسية بعض المشاهير.

أما التحديات فتبدو أحيانًا أدوات للتعبير السياسي والثقافي ومساحة أيديولوجية "من أسفل"، أقل رسميًا وأكثر شبابية. تُصوَّر المواقف ضمن تضامن مؤقت، مثل دعم قضية إنسانية، أو رفض حقوق معينة، أو نقد حالة سياسية، ومن ثم تدور عجلة البحث و"اللايك" وتُتبنى مواقف جديدة. الجدير بالملاحظة أن هذا الجيل يرفض الحرب، ويقطع الروابط مع اليمين واليسار، فهويته تحررية وغير قابلة لأن تكون منظومة.

A 3-D printed figures are seen in front of displayed Tik Tok logo in this picture illustration taken November 7, 2019. Picture taken November 7, 2019. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration
جيل تيك توك لا يعيش الأيديولوجيا كنسق مغلق بل كفضاء مفتوح وسريع ومتشظٍ (رويترز)

آثار هذا التحوّل على الفرد والجماعة

الهوية اليوم هي هوية القضايا: أكون مع المرأة هنا، ومع الحرية هناك، وليس مع حزب عام. ربما يزيد هذا من حالة التشتت والضغوط النفسية لدى الفرد، فالخيارات كثيرة والمفاهيم تتغير. الخطر قد يكمن في أثر ذلك على الكل، كظهور حركات مؤقتة، شبابية، غير مركزية، تعمل عبر الإنترنت أولا ثم تنتقل إلى الشارع، والربيع العربي أحد أمثلة ذلك الواضحة.

إعلان

كما يكمن الأثر الجمعي في تحويل الصراع إلى صراع قضايا متقاطعة كالهوية والبيئة والمساواة، يستهدف الشباب ويغذي بمقطع فيديو شعور حرية النقد السياسي، من دون أن يحمل رؤية تطور أو برنامجًا هادفًا وحلولًا للقضايا المصيرية المعاصرة. وهذا قد يندرج في إطار "كي الوعي".

لقد انكسرت الأطر التقليدية للأيديولوجيا، لكن جوهرها، أي جوهر الحاجة الإنسانية إلى تفسير العالم وإعادة صوغ العلاقات الاجتماعية، لا يزال قائمًا. الفرق أن جيل تيك توك لا يعيش الأيديولوجيا كنسق مغلق، بل كفضاء مفتوح وسريع ومتشظٍ، يضعف في العمق لكنه يتضاعف في الانتشار والتأثير اللحظي.

الأيديولوجيا لم تُلغَ، لكنها تحوّلت إلى مرجعية جزئية تُمارس ضمن الثقافة الرقمية. في زمن تيك توك، قد يكون الموقف أسبق من المشروع، والهاشتاج أقوى من الشعار الكبير.

ما يحتاجه جيل اليوم، وهو قادر على التعبير عن قيمه ببلاغة وذكاء وإمكانيات تكنولوجية سهلة ومتوافرة، هو رصّ هذه القيم في حياتنا اليومية: الحرية، العدالة، الكرامة، كممارسات تعكس نقيض الصورة النمطية لماضي الأيديولوجيا الجامد، الذي صنع قوالب فكرية سحقت حين هوت جيلا ممن آمن بها، وكسرت عظامه.

0 تعليق