عاجل

لبنان.. راشيا الوادي بلدة الحنين والجمال تروي ذاكرة الجبل - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

راشيا الوادي- عندما تصل إلى تخوم جبل الشيخ في لبنان ويبدأ الضباب بالتسلل من بين أشجار الصنوبر تشعر أنك تقترب من مكان يعرف كيف يدهشك بهدوئه.

هناك، عند بوابة البقاع الشرقي تستقر بلدة راشيا الوادي كأنها مشهد من رواية قديمة تروي للزائر حكايات الحرية والكرم والجمال.

ليست مجرد بلدة لبنانية، بل ذاكرة حية في حضن الجبل توازن بين عبق التاريخ وسحر الطبيعة، وتجمع في طابعها بين روح القرية وبساطة الحياة وجمال المشهد.

موسم فرح وذاكرة

في أكتوبر/تشرين الأول تتحول راشيا إلى ساحة من الفرح الشعبي، إنه مهرجان الدبس، الحدث السنوي الذي يجمع بين التراث والزراعة والحنين إلى الماضي.

أصناف من المنتجات الزراعية المصنعة تباع بالأسواق
مهرجان الدبس ليس احتفالا زراعيا بل طقس اجتماعي يعيد الحياة إلى بلدة راشيا (الجزيرة)

في هذا اليوم تمتلئ الأسواق القديمة بالزوار، وتعلو رائحة عصير العنب المطبوخ فوق النيران، وتُرفع الأعلام اللبنانية ويظلل أكبر علم لبناني السوق الأثري، في مشهد رمزي يجمع بين الفخر والانتماء.

المهرجان ليس احتفالا زراعيا فحسب، بل طقس اجتماعي يعيد الحياة إلى البلدة، حيث يلتقي المزارعون والحرفيون والزوار في جو من الفرح المشترك، فالعنب في راشيا ليس موسما عابرا، بل مصدر رزق وهوية لأسر لا تزال تحافظ على معاصره القديمة باعتبارها جزءا من تراثها الحي.

تعزيز السياحة الريفية

وضمن مساعي لبنان لتعزيز السياحة الريفية تبرز راشيا بمثابة نموذج رائد في السياحة الزراعية، إذ تجمع بين الزراعة والحرف التراثية والطبيعة الخلابة.

منتجات العسل توزع بالمهرجان
تبرز راشيا بمثابة نموذج رائد في السياحة الزراعية إذ تجمع بين الزراعة والحرف التراثية (الجزيرة)

الزائر هنا لا يكتفي بالمشاهدة، بل يشارك في التجربة، يقطف العنب ويصنع المربى، أو يتعلم طريقة صناعة الصابون البلدي في ورش صغيرة.

وهكذا، تتحول الزيارة إلى رحلة اكتشاف وتفاعل تعيد إلى الريف مكانته في خريطة السياحة اللبنانية، وتنعش الاقتصاد المحلي عبر تمكين المجتمعات الريفية من استثمار مواردها.

بلدة التاريخ والطبيعة

تاريخ راشيا لا يُروى بالحجارة فقط، بل بالكرامة التي سكنت جدرانها، ففي قلعة راشيا وُلد فجر استقلال لبنان عام 1943 عندما اعتقلت القوات الفرنسية الزعماء اللبنانيين فيها، قبل أن تتحول تلك اللحظة إلى رمز وطني خالد.

تجمع نسائي لتسويق المنتجات الزراعية
تجمّع نسائي لتسويق الأطعمة المصنعة محليا في راشيا (الجزيرة)

واليوم، يقف الزائر أمام القلعة فيرى أكثر من مجرد أثر حجري، بل بوابة لذاكرة وطن، ومن على أسوارها تمتد بانوراما آسرة من جبل الشيخ المهيب إلى سهول البقاع الرحبة، حيث يلتقي التاريخ بالطبيعة في مشهد لا يُنسى.

إعلان

راشيا محاطة بتلال خضراء، تفترشها غابات الصنوبر والبلوط، وتخترقها ينابيع باردة كأنها خيوط فضة تجري على مهل.

وفي الربيع، تكتسي الأرض بأزهار برية ملونة، في حين تتلون أوراق الخريف بالنحاس والعنبر، فتغدو البلدة لوحة من إبداع الخالق.

هنا لا يحتاج الزائر سوى أن يمشي في دروبها الهادئة، ليكتشف الوادي الذي يحمل اسمها، حيث يمكن أن يسمع موسيقى الطبيعة في خرير المياه وهمس الريح بعيدا عن ضجيج المدن.

أما عشاق المغامرة فيجدون في راشيا مقصدا مثاليا للمشي الطويل (الهايكينغ)، أو لركوب الدراجات الهوائية على الطرق الريفية التي تحيط بها بساتين الزيتون والكروم، وتُفتح أمامهم مشاهد لا تُنسى عند الغروب.

التراث ودفء الناس

في قلب البلدة القديمة تتناثر البيوت الحجرية ذات الأسقف الحمراء كأنها قصائد من الطين والحجر، أزقة ضيقة مرصوفة بالحصى، وشرفات مقوسة تعكس هندسة تقليدية صمدت في وجه الزمن.

تنتشر في محيط البلدة نُزُل صغيرة
تنتشر في محيط البلدة نُزل صغيرة ذات أسقف حمراء تقدم إقامة بسيطة ومريحة لعشاق الهدوء (الجزيرة)

وفي السوق الأثري القديم تمتزج رائحة الزعتر الجبلي برائحة الخبز المجهز على الحطب، وتستقبلك محال صغيرة يملؤها دفء البساطة.

وهنا يُعرض المربى المنزلي والعسل الطبيعي والدبس وصابون الغار كأن كل منتج يحمل بصمة عائلة وأرض.

أما أهل راشيا فهم فصل آخر من الجمال، يُعرفون بكرمهم وودهم، يفتحون بيوتهم للغرباء كما لو أنهم أبناء البلدة، وفي مقاهيها الجبلية الصغيرة يمكن أن تحتسي فنجان قهوة وأنت تشاهد الغروب خلف جبل الشيخ، فيما يروي لك أحد الشيوخ قصة من أيام الحرب أو من زمن كانت فيه راشيا تعج بحقول العنب.

هذا الطعام جزءمن المطبخ التراثي
هذا الطعام جزء من المطبخ التراثي حيت تمتزج رائحة الزعتر الجبلي برائحة الخبز المجهز على الحطب (الجزيرة)

بين الراحة والحنين

الإقامة في راشيا ليست مجرد مبيت، بل تجربة ريفية أصيلة، فبيوت الضيافة القديمة تم ترميمها بعناية لتبقى وفية لذاكرة المكان، وتمنح الزائر شعورا بالدفء العائلي وسط الطبيعة.

كما تنتشر في محيط البلدة نُزل صغيرة تقدم إقامة بسيطة ومريحة لعشاق الهدوء الذين يبحثون عن انقطاع مؤقت عن صخب الحياة اليومية، مقابل مشهد صباحي يطل على الضباب المتسلل من بين الجبال.

من المطبخ إلى الذاكرة

لا يمكن أن تمر ببلدة راشيا دون أن تختبر مطبخها، فهنا الطعام جزء من التراث، على المائدة تقدم التبولة والكبة النية والمشاوي والمناقيش المخبوزة على الحطب.

فنجان قهوة يروي تفاصيل اللقاء الدافئ بمهرجان راشيا
فنجان قهوة يروي تفاصيل اللقاءات الدافئة في مهرجان راشيا (الجزيرة)

أما الحلويات فهي قصة أخرى، فالمعمول بالقشطة والعسل البقاعي يحملان نكهة الأمهات وجدّات القرية، ويقدم غالبا مع فنجان قهوة يروي تفاصيل اللقاءات الدافئة، كل طبق هنا يحكي عن أرض خصبة وناس عاشوا على الكرم والجهد والرضا.

بين الماضي والحاضر

راشيا ليست مجرد محطة في رحلة البقاع اللبناني، بل تجربة إنسانية وجمالية، فيها يلتقي التاريخ بالحياة اليومية والمشهد الطبيعي بالذاكرة الوطنية، إنها البلدة التي تذكرك بأن لبنان رغم ما مرت به من أزمات فإنه لا يزال يحتفظ بوجهه الجميل، وجه الجبل الذي لا يفقد ابتسامته.

من يقصدها مرة يعود إليها مرات، لأن في كل زاوية منها حكاية، وفي كل نافذة تطل على الوادي وعد بجمال لا يزول.

إعلان

0 تعليق