لئن مثّلت معركة حطين لحظة الانكسار الكبرى للمشروع الصليبي في المشرق، وكسرت شوكته العسكرية وأسقطت هيبته الميدانية، ففتحت الطريق واسعا أمام المسلمين لاستعادة القدس بعد احتلال طويل، فإن المشهد لم يكتمل إلا بفتح عكا، الضربة الأخيرة التي أزالت الوجود الصليبي من جذوره، وأسدل بها المماليك الستار على قرنين من الصراع الدامي.
وبين حطين الأولى وعكا التي يمكن وصفها بحطين الثانية تتشكّل ثنائية حاسمة، الأولى كانت المعركة التي فجّرت التحوّل الإستراتيجي، والثانية كانت النهاية التي طوت صفحة الحملات الصليبية في بلاد الشام إلى غير رجعة، لتبقى في الذاكرة الإسلامية عنوانا لانتصار الإرادة على الغزو والتقسيم.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listوقد شهدت بلاد الشام خلال القرنين اللذين أعقبا الاحتلال الصليبي مآسي متلاحقة؛ فقد سُفكت الدماء، وانتُهكت الحرمات، وخضع المسلمون لقوة غريبة عن أرضهم، لكن جذوة المقاومة لم تخمد، فقد بدأ خطها الأول مع السلاجقة وأتابكتهم من بني بوري، ثم مع الدولة الزنكية التي برز فيها عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود، فشكّلوا الطليعة المنظمة للجهاد ضد الصليبيين.
وتحوّل هذا الجهاد إلى مشروع جامع مع صلاح الدين الأيوبي الذي حقق الانتصار التاريخي في حطين واستعاد القدس، غير أن وفاته أفضت إلى تراجع نسبي وتوقف لزخم الاسترداد، لكن المقاومة عادت مع المماليك الذين حملوا راية استكمال المهمة، فانتزع الظاهر بيبرس العديد من الحصون الساحلية، وتابعه المنصور قلاوون، إلى أن جاء ابنه الأشرف خليل بن قلاوون فأنهى آخر وجود صليبي كبير في بلاد الشام بإسقاط مملكة عكا.
" frameborder="0">
عكا.. القلعة الأخيرة للصليبيين
أما القرار الحاسم بمهاجمة عكا فقد اتخذه المنصور قلاوون نفسه، مدفوعا برعونة الصليبيين الذين كثَّفوا هجماتهم على القرى الإسلامية القريبة ونقضوا العهود المبرمة مع المماليك، ورغم تحذيرات كبار الأمراء المماليك الذين دعوه للتريث نظرا لحصانة المدينة، والإمدادات البحرية الأوروبية التي كانت تصل إليها بانتظام، أصرّ قلاوون على موقفه، وجمع قواته واستعد لمعركة فاصلة، لكن الأجل لم يمهله، فقد وافته المنية في معسكره خارج القاهرة في أوائل ذي القعدة سنة 689هـ، قبل أن يرى بعيونه لحظة سقوط آخر المعاقل الصليبية الكبرى في ديار الإسلام.
إعلان
وقد عاشت مدينة عكا قبل سقوطها في يد الأشرف خليل بن قلاوون سنة 693هـ/1294م وضعا استثنائيا في تاريخ الحروب الصليبية، حيث تحولت إلى مركز احتضان أخير لبقايا الصليبيين الذين توافدوا إليها من أنطاكية وطرابلس وبقية الحصون والمدن التي استعادها المسلمون، وقد شكَّل هذا الخليط من الفارين ما عُرف آنذاك بـ"قومون عكا"، أي كيان يتمتع بحكم شبه ذاتي داخل المدينة، حيث ضمّ مختلف الطوائف العسكرية الصليبية وقتئذ من الداوية (فرسان الهيكل)، والاسبتارية (فرسان القديس يوحنا)، والتيوتون (الفرسان الألمان)، وجعل من المدينة قلعة مكتظة لكنها غارقة في الانقسامات.
وكانت مملكة نابولي الإيطالية قد سيطرت على عكا ردحا من الزمن، حيث انتقلت تبعيتها بين أمراء صليبيين حتى سنة 685هـ، وحكمها في تلك المرحلة ملوك من أسرة أنجو الفرنسية (Ango)، لكن وفاة صاحب عكا وعدم وجود وريث مباشر له، مع بُعد مركز حكم نابولي عن المشرق الإسلامي، فتح الباب أمام ترتيبات جديدة، إذ جرت مفاوضات سياسية معقدة بين مملكة صقلية والطوائف العسكرية التي هيمنت على الحياة السياسية والعسكرية في المدينة، وانتهت إلى أن تصبح عكا تابعة لملك صقلية هنري الثاني لوزجنان.
وبالفعل دخل هنري المدينة في جمادى الأولى سنة 685هـ/1286م، حيث استُقبل استقبالا مهيبا يليق بملك ثري ذي مكانة أوروبية، واحتفى به السكان والطوائف على أمل أن يمنح المدينة استقرارا سياسيا وعسكريا بعد سنوات من الاضطراب، لكن سرعان ما ظهرت الخلافات الداخلية بين تلك الطوائف العسكرية نفسها، وكشف هنري الثاني عن ضعف في القيادة وتردد في القرارات، مما أضعف هيبة الحكم وأعاد الانقسام إلى قلب القلعة الأخيرة للصليبية في المشرق، وهو ما يرصده ستيفن رانسيمان في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية".
" frameborder="0">
الطريق إلى عكا
شهدت مدينة عكا سلسلة من المحاولات المملوكية لاستردادها، بدأت منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس مرورا بخلفه السلطان المنصور قلاوون، غير أن المنصور وافته المنية في معسكره خارج القاهرة وهو يهيئ العدّة لحصار عكا وفتحها، ومع تولي ابنه الأشرف خليل بن قلاوون (ت 693هـ) زمام الحكم، أخذ على عاتقه استكمال ما بدأه والده.
وكان أول ما قام به الأشرف إعلان مجلس حرب كان لا يُعقد إلا في الملمات الكبرى، وكما يذكر المقريزي في تاريخه "السلوك" فقد "جمع الأشرف العلماء والقضاة والأعيان والقراء بالقبة المنصورية بين القصرين من القاهرة عند قبر أبيه، في ليلة الجمعة الثامن عشر من شهر صفر (690هـ)، فباتوا هناك في عمل مُهمّ (مجلس حرب) عظيم". هذا المشهد منح الحملة غطاء شرعيا ودينيا واسعا، وربط بين الذاكرة الأيوبية ومشروع التحرير المملوكي.
بعد ذلك أعلن الأشرف خليل النفير العام في مصر والشام، وأمر بتعبئة العساكر والأسلحة من مختلف الولايات والنيابات المملوكية، حيث شارك في الحملة أمراء وأعيان بارزون، من بينهم الملك المؤيد صاحب حماة وكان وليا للعهد وقتئذ لمدينة حماة، الذي كانت رتبته العسكرية آنذاك "أمير عشرة".
وقد دوّن في تاريخه "المختصر في أخبار البشر" تفاصيل عن مشاركة إمارة حماة بقيادة والده الملك المظفر بن المنصور الأيوبي (ت 698هـ)، التي أمدّت الجيش المملوكي بمنجنيق ضخم عُرف بالمنصوري، كان يُجر على مئة عجلة، ما اضطر الجيش الحموي إلى تفكيكه إلى مئة قطعة، ويذكر الملك المؤيد أن نصيبه مع أجناده العشرة لم يتجاوز عجلة واحدة، استغرق جرّها شهرا كاملا، في دلالة على ضخامتها وتعقيد الآلات الحربية في تلك المرحلة.
إعلان
كما يورد الأمير والمؤرخ بيبرس المنصوري في تاريخه أنه كان يتولى حينها إمارة الكرك، وحين بلغه خبر الحملة وأوامر السلطان بتجهيز الآلات العسكرية اللازمة، كتب إلى الأشرف خليل مستأذنا بالمشاركة، وقال في وصف تلك اللحظة: "كنتُ حينذاك بالكرك، فلما بلغني أمر هذه الغزاة، ووردت عليّ مراسم السلطان بتجهيز الزردخانات والآلات، تاقت نفسي إلى الجهاد… فطالعتُ السلطان بذلك، وسألته أن أصير إلى هنالك لأساهم في ثواب الغزو وأشارك فأذن لي في الحضور… فجهّزتُ من الزردخانات المانعة والآلات النافعة والرجال المجتهدين والرماة والحجّارين والغزاة والنجّارين، وتوجّهت مُلاقيًا للسلطان وقد وصل إلى غزة… وسرتُ في ركابه إلى عكا".
كان الأشرف خليل يقود الحملة بيد من حديد، إذ تولى بنفسه مراقبة كل التفاصيل، واعتقل بعض الأمراء الذين ساوره الشك في ولائهم، خوفا من حدوث غدر أو خيانة، وفي المقابل اعتمد على نخبة من القادة المخضرمين من أصحاب الخبرات الكبيرة سابقا من الأمراء الصالحية الذين تمرسوا في ميادين القتال منذ خدمتهم في عهد الأيوبيين والسلاطين المماليك في جبهات عسكرية مختلفة أثبتوا فيها نجاحا ساحقا.
أما من حيث الإعداد العسكري، فقد تميزت حملة الأشرف بتجهيزات استثنائية؛ إذ أمدّ جيشه بمختلف أنواع الأسلحة المعروفة آنذاك، وكان التركيز على المنجنيقات التي وُصفت بأنها الأكبر عددا في تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي، فقد ذكر المؤرخون أن عددها بلغ 72 منجنيقًا، بينما رفع بعضهم الرقم إلى 92، وشملت أنواعا مختلفة، هذا الحجم الضخم من الآلات الحربية يعكس شدة الحصار الذي فُرض على المدينة، ويؤكد أن الأشرف خليل أصرّ على إنهاء الوجود الصليبي في المشرق بضربة قاصمة.
الحصار والدك!
لم تكن حملة الأشرف خليل مجرد تحرك عسكري تقليدي، بل أقرب ما تكون إلى مشروع وطني شامل جرى فيه استنفار مختلف الطاقات البشرية والمادية، فالمهندسون والأطباء والبناؤون والحجّارون، ومعهم الصناع من شتى الحرف انضموا إلى الجيش بوصفهم قوات مساندة، في صورة تعبّر عن وعي الدولة المملوكية بضرورة تعبئة فئات المجتمع كله خلف مشروع التحرير؛ ولأن البحر كان دائما ميدانا حاسما في المعارك مع الصليبيين، حرص الأشرف خليل على إعداد قوة بحرية ضخمة، فقد جهّز أسطولا حربيا قوامه ستّون قطعة بحرية، أبرزها السفن الكبيرة التي عُرفت آنذاك بـ"الشواني"، لتكون ذراعا حاسمة في خنق عكا من البحر.
غير أن السلطان خليل لم يغفل البُعد الروحي، فكان حريصا على إشراك الناس في جوّ من التعبئة الدينية والإيمانية التي ترفع الروح المعنوية، حيث وزّع الأموال والثياب على الفقراء والقراء، وحثّ المجتمع على المشاركة، حتى وصف المؤرخ علم الدين البِرزالي في تاريخه هذه الأجواء قائلا: "وعُملت ختمة بجامع دمشق ليلة الجمعة السابع عشر جمادى الأولى، وتضرّع الناس إلى الله تعالى، واجتمعت قلوبهم، ودعا الخطيب يوم الجمعة، وفُتحت عكّا في يوم الجمعة".
هذا المناخ سمح بانخراط العامة والمتطوعين إلى جانب الجيوش النظامية، فشارك الجمّالون وأهل الأسواق وحتى العلماء والمدرسون في دفع آلات الحصار، ويصف المؤرخ والمحدِّث ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" ذلك المشهد بقوله: "جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الأول [سنة 690هـ] لتجهيز آلات الحصار لعكا، ونودي في دمشق: الغزاة في سبيل الله إلى عكا… فأُبرزت المجانيق إلى ناحية الجسورة، وخرجت العامة والمطوعة يجرون في العجَل، حتى الفقهاء والمدرسون والصلحاء… وخرج الناس من كل صوب، واتصل بهم عسكر طرابلس، وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدا عكا، فتوافت الجيوش هنالك، فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الآخر، ونُصبت عليها المجانيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها، واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها".
إعلان
وكانت التعبئة شاملة إلى حدٍّ غير مسبوق، فقد بلغ تعداد الجيش المملوكي أكثر من 160 ألف مقاتل، يضاف إليهم ستّون ألفًا من المشاة، وتنوعت مكونات هذا الحشد بين الجنود النظاميين والعناصر القادمة من القبائل العربية والأكراد والتركمان والجركس، وقد ساعد طول الفترة الفاصلة بين نقض الصليبيين للهدنة واستعداد السلطان المنصور قلاوون، منذ شوال سنة 689هـ، على تهيئة المناخ اللازم لجمع هذا الحشد الهائل من الرجال والعتاد حتى انطلق الحصار في ربيع الأول سنة 690هـ.
حين وصلت الجيوش المملوكية إلى مشارف عكا في أوائل ربيع الآخر سنة 690هـ، كان المشهد أشبه بختام قرنين من الصراع المتواصل أمام الصليبيين، فلم يعد الأمر مجرد معركة لتحرير مدينة ساحلية، بل تحوّل إلى مشروع جماعي يجسّد ذاكرة المسلمين الجمعية وما عانوه من مذلة واضطهاد ونهب وقتل وأسْر في حواضر الشام التي سيطر عليها الصليبيون.
وكما نرى عند المؤرخين العيني والمقريزي وابن كثير وأبو الفداء وغيرهم في عرضهم لتفاصيل هذه المعركة الحاسمة، فقد أحاطت القوات الإسلامية بالمدينة من جهاتها البرية، بينما بقي البحر خلف عكا يحمي ظهرها، وكما هي عادة المماليك، فقد انقسم الجيش إلى ثلاث فرق رئيسية:
الميمنة التي تولّاها الملك المظفر بن المنصور صاحب حماة، فكانت مسؤولة عن مواجهة الأسطول الصليبي في عرض البحر إلى جانب التصدي لحاميات الأسوار والأبراج، وقد شهدت هذه الجبهة أشد الاشتباكات، حتى إنّ فرسان الداوية شنّوا هجوما ليليا مباغتا عليها، لكن قوات المظفر أفشلته وأَسرت عددا من المهاجمين.
والميسرة التي قادها الأمير المخضرم بدر الدين بِكتاش، وتمركزت في الجهة الجنوبية الغربية من خليج عكا.
أما القلب ومركز العمليات فقد انتشرت فيه بقية القوات المملوكية، في حين نَصب السلطان الأشرف خليل خيمته العسكرية ومركز القيادة قبالة البرج البابوي بين الوسط والميسرة، على مقربة من ساحل المتوسط في منطقة مرتفعة، ليكون في قلب الحدث ويسيطر على مجريات الحصار.
وقد بنى المماليك خطتهم على الجمع بين استنزاف الخصم بالسهام والنُشّاب من بعيد، وبين استخدام آلات النقب ودكّ الأسوار الثقيلة لكسر تحصينات المدينة، التي تكونت من 92 منجنيقا بمختلف الأحجام نُصبت حول الأسوار بدقة متناهية، كانت ترسل ليلا ونهارا الأحجار الضخمة والقوارير المملوءة بالنفط، فتحوّلت الأبراج والمنازل داخل عكا إلى أنقاض خلال 44 يوما متواصلة من القصف، حينها كان المهندسون والحجّارون يبحثون باستمرار عن نقاط ضعف في الأسوار لفتح الثغرات، فيما تكفلت النيران بإشعال الرعب داخل عكا.
مشهد النهاية
ومع اشتداد الحصار وتوالي الضربات المملوكية، بات الصليبيون يدركون أن عكا لم تعد قادرة على الصمود طويلا، فقد واجهوا قوة بشرية وعسكرية هائلة، مدعومة بمهندسين ومنقّبين وحجّارين لا يكلّون عن فتح الثغرات في الأسوار، فيما كانت المجانيق تواصل قصفها بلا انقطاع، وأمام هذا المشهد القاتم لم يجد القادة الصليبيون بُدًّا من محاولة التفاوض مع السلطان الأشرف خليل، لعلّهم يوقفون الزحف المملوكي.
وفي يوم 16 جمادى الأولى سنة 690هـ/16 مايو/أيار 1291م، أوفد الصليبيون رُسلهم إلى معسكر السلطان، عارضين اتفاقا يقوم على انسحاب المماليك مقابل دفع جزية سنوية وهدايا ضخمة، كما كانت الحال في العهود السابقة، غير أن مجلس الأمراء وكبار العلماء والشيوخ الذي عقده السلطان انتهى برفض قاطع، إذ أجمعوا على أنه لا معنى لأي هدنة وقد أشرفوا على النصر، خصوصا أن المنصور قلاوون والد الأشرف كان قد عزم قبل وفاته على استرداد عكا.
ويصف المؤرخ بدر الدين العيني في تاريخه "عِقد الجُمان" أجواء ذلك المجلس قائلا على لسان أحد الحاضرين فيه من كبار الأمراء والعلماء:
" إن هذا حِصن كبير عندهم، ولم يبقَ في بلاد الساحل من أهل الكفر غير أهله، وكان عزم الشهيد والد الأشرف على فتحه، والسلطان قد عزم في أول دولته على فتحه على ما كان عليه عزم الشهيد [المنصور قلاوون]، وأنه قد أُصيب من المسلمين جماعة، وقُتلت جماعة، وما بقي للصلح فائدة، فإنما قد أشرفنا على فتحه، وهم في ذلك وإذا بصياح عظيم من السوقة والحرافيش والغلمان والجمّالين: يا مولانا السلطان بتُربة الشهيد (والدك) لا نصطلح مع هؤلاء الملاعين. ثم قال السلطان للرسل: لا صلح عندنا إلا أن تُسلّموا الحصن بالأمان، فذهبت الرُّسل".
إعلان
وهكذا انتهت آخر محاولة صليبية لدرء الكارثة، وفي صباح الجمعة 17 جمادى الآخرة 690هـ (18 يونيو/حزيران 1291م)، انطلقت ساعة الصفر، إذ كانت فرق المهندسين قد أتمّت فتح الثغرات وردم الخندق، فاندفعت الجيوش المملوكية في هجوم شامل، اجتاحت فيه الأسوار وأبراجها، حيث سقطت الحاميات الصليبية الواحدة تلو الأخرى، وتحوّل الدفاع إلى انهيار شامل، حيث قُطع تواصل المدافعين بعضهم عن بعض، ووجد الآلاف منهم أنفسهم محاصرين داخل الأبراج الكبرى بلا مخرج.
وفي تلك الأجواء الكارثية استسلم نحو عشرة آلاف صليبي طالبين الأمان، غير أن السلطان وزّعهم على كبار الأمراء وأمر بالتخلص منهم، وبقي البحر ملاذا أخيرا للهاربين؛ فاندفع الجنود والمدنيون نحو المراكب في مشهد فوضوي جعلهم فريسة سهلة لفرسان المماليك الذين طاردوهم وأثخنوا فيهم.
ويصف الأمير المملوكي والمؤرخ بيبرس المنصوري، وهو من أبرز من شارك في يوم المعركة الفاصل، في تاريخه "التحفة الملوكية" تلك الأجواء قائلا: "وعلت الأصوات، وزحفت الأبطال والكُماة، وقاتلوا الإفرنج قتالا شديد الكفاح، وعدلوا عن الرماح إلى الصِّفاح، وتكاثروا على الأسوار، فتسوّروها وحملوا السناجق (الأعلام المملوكية) ورفعوها، وذعروا القوم ذُعرا شديدا، وأخذتهم السيوف أخذا مبينا، وأثخن المسلمون فيهم إثخانا عنيدا، وقتلوا منهم عديدا، وخرّبوا أوطانهم ومنازلهم، وعصت الأبراج الكبار وهي الداوية والأمن والإسبتار، هيهات وقد شملهم الصغار، وحاق بهم البوار، وعدموا النصر والأنصار".
ويضيف في مشهد درامي وعسكري شامل قائلا: "وقد دعاهم إلى ذلك الذعر الشامل، وخيفة الموت العاجل، ولم يكن لهم سبيل إلى الفرار، ولا وجه للقرار، فغلّقوا أبواب البروج، وتربّصوا عن الخروج، ثم إنهم استأمنوا، فأُخذوا وأُخرجوا وفرّقوا على الأمراء فقُتلوا، وكان هذا الفتح العظيم في يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة".
وبهذا الفتح أَسدل المماليكُ الستار على حقبة الحروب الصليبية التي امتدت قرابة قرنين من الزمن، تمكّن خلالها الصليبيون من السيطرة على سواحل الشام وحصونها، لكن هذه النهاية لم تكن مجرد نصر عسكري، بل مثلت تحررا من ذاكرة مريرة من الاحتلال والنهب والقتل يمكن وصفها بحطين الثانية.
0 تعليق