كشفت معطيات رسمية صادرة عن "كنيست" الاحتلال، عن تصاعد مقلق في معدلات الهجرة العكسية من الكيان منذ عام 2020، مع تسجيل فارق سلبي صافٍ بلغ نحو 146 ألف مستوطن غادروا ولم يعودوا، وسط غياب تام لأي خطة حكومية لوقف هذا النزيف الديموغرافي.
ووفقاً لتقرير مفصل أعده مركز البحوث والمعلومات في "الكنيست"، فإن وتيرة هجرة المستوطنين سجلت ارتفاعاً كبيرا عقب بدء عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، وما تلاها من حرب مدمرة على قطاع غزة. وأرجع التقرير هذا التسارع إلى انهيار الشعور بالأمن وتفاقم الانقسام السياسي الداخلي.
تُظهر البيانات أن عام 2023 وحده شهد مغادرة نحو 83 ألف مستوطن، بزيادة حادة بلغت 39% عن العام الذي سبقه. واستمر هذا المنحى المقلق في العام 2024، حيث غادر نحو 50 ألف شخص في الفترة الممتدة من يناير/كانون الثاني حتى أغسطس/آب من العام ذاته، وهي أرقام توازي ما سُجل في الفترة نفسها من 2023.
في المقابل، شهدت أعداد المستوطنين العائدين من الخارج تراجعاً ملحوظاً، حيث عاد 24,200 مستوطن فقط في 2023، مقارنة بـ 29,600 في عام 2022. أما في الأشهر الثمانية الأولى من 2024، فلم يتجاوز عدد العائدين 12,100 شخص.
هذا التفاوت أدى إلى تفاقم "ميزان الهجرة السلبي" بشكل خطير، ليبلغ ذروته في 2023 بفارق سلبي وصل إلى 58,600 شخص، بينما بلغ الفارق في 2024 (حتى أغسطس/آب) نحو 36,900 مستوطن.
زلزال "طوفان الأقصى" وانهيار الأمن
يأتي هذا النزيف الديموغرافي كأحد التداعيات الاستراتيجية العميقة لعملية "طوفان الأقصى"، التي شكلت زلزالاً وجودياً ضرب عمق نظرية "الأمن" لدى المستوطنين. فالهجوم المباغت الذي نفذته المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر 2023 على مستوطنات "غلاف غزة"، لم يسفر عن خسائر بشرية وعسكرية فادحة فحسب، بل حطم الصورة الذهنية لـ "الدولة الآمنة" التي لا تُقهر.
وعلى إثر ذلك، شهد كيان الاحتلال أكبر عملية نزوح داخلي في تاريخه. أخلت الحكومة عشرات الآلاف من المستوطنين من مناطق "غلاف غزة" في الجنوب، ومن مستوطنات الشمال على الحدود مع لبنان، خوفاً من تصعيد شامل مع "حزب الله". هؤلاء المستوطنون، الذين تحولوا إلى نازحين في فنادق ومراكز إيواء مؤقتة، وجدوا أنفسهم بلا أفق واضح للعودة، مع استمرار الحرب وتآكل قدرة الردع.
هذا الانهيار في الأمن الشخصي، المصحوب بأزمة اقتصادية خانقة وانقسام مجتمعي حاد، دفع الكثيرين ممن يحملون جوازات سفر أجنبية إلى البحث عن "وطن بديل"، محولين النزوح الداخلي المؤقت إلى هجرة خارجية دائمة، وهو ما تعكسه الأرقام المقلقة الصادرة عن "الكنيست".
تحذيرات من "التسونامي" وغياب الخطة
ووصف رئيس لجنة "الكنيست" لشؤون الهجرة، جلعاد كريف، هذه الظاهرة بأنها "تسونامي"، مؤكداً أن "العديد من المستوطنين يختارون بناء مستقبلهم خارج الدولة، في حين يتراجع عدد من يختارون العودة".
وأضاف كريف، موجهاً اللوم للحكومة: "ما نراه هو نتيجة مباشرة لسياسات حكومية مزقت المجتمع قبل أن تفعل الحرب، وأهملت الجبهة المدنية خلال العامين الأخيرين".
واختتم التقرير بالتأكيد على أنه، ورغم هذه المؤشرات المثيرة للقلق، لا تمتلك حكومة الاحتلال أي خطة منظمة وواضحة للحد من الهجرة العكسية، أو لتشجيع عودة المغتربين، وهو ما يهدد بتفاقم الأزمة الديموغرافية وتآكل المشروع الاستيطاني في السنوات القادمة.
وحذّر خبراء اقتصاديون واجتماعيون من أن هذا النزيف لا يقتصر على الأرقام، بل يمثل "هجرة أدمغة" حقيقية تطال قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهاي-تك) الحيوي لاقتصاد الاحتلال. ومع غياب أي أفق سياسي أو أمني، يُنظر إلى هذا العجز الحكومي عن تقديم حلول، كعامل مسرّع إضافي يدفع المستوطنين، خاصة النخب منهم، إلى اتخاذ قرار الرحيل النهائي.

0 تعليق