أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى حربا تجارية يكمل فصلها الثاني في ولايته الحالية، وهو يعلم أن الصين صارت قوة كبرى وثاني أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة، بل إنها أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا كبيرا لها.
حمّل ترامب الرؤساء السابقين للولايات المتحدة مسؤولية هذا الصعود القياسي للصين، فخلال زيارته للصين عام 2017 اتهم الإدارات السابقة بعدم الكفاءة بسماحها بخروج العجز التجاري مع الصين عن السيطرة، وعاد خلال خطاب ألقاه في البيت الأبيض في مايو/أيار 2020 إلى توجيه اللوم لمن سبقه من الرؤساء على السماح للصين بخداع الولايات المتحدة وتخسيرها مئات المليارات من الدولارات سنويا، وسرقة الوظائف وتدمير المصانع الأميركية والملكية الفكرية.
ومن خلال حربه التجارية يريد ترامب تدارك ما فات، والحد من قوة الصين لإبقاء الولايات المتحدة على هرم الاقتصاد العالمي، ما يعني معركة لا تقبل القسمة على اثنين، ويبدو ذلك جليا في تهديد الرئيس الأميركي بزيادة هائلة في الرسوم الجمركية على البضائع الصينية بقيمة 100%، ما لم تلغ بكين قيودا فرضتها على صادرات المعادن النادرة، مهددا أيضا بإلغاء الاجتماع المحتمل مع الرئيس شي جين بينغ في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي "آبيك" (APEC) والتي ستعقد في كوريا الجنوبية خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، قبل أن يتراجع عن هذه التهديدات.
فرصة أخيرة
ستكون ماليزيا مكانا لاجتماع مقترح يُعقد الأسبوع المقبل، يجمع وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت مع خه لي فغ، نائب رئيس الوزراء الصيني، وهو ما يشكل فرصة أخيرة لتجنب تصعيد جديد للرسوم الأميركية على سلع صينية.
وحسب إعلان بيسنت عبر منصة إكس، فإنه ناقش هاتفيا مع خه وضع التجارة بين البلدين واتفقا على ترتيب اللقاء المقترح في ماليزيا لمواصلة المناقشات، وكان المسؤولان قد اجتمعا على مدار 6 أشهر للتوصل إلى هدنة للحرب التجارية، مما أسفر عن تخفيض للرسوم من مستويات مرتفعة جدا، وتنتهي هذه الاتفاقية في 10 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
إعلان
" frameborder="0">
هجوم شرس
منذ بدء الحرب التجارية عام 2018، تجاوز الصراع مجرد الوصول إلى نقطة التوازن التجاري إلى مرحلة حرب طاحنة للسيطرة على سلاسل الإمداد العالمية والتقنيات الحيوية، وخلال العام الجاري زاد هذا التصعيد مع تبادل فرض التعريفات بمستويات قياسية.
وبدأت عملية التصعيد الأميركي القياسية في فبراير/شباط من خلال فرض رسوم جمركية بـ 10% على السلع الواردة من الصين، وفي مارس/آذار عاد ترامب لرفع الرسوم الجمركية إلى 125% من 104%، ما أدى إلى ارتفاع الرسوم الإضافية على السلع الصينية إلى 145%.
في مايو/أيار، توصل الطرفان لهدنة الـ90 يوما التي تم بموجبها خفض الرسوم الجمركية، مؤقتا، على السلع الصينية إلى 30% على أن تطبق الصين ذات الشيء وتخفض الرسوم على السلع الأميركية إلى 10%، ثم تم تمديد هذه الهدنة لـ90 يوما إضافية تنتهي في 10 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
التعريفات المضادة
رغم بقاء بكين في وضعية دفاعية تستند على رد الفعل، فإنها أظهرت قوة وصلابة تستند إلى العديد من الأدوات والأوراق الفعالة لمواجهة الهجوم الأميركي.
أول الأدوات الصينية كانت التعريفات المضادة وهي الأدوات الأكثر مباشرة، بدأت تلك التعريفات برسوم وصلت 34% على جميع السلع الأميركية، وصولا إلى مارس/آذار عندما فرضت رسوما بـ 125% على الواردات الأميركية.
الندية التي أظهرتها بكين في التعامل مع الهجمة الأميركية، كان من نتائجها النجاح في نقل عبء التعريفات من منتجيها إلى المستهلكين والشركات الأميركية، ما يعني زيادة الضغوط التضخمية على المستهلكين الأميركيين وتوليد ضغط إضافي على الإدارة الأميركية.
تسليح المعادن النادرة
تعد المعادن النادرة أبرز الأوراق التي تمتلكها الصين، فهي ليست ورقة اقتصادية فحسب، بل إنها ذات نفوذ سياسي هائل في نفس الوقت، ولا تقتصر قوة الصين في امتلاك نسبة هائلة من هذه المعادن بل بالتحكم واحتكار ما يراوح بين 85% إلى 90% من تقنيات تكريرها ومعالجتها.
ويأتي معدن الديسبروسيوم في صدارة هذه المعادن لما يشكله من عنصر أساسي في صناعات المستقبل مثل السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات، إضافة إلى التكنولوجيا العسكرية وأنظمة الدفاع المتقدم.
ولمعرفة بكين العميقة بأهمية هذه المعادن، استبقت أي خطوات أميركية تصعيدية لتفرض في أكتوبر/تشرين الأول الجاري قيودا واسعة على تصديرها اعتبارا من ديسمبر/كانون الأول، وقيودا قاسية تتضمن إذنا حكوميا قبل تصدير أي منتج تزيد نسبة المعادن الصينية النادرة فيه عن 0.1%، إضافة إلى حظر تصدير هذه المعادن بهدف الاستخدام من أي جيوش أجنبية.
خطورة الخطوة الصينية ليست فقط في الدفاع عن مصالح الصين الاقتصادية، بل كونها تشكل وجها من وجوه التحكم والرقابة التكنولوجية خارج الحدود، كما تشكل النسبة التي اشترطتها بكين سيطرة على المنتجات النهائية وليس المادة الخام فقط، وتسمح بتوسيع نفوذ العملاق الآسيوي.
والجرأة في تقييد المعادن النادرة وصفها وزير الخزانة الأميركي بتوجيه قاذفة صواريخ تجاه سلاسل الإمداد والقاعدة الصناعية للعالم الحر، وعلى الفور بدأت الولايات المتحدة محاولاتها لتأمين مصادر بديلة.

قائمة سوداء مضادة
أطلقت وزارة التجارة الصينية في سبتمبر/أيلول 2020 قائمة سوداء للكيانات الأميركية غير الموثوقة، وتشكل هذه القائمة وسيلة عقابية جيوسياسية لتلك الكيانات التي تستهدف الأمن والمصالح الصينية المشروعة، خاصة تلك التي ترتبط بتايوان.
إعلان
ففي يناير/كانون الثاني من العام الجاري، قررت بكين إضافة 10 شركات أميركية بينها كيانات تابعة لشركة "لوكهيد مارتن للصواريخ" بسبب مبيعات أسلحة لتايوان، وللسبب نفسه تم في أبريل/نيسان إضافة 11 شركة أميركية متخصصة في صناعة الطائرات المسيرة والتكنولوجيا العسكرية مثل "سكاديو" و "برينك درونز".
مرونة توجيه التجارة
مخالفةً التوقعات، نمت الصادرات الصينية بأكثر من 6% خلال الأرباع الثلاثة الأولى من 2025 على أساس سنوي، واستطاعت هذه الصادرات تعويض خسائرها في السوق الأميركية من خلال إعادة التوجيه إلى الأسواق البديلة، حيث شهدت هذه الصادرات بحسب بيانات الجمارك الصينية ارتفاعا إلى الاتحاد الأوروبي بأكثر من 14%، وإلى دول آسيان "جنوب شرق آسيا" بـ15.6%، فيما ارتفعت الصادرات الموجهة إلى أفريقيا بنسبة 56.6% وإلى أميركا اللاتينية بـ15.2%.
الدعم الحكومي للشركات الصينية
تمتلك الصين حزمة واسعة من أدوات دعم الشركات التجارية والصناعية المحلية، وتشكل القروض من المؤسسات المالية الحكومية والإعفاءات الضريبية الأدوات الأبرز في هذه الحزمة، والتي تمكن الشركات الصينية من تعزيز قدراتها التنافسية، والاستفادة من تعزيز الاستهلاك المحلي وإعادة توجيه الصادرات للأسواق البديلة.
وتوفر بكين إعفاءات ضريبية كاملة أو منخفضة لصناعات ومناطق تقوم بتحديدها، ما يمثل دعما خفيا يسمح للشركات الصينية بالمحافظة على حصتها في الأسواق العالمية من خلال تمكينها من الحفاظ على أسعار تنافسية.
" frameborder="0">
الخفض المدار للعملة
تحكّم الصين بسعر صرف عملتها من خلال الخفض المدار في قيمة اليوان مقابل الدولار يضيف ميزة تنافسية لصادراتها، فهذا الخفض يساعد في تخفيف أثر الرسوم الجمركية من خلال التعويض عن ارتفاع تكلفة السلع المصدرة وإتاحتها بأسعار منافسة.
كما أن بكين تبنت إستراتيجية تدويل اليوان وزيادة استخدامه في المعاملات التجارية وتسويتها مع المستوردين، فبحسب البنك المركزي الصيني وصلت نسبة المدفوعات العابرة للحدود باليوان في تجارة السلع 30%، وهذا ما يقلل من تعرضها لمخاطر الصرف وتكاليف التحويل، ويجعلها أقل عرضة للاضطرابات، والحفاظ على احتياطاتها من الدولار والعملات الأجنبية.
السندات الأميركية والذهب
للحيلولة دون الإخلال بتوازن محفظتها من الاحتياطيات الأجنبية، لجأت الصين إلى التخلص تدريجيا من جزء من حيازاتها من سندات الخزانة، بدلا من التخلي بشكل كامل عنها.
وتشير بيانات وزارة الخزانة الأميركية إلى تراجع حصة الصين من السندات الأميركية بـ 27% في مايو/أيار 2025، لتصل إلى 759 مليار دولار وهو أدنى مستوى منذ فبراير/شباط 2009.
وبذلك تكون بكين قد واصلت تخارجها من هذه السندات بوتيرة ثابتة منذ وصولها الذروة عام 2011 حين وصلت قيمتها أكثر من 1.3 تريليون دولار.
أما الذهب، فقد أظهرت بيانات بنك الشعب الصيني ارتفاع احتياطاته نهاية الشهر الماضي إلى 74.06 مليون أوقية (أونصة)، ما يعادل 2303 أطنان تقريبا، ويتصدر البنك قائمة البنوك المركزية الأكثر طلبا للذهب منذ 2021، ما يقلل من أثر الأزمات الاقتصادية ويساعد في التخلي عن الدولار في المعاملات التجارية واستخدام اليوان أو العملات المحلية فيها.
0 تعليق