قناع الغرب الذي نعرفه يسقط، ووجهه القبيح يوشك أن يظهر - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

"إن الحضارة الغربية وحدها، في قرونها الأخيرة، ابتعدت عن الحضارات الشرقية حتى بدا أنه لم يعد بينها وبينهن أي عنصر مشترك أو مجال للمقارنة أو أرض للوفاق والمصالحة".

كتب هذا الرأي الفيلسوف الفرنسي المسلم عبد الواحد يحيى (رينيه غينون) بعد الحرب العالمية الأولى أثناء تدوينه لكتابه "الشرق والغرب"، في وقت كان العالم الغربي يستعد لصراع داخلي تجلت فصوله المظلمة في الحرب العالمية الثانية.

اقرأ أيضا

list of 2 items list 1 of 2بلير "الأبيض" الذي يريد حكم غزة list 2 of 2الكلمات المتوحشة.. الفاشية المتفجّرة على لسان نتنياهو end of list

حوّل عبد الواحد حياته إلى الشرق، واختار أن يمضي ما بقي من أيامه في القاهرة متصوفا ومنعزلا، تاركا وطنه ومعه أوروبا تغرق في لجج القوميات المتناحرة، وحمى التنافس على حامل وسام العرق الأسمى، وعلى مَن هو الأقوى والأقدر على نهش الضعفاء في المستعمرات.

انتهت الحرب العظمى، وأسفر هذا الصراع الكبير عن هزيمة أوروبا القومية الشعبوية، أو الغرب القديم، الذي دفعه الحطام المروع إلى ضرورة البحث عن بديل يعتقه من ربقة القومية القاتلة، مما أفسح المجال لنموذج غربي آخر هو "الغرب الجديد" الذي وُلد من رحم الحرب العالمية الثانية.

جاء الحل من الغرب الأقصى، وهو أقصى في العقلية والتطرف كما في الجغرافيا، بحسب ما يسميه غينون، وهي الولايات المتحدة التي رأت أن العلاج يكمن في تخفيف نزعة القوميات، وتدشين "الغرب الجديد" المتمثل في ذلك الحلف المعروف بـ"العالم الحر" أو "الكتلة الغربية" التي أسسها حلف الناتو، في مواجهة تحالف أممي كبير قاده الاتحاد السوفياتي عُرف بـ"الكتلة الشرقية".

هذا الغرب الجديد خلع الكثير من أزيائه القديمة، وتخلى عن بعض ثوابته القومية، وتخفف قليلا من أحمال النقاء الثقافي، وقَبِلَ بالتحول من نادٍ عرقي مغلق إلى كيان أكثر انفتاحا، وأشرع أبوابه أمام الجميع.

وفي هذا العالم الجديد، ظهرت مفاهيم العولمة والحضارة العالمية، واندفعت القيم العابرة للحدود، وصار يروج أن العالم قرية واحدة، وأن مفاهيم مثل السيادة والحدود أصبحت تتكسر أمام هذا التطور الإنساني، وأن بإمكان غير الغربي أن يتغرب ليصير جزءا من هذا العالم ما دام يعيش حياته وفق أساليب عيش الغرب، الأمر الذي سمح بانضمام دول مثل اليابان، وكوريا الجنوبية إلى المعسكر الغربي عبر اندماج كامل في النظام الاقتصادي والدفاعي، ودخول تركيا إلى عضوية حلف الناتو.

إعلان

كانت الولايات المتحدة أو "الغرب الأقصى"، هي الضامن لكل ذلك، وهي التي تحملت مسؤولية إنقاذ ما بقي من العالم الغربي، كي يتمكن من الصمود أمام الموجة العاتية التي قادها الاتحاد السوفياتي.

ولم يكن لكل ذلك أن يحدث إلا بعد ظهور نقيض له، أُطلق عليه "العالم الشرقي" أو الكتلة المتمحورة حول الاتحاد السوفياتي، وكثير من أجزائه داخل أوروبا نفسها.

وهذه من خواص رؤية الدول الغربية لنفسها، فهي لا تعرف ذاتها إلا بالانفصال عن الآخرين، ولا تبرز إلا مع وجه مظلم تخلقه لغيرها حتى يظهر نورها المتخيل، وهذا ما يشجعها ذلك على التكتل والاتحاد. وكلما اتسع نطاق هذا المخالف أو ضاق، اتسعت أو تضاءلت الجبهة الغربية.

ومع تدوير المسميات على الغرب بين قديم وجديد، ظلت الهيمنة مسعى لا يمكن التنازل عنه، والتمدد الجغرافي مسلكا لا يمكن التفاوض حوله، وبقيت الهيمنة الخشنة والناعمة هي أداته للسيطرة على الثروات والشعوب، وبدلا من الاستعمار المادي مكّن لاستعمار القيم.

ورغم  طغيان العولمة، فإن الذات الغربية المتفاخرة البيضاء لا تُقرّ بالتغرُّب الكامل إلا للقوميات الأوروبية، فجوهر الغرب "فريد، لا عالمي"، كما عنون صامويل هنتنغتون أحد أبحاثه، حتى لو كان ذلك الغرب يعلن مبادئ الحرية والمساواة ويزعم أنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان.

واليوم، يبدو أن هذا العالم الحر يستعد للرحيل مع الصعود الثاني للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يرى أنه لا جدوى من الاستمرار في هذه التحالفات. وترامب قومي لا يؤمن بما يسمى "العالم الحر"، ويرى أن الوقت قد حان لكي يرتاح العالم الجديد (الأميركي) من أعباء أوروبا أو العالم القديم، ويتركه ينزوي بهدوء في وداع يليق به.

دفع هذا الموقف أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، لأن تقول بحزن في أبريل/نيسان الماضي إن "الغرب لم يعد موجودا كما عرفناه". وكذلك حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قائلا: "أوروبا اليوم فانية، وقد تموت".

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (يسار) والرئيس الأميركي دونالد ترامب في شرم الشيخ، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (الفرنسية)

والحقيقة أن هؤلاء المسؤولين لم ينظروا جيدا إلى ما يجري تحت أرجلهم. فقبل أن ينهض ترامب كانت تسود أوروبا ردّة قومية، وروح تطارد مَن يحاول أن يدمج في لونها الأبيض ألوانا أخرى، والحرب على الآخر المهاجر والمقيم كانت تلاحق كل مختلف أو مَن يُحدِث قدرا من التنوع. ومن ثم فإن التفكيك الفكري لمفهوم "الغرب الحر" هو قرار وفعل مشترك مدرك وواعٍ بين اليمينيين من قادة أوروبا والولايات المتحدة.

هذا الوجود المتداعي للغرب، الذي تطرقت إليه المفوضة الأوروبية ويقلق منه الرئيس الفرنسي، إذا اكتملت حلقاته، يعني انهيار وتفكيك منظومة معقدة، بل هو نهاية عالم كامل من القيم المعولمة والاتفاقيات الدولية حول المناخ وحقوق الإنسان وحظر الانتشار النووي.

فهل ما نراه اليوم هو موت الغرب الحديث الذي عرفناه طوال العقود الماضية، أم أنه مخاض ولادة لطور جديد (قد يكون عودة إلى طور قديم) من أطوار الحضارة الغربية؟ هل نشهد ولادة "غرب ثالث" إذا جاز التعبير، يتشكل من تفاعل القديم والجديد، القومي والليبرالي؟ هل انتهى زمن هذا الغرب المسمى "العالم الحر"؟ هل سنشهد انقسامات داخلية حادة بين معسكرين غربيين كما انقسمت أوروبا نصفين بعد 1945، وكما تنقسم اليوم الولايات المتحدة ذاتها بين رؤيتين: القومي القديم والعالمي الجديد؟

الغرب القديم

في اللحظة التي أراد فيها ديكارت أن يؤسس اليقين، كان عليه أولا أن يُقصي الجنون.

بواسطة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو

لا يمكن أن تكون هناك فكرة واحدة ندّعي أنها هي الجامعة المانعة في الكشف عن روح الغرب، حيث أسهمت الكثير من الأفكار والتيارات والإجراءات التاريخية في تكوين الغرب الذي نعرفه الآن، مثل الإصلاح الديني والثورة الفرنسية وفلسفات التنوير والثورة الصناعية. لكننا نرى أن الغرب بمعناه الحديث وُلد مع تبلور الذات القومية، وهي منظومة تكوين وإقصاء. هذا هو الغرب الحقيقي وليس الغرب المسحور الغارق في الفلسفة كما يُراد لنا أن نعرفه.

إعلان

فالقومية تثبّت الوجود والحضور لجماعة سياسية معينة ولا يحدث ذلك إلا باستبعاد وانفصال قسري عن جماعات وذوات أخرى مغايرة، وهذا هو لب القومية. وقد تشكّل هذا الجوهر في الإثبات والنفي والإقصاء عبر رحلة تاريخية دامية طويلة للحضارة الغربية، حتى أصبح ذلك المنطق هو الأساس الوجودي لها، فهي تعرف نفسها بقدر ما تنفي غيرها أو تستبعده أو حتى تبيده. وهذا ما نحاول أن نقرأ من زاويته كيفية تبلور القومية الغربية.

والحقيقة أن الروح الغربية الحديثة وُلدت استعماريا قبل أن تولد فلسفيا، ومن خلال ارتطامها العنيف مع العالم، وما تولَّد عنه من ثروات وتراكم مادي، وهذا ما أشارت إليه أدبيات الفكر فيما بعد الكولونيالي، وخاصة أسماء مثل الأرجنتيني إنريكي دوسيل (Enrique Dussel) والبورتوريكي رامون غروس فوغيل (Ramón Grosfoguel)، وأصبحت تلك النظرة هي زاويتهم التحليلية لفهم الذات الغربية.

فالغرب الحديث لم يبدأ من "أنا أفكر" وفلاسفة التنوير كما تزعم السردية الشائعة، بل من "أنا أغزو"، وبحسب ما يرى دوسيل، فقد كان الغزو هو أساس الخبرة التاريخية والمادية، وفي رأيه أن فكرة الإثبات والاستبعاد، والإبادة الحضارية وصلت إلى تجسدها الأعلى مع ميلاد المقولة الديكارتية "أنا أُفكِّر، إذن أنا موجود" في منتصف القرن السابع عشر.

هذه المقولة لم تكن سوى الأداة المثلى المكتملة التي تحدد مَن له حق البقاء ومَن يجب أن يُستبعد، مَن صاحب العقل ومن في واحة الجنون؟ مَن الأعلى رتبة ومَن الأدنى؟ وقد ظهرت "أنا أفكر" بعد 150 عاما من "أنا أنتصر، إذن أنا موجود" الاستعمارية التي بدأت عام 1492 مع سقوط آخر معاقل المسلمين في غرناطة.

ثم مبدأ "أنا أُبيد، إذن أنا موجود" في (1492-1614)، التي مثَّلت فضاء الإبادات الجماعية وحضر فيها حرق المعرفة ومحاكم التفتيش التي مورست ضد المسلمين واليهود عند غزو الأندلس، وضد السكان الأصليين في الأميركتين، وضد النساء اللاتي تبنّين أنظمة معرفة مخالفة للكنيسة في أوروبا بتهمة السحر.

وتُمثِّل لحظة رينيه ديكارت "أنا أفكر" تعريفا بطبيعة الذات الكونية التي تغزو وتبيد منذ قرنين. ذات جديدة وفدت على مسرح العالم، أعلنت أنها روح منفصلة هائمة، ليس عن المطلق الإلهي فحسب، بل وعن كل الحضارات والثقافات الأخرى التي تهتدي به، وهي كذلك متعالية على كل مَن لا يتسامى إلى سمائها العقلانية، وهي مصدر اليقين الطارد للشك وللغرباء، وهنا انتقلت أداة الإثبات والنفي الوجودية من الإطار الاستعماري لتأخذ مكانها في توجيه المعرفة والفلسفة الغربية.

وعندما انتقلت الديكارتية سريعا من التفكير العقلي المحض إلى المجال الاجتماعي والسياسي، مع توماس هوبز وجان جاك روسو انتقلت معها أداة الإثبات والنفي، من يد سيادة العقل إلى يد الإرادة العامة المنبثقة عن المجتمع التي أصبحت مصدر السيادة والتشريع واليقين، وهي تثبت القداسة لذاتها (من حيث الجوهر) ولكل ما ينبع منها (من حيث الأعراض والممارسات وحتى المشكلات)، وتنفي ذلك عن كل الخارجين عنها.

لكن كيف يمكن أن نعتمد على اختيار العامة إذا كان المجال العام يضم غير الغربيين، من العبيد، والمسلمين، والمهاجرين، واليهود؟ لذلك كان لا بد من المزيد من تضييق الدائرة، فظهرت الحاجة إلى علم الأعراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهنا سلطت أداة النفي والإثبات العرقي على الجسد والسكان، ناقلةً التفوق من القوة العسكرية في البداية إلى المجال المعرفي والفلسفي، ومنه إلى المجال الاجتماعي والثقافي، ثم إلى المجال البيولوجي!

LONDON, ENGLAND - SEPTEMBER 13: Protesters carry a poster depicting the late US political activist Charlie Kirk during the
متظاهرون يحملون لافتة تصور الناشط السياسي الأميركي الراحل تشارلي كيرك خلال مسيرة أمام مبنى البرلمان في لندن. وتُعرف “رابطة الدفاع الإنجليزية” المنظمة للمظاهرة بعدائها الصريح للمسلمين والمهاجرين (غيتي)

وقد ازدهرت أسطورة العرق الأبيض السامي، على أكتاف منظّرين وعلوم زائفة قائمة على القياسات التشريحية والداروينية الاجتماعية، أعادت رسم البشرية في سُلّم تراتبي "طبيعي".

إعلان

عمل هذا العلم، بوصفه آلية لبناء ذات غربية نقية، عبر عرق قومي وثقافة أوروبية تقوم على استبعاد المجانين وغير العقلانيين والأقليات والمهمشين والمختلفين. ونتيجة لذلك، تحوّل مفهوم القومية إلى سياسات دولة سُنَّت من خلالها قوانين على أساس نقاء الدم، راسمةً الحدود بين الداخل "النقي" والخارج "الملوَّث".

وكما يوجه النفي والاستبعاد نحو الآخر الحضاري، فإنه كذلك يوجه نحو الذات الغربية ذاتها،  التي تتفاوفت فيما يينها في المرتبة  العقلية والعرقية، وقاد هذا الولع بالنفي والهوس بإقامة الخطوط الصارمة بين الهويات، وتقديس الحدود الفاصلة عن الأجناس الأخرى الأقل، إلى نشوء الدولة القومية، وبزوغها من رحم هذه المجموعة الحضارية.

ومع كل دولة قومية، ظهرت هوية، ووحدة سياسية ولغة مختلفة، وإحساس مفرط بالذات، بتميز كيانها، فعرقها هو الأسمى والأجدر بالسيادة الأمر الذي قاد إلى توليد أيديولوجيات عنيفة، ومتطرفة كالنازية، والفاشية، وتفكير كل وحدة في أن تبتلع باقي الوحدات القومية.

والمشترك بين كل تلك الوحدات هو إيمانها بقومية تؤلِّه الدولة فتجعل السيادة فوق الحق، وبعرق يقدس الدم فيختزل الإنسان إلى نسب سام أو وضيع، وبعقل يؤلِّه نفسه فيجعل من ذاته المركز والمعيار والمطلق ويُعرّف كل مَن يخالفه بأنه دوني وغير عقلاني.

ولذا اتسمت صراعات الغرب القديم بالضراوة، فشعوبه لم تتوقف عن الحرب والصراع البيني، ولم يكن هناك غالب بينهم أو مغلوب. وراجع الصراعات الأوروبية خلال القرون الوسطى مرورا بالحروب النابليونية وحروب التوحيد وما بعدها إلى الحرب العالمية الثانية.

حتى الصراعات الحديثة، فهي امتداد لصدامات تاريخية عميقة بين الجماعات العرقية الأوروبية ذاتها، فالفرانك ضد الغال، والنورمان ضد الأنجلو ساكسون، والأنجلو ساكسون ضد السلت، والجرمان ضد السلاف.

ساد هذا التصور عن أوروبا باعتبارها أرض "الحروب الأبدية" داخل الولايات المتحدة كما قال الطيار والانعزالي البارز تشارلز ليندبيرغ عام ١٩٤١ -قبيل الهجوم الياباني على بيرل هاربر وانخراط أميركا رسميا في الحرب العالمية الثانية- الذي قال "إن من الأفضل للولايات المتحدة أن تبتعد عن تلك القارة الملعونة".

حاربت أوروبا نفسها، وحاربت العالم، وبدا أن الغرب القومي بحاجة إلى صيغة أخرى للتعايش، تبعده عن فنائه المحتوم إن هو استمر على النهج نفسه. في تلك اللحظة، لحظة انتهاء الحرب العالمية الثانية، تشكّل الغرب الثاني: الغرب الليبرالي.

" frameborder="0">

الغرب الليبرالي.. ولادة من رحم الكارثة

لم يهبط الغرب الليبرالي إذن على العالم من السماء بوصفه قدرا تاريخيا أو روحا حضارية ثابتة؛ بل تَشكّل حلًّا عمليا اضطراريا بعد كارثة كونية سبَّبتها أفكار الغرب القومي عندما وصلت إلى منتهاها.

اكتشفت أوروبا للمرة الثانية في جيل واحد أن تقديس الدولة القومية وإطلاق غرائز التفوق العرقي يفضيان إلى الإبادة والفناء. ومع أن الولايات المتحدة خرجت من الحرب أقوى عسكريا واقتصاديا، فإن السؤال الملِحّ آنذاك كان: كيف نمنع أوروبا من تدمير ذاتها مرة ثالثة؟

جاء الجواب على شكل هندسة مؤسسية جديدة صنعت ما نسميه اليوم الغرب الليبرالي الجيوسياسي. تشكّل هذا الغرب من منظومة أمنية عبر أطلسية (حلف الناتو)، ونظام اقتصادي دولي مقيّد بقواعد (مؤسسات بريتون وودز)، وسردية قيمية تُجمّل صراعه مع بقية الشعوب بوصفه دفاعا عن "العالم الحر". بعبارة أخرى، لم يكن الغرب الليبرالي "روح الغرب" المتجذرة، بقدر ما كان طريقة الغرب في ترويض نفسه بعد أن جرّب تطرفه الأقصى.

بُنيت منظومة الغرب الليبرالي على مجتمع متخيّل تجمعه معرفة واحدة وتعريف واحد للمطلق ورفض لما عداه. سعى أيضا إلى تجذير الاعتماد المتبادل بين دُوله بحيث تصبح الحرب بينها غير قابلة للتصور. هكذا ظهرت مفاهيم العولمة والحضارة العالمية، واندفعت القيم العابرة للحدود. أصبح بإمكان غير الغربي أن "يتغرب" ويصبح جزءا من هذا العالم ما دام يعيش وفق أساليب عيش الغرب.

سمح ذلك بانضمام اليابان وكوريا الجنوبية وتركيا إلى المعسكر الغربي. كانت الولايات المتحدة أو "الغرب الأقصى" -من حيث الأفكار كما ذكر عبد الواحد يحيى- هي الضامن لكل ذلك، وهي التي تحملت مسؤولية إنقاذ العالم الغربي من الموجة السوفياتية العاتية.

في ظل الحرب الباردة، توسع مفهوم الغرب ليضم كل مَن يقف في وجه المد الشيوعي بغض النظر عن خلفيته الحضارية. اضطر الغرب الليبرالي إلى التخلي تدريجيا عن إرثه العنصري الضيق على أساس اللون أو الدين، فقبل بهجرة أبناء العالم الفقير إلى دوله ضمن عملية "تغريب" ثقافي.

إعلان

أصبحت مظاهر تبني الأنماط الغربية في العمل والتنمية بمنزلة بديل أيديولوجي لمواجهة الشيوعية، مع فتح الباب أمام المجتمعات الآسيوية والأفريقية لتقليد النموذج الغربي (كما فعلت اليابان وغيرها).

وهكذا، ومن خلال هذه المنظومة الجيوسياسية، شهدت أوروبا أطول فترة سلام في تاريخها الحديث، بعد قرون من الصراعات الدينية والقومية والتنافس الاستعماري. وبعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، بدا أن الغرب قد حقق هدفه، وظهرت نظريات المنتصر مثل "نهاية التاريخ" لفوكوياما.

بالتوازي، ظهرت نظرية أخرى تبحث عن خصم جديد لتعريف الذات المنتصرة تمثَّلت في "صدام الحضارات" لصامويل هنتنغتون بما يذكّر بأن الغرب بقي محتاجا إلى صورة "آخر" في مواجهته حتى وهو في ذروة انتصاره.

" frameborder="0">

لفترة وجيزة بعد انتهاء الحرب الباردة، تراءى للكثيرين أن عصر القوميات يوشك أن ينتهي. وعدت العولمة بجعل العالم "مسطحا" بلا هيمنة لإنسان على آخر إلا بعمله واجتهاده، وبلا حدود فاصلة. وبشّر انتشار الإنترنت ومواقع التواصل بفضاء عام يتجاوز الدولة القومية. خُيِّل أن الدول القومية وهوياتها المحدودة ستفسح المجال لمستقبل عالمي مترابط.

كما ازدهرت في تلك الفترة منظمات حقوق الإنسان والمرأة والطفل عبر العالم، بل ونص حلف الناتو ذاته في مواثيقه على حماية الحقوق والحريات. بدا الكثير من دول العالم يتبنى طوعا أو كرها قيم الغرب الليبرالي بوصفها قيما عالمية عامة.

لكن العولمة لم تكن انصهارا للأفكار في بوتقة واحدة كما صُوِّرت، بل كانت ذاتا ديكارتية تحررت من القومية الضيقة لتفرض مفاهيمها على العالم، وأعادت تحريك النفي والإثبات بأدوات ناعمة، لتقسم البشر بنسب حول شريعتها عن حقوق الإنسان، التي سادت دساتير وقوانين الدول، وهي في حقيقتها عملية لفرض الهوية الغربية على العالم، أدت إلى تعاظم الردّ الرافض لفرض الهوية الغربية، وبسببها تزايدت حركات التحرر الحضاري، والنزعات القومية، والرغبة في تحقيق التميز القومي والحضاري، حتى داخل الغرب نفسه بحسب ما يقول رفيق حبيب.

صراع على روح الغرب.. حرب ثقافية عبر المحيط

 

إذا كان الدمار قدرنا، فعلينا أن نكون نحن صانعيه ومُنهيه. كأمة من الأحرار، علينا أن نعيش إلى الأبد، أو أن نموت منتحرين.

بواسطة أبراهام لنكولن 

يصف خبراء ومفكرون ما يجري اليوم بأنه صراع على روح الغرب أو حرب ثقافية تحدد مستقبل القيم الغربية. وصل هذا الصراع عبر الأطلسي إلى ذروة غير مسبوقة مع إدارة ترامب الثانية. فإذا كان الغرب الليبرالي قد تأسس على قيم كونية تدّعي أنها تمثل "العالم الحر" لكل البشر، فإن الغرب القومي العائد يتمحور حول مفهوم حضاري ضيق يرى الغرب حضارة بيضاء مسيحية متفوقة.

وكما يوضح الباحث إيفان كراستيف، تدور المعركة الراهنة حول معنى "الغرب" ذاته، هل سيظل يُمثِّل "العالم الحر" العالمي، كما يرى الأوروبيون الليبراليون والأميركيون الديمقراطيون، أم أنه سيُعاد تعريفه بوصفه حضارة بيضاء مسيحية كما يريد التيار الترامبي واليمين الأوروبي الجديد؟

من مظاهر هذا الصراع أن إدارة ترامب الحالية لم تتردد في التدخل المباشر في سياسات أوروبا الداخلية لدعم صعود اليمين القومي هناك. ففي فبراير/شباط 2025، وعلى منصة مؤتمر ميونيخ للأمن، ألقى نائب الرئيس الأميركي جيه. دي. فانس خطابا وُصف بأنه "سيّئ السمعة" أعلن فيه بوضوح أن أوروبا تنحرف عن القيم الأساسية التي "تتشاركها مع الولايات المتحدة".

اتهم فانس الأوروبيين بالتراجع في حرية التعبير، بل حذَّر من احتمال إلغاء نتائج انتخابات ديمقراطية (كما ألمح إلى احتمال تأجيل الانتخابات الألمانية لو لم تعجب النخبة). وبعدها بأيام، كسر فانس أحد المحرمات الدبلوماسية، فالتقى قائدة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف أليس فايدل خلال وجوده في ميونيخ.

حتى إيلون ماسك انخرط في دعم ذلك الحزب ذاته مغردا بالقول: "فقط حزب البديل يمكنه إنقاذ ألمانيا". ورغم أن الحزب لم يفز بالمركز الأول، فإنه حقق نسبة 21% من الأصوات، وهي النسبة العليا في تاريخه.

" frameborder="0">

امتد تدخل ترامب وحلفائه إلى دول أوروبية أخرى. ففي رومانيا، دعموا مرشحا يمينيا للرئاسة (جورج سيميون) ظهر مرارا على بودكاست ستيف بانون حليف ترامب. وفي أيرلندا، لم يتورع ترامب عن إعلان تأييده لمقاتل سابق (هو كونور ماكغريغور) حين ترشح لرئاسة البلاد.

أما في بولندا، فقد كان التدخل الأميركي أشد وقعا حين استقبل ترامب مرشح اليمين القومي كارول نافروتكي في البيت الأبيض وروّج له علنا على وسائل التواصل، بل عُقد مؤتمر لمنظمة "CPAC" اليمينية الأميركية في وارسو دعما له.

حتى إن وزيرة الأمن الداخلي الأميركية، كريستي نويم، صرحت في فعالية هناك بأن استمرار دعم أميركا العسكري لبولندا مرتبط بنتيجة الانتخابات، في إشارة إلى تفضيل فوز نافروتكي. وبالفعل فاز المرشح القومي بفارق ضئيل، مما أعطى التيار "الترامبي" موطئ قدم قويا في قلب أوروبا.

تنظر إدارة ترامب إلى اليمين الأوروبي المتطرف بوصفه "حليفا حضاريا" في المعركة ضد الفكر العالمي الذي يُمثله الاتحاد الأوروبي. بالمقابل، يرى كثير من قادة اليمين الأوروبي في ترامب نصيرا لقضيتهم ورمزا لانتصار رؤيتهم.

ومع تزايد التقارب الأيديولوجي وظهور أجندة يمينية عابرة للأوطان (تحت شعار مناهضة ما يسمى "ثقافة الاستيقاظ" الليبرالية)، أصبح الخطاب اليميني المتشدد أكثر شرعية وانتشارا في التيار الرئيسي على ضفتَي الأطلسي. وحتى السياسات الداخلية لترامب، في قضايا مثل الهجرة والإعلام وحقوق الأقليات، أصبحت مصدر إلهام ومشروعية لقادة غير ليبراليين في أوروبا.

وهكذا نرى ما يشبه نشوء "أممية قومية" جديدة، أو ما يسميه البعض "ثورة ما بعد الليبرالية"، يتشكل عبر مؤتمرات ومنصات إعلامية وتمويل عابر للحدود تدعم هذا التوجه.

ومع أن هذا المد القومي المتطرف قد يبدو ظافرا، فإن أجندة واشنطن العدائية اتجاه أوروبا على صعيد التجارة والأمن تضع قادة اليمين الأوروبي في معضلة. فهم من جهة يرحبون بدعم ترامب أيديولوجيًّا، لكنهم يواجهون ضغطا شعبيا في بلدانهم الرافضة لسياسات أميركا الانعزالية وانسحابها الأمني. لقد وجد اليمين الأوروبي نفسه بين نارين هما جمهوره المحلي الناقم على هيمنة واشنطن، وتحالفه الفكري مع ترامب.

وتختلف مواقف أحزاب اليمين الأوروبية حيال الوجود الأميركي، فبينما يتمسك يمين وسط أوروبا (مثل حكومة جورجيا ميلوني في إيطاليا) بحلف الناتو وبقاء أميركا شريكا أمنيا لا غنى عنه ضد روسيا، يدعو يمين فرنسا (مارين لوبان وحزبها) إلى استقلالية إستراتيجية أوروبية وتقليص النفوذ الأميركي حتى لو لم يرفض التحالف تماما.

أما تيار أوربان في المجر وأمثاله، فيرى في ترامب فرصة لإعادة صياغة العلاقة مع أميركا على أسس محافظة مشتركة بدلا من القطيعة الكاملة.

US President Donald Trump greets Hungary's Prime Minister Viktor Orban during a summit on Gaza in Sharm el-Sheikh on October 13, 2025.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يرحب برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان خلال حضورهما للقمة التي عُقدت حول غزة في شرم الشيخ في 13 أكتوبر، 2025 (الفرنسية)

إسرائيل.. نموذج الدولة القومية في عالم ما بعد الليبرالية

تعد إسرائيل حالة فريدة في السياق الغربي الحالي، إذ يمكن اعتبارها آخر دولة عرقية (Ethno-Nation) صريحة في عالم يدّعي تبني قيم ليبرالية عالمية. فهي تعرف نفسها دستوريا بأنها "دولة يهودية"، أي أنها تقوم على أساس عرقي ديني واضح. تبدو هذه الفكرة مفارقة تاريخية في القرن الحادي والعشرين.

كما كتب المؤرخ البريطاني طوني جَدّت (Tony Judt) عام 2003، فإن إسرائيل "استقدمت مشروعًا انفصاليًّا يعود للقرن التاسع عشر إلى عالم حديث قائم على الحقوق الفردية والحدود المفتوحة والقانون الدولي".

ويضيف جَدّت أن مجرد فكرة "الدولة اليهودية" التي يتمتع فيها اليهود دون غيرهم بامتيازات حصرية هي فكرة "متأخرة عن زمانها". بعبارة أخرى، يرى جدت أن نموذج الدولة القومية النقية الذي تبنته الصهيونية جاء في غير أوانه، أو جاء في زمن كانت فيه الدول الكبرى قد تخلت -نظريًّا على الأقل- عن التعريفات العرقية والدينية الصريحة للمواطنة.

من وجهة نظر كهذه، تبدو إسرائيل وكأنها ردّة تذكّر بما كان عليه الغرب القومي القديم قبل الحربين. فلا عجب أن كثيرًا من التيارات القومية الغربية اليوم تتعاطف مع إسرائيل وتراها نموذجًا "ناجحًا" لدولة قومية قوية تقوم على هوية موحدة.

على سبيل المفارقة، أصبح اليمين القومي الأوروبي الذي كان تاريخيًّا معاديًا لليهود شديد الدعم لإسرائيل اليوم، إذ يرى فيها حليفًا ضد عدو مشترك (هو العالم الإسلامي) ونموذجًا لدولة ذات هوية متجانسة وصارمة تثبت السمو لنفسها وتنفيه عن كل العالم بما فيه حلفاؤها. وقد أشار رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مرارًا إلى إسرائيل بإعجاب ضمني كنموذج لدولة تصون هويتها وحدودها بقوة.

السياسيان الإسرائيليان اليمينيان المتطرفان إيتمار بن غفير (يسارًا) وبتسلئيل سموتريتش يمثلان الوجه الحقيقي لإسرائيل القومية
السياسيان الإسرائيليان اليمينيان المتطرفان إيتمار بن غفير (يسار) وبتسلئيل سموتريتش يمثلان الوجه الحقيقي لإسرائيل القومية (الفرنسية)

بيد أن السؤال المطروح هو هل يمكن لإسرائيل الاستمرار في عالم يمضي نحو قيم ما بعد القومية؟ يذهب طوني جدّت وآخرون إلى أن إسرائيل أمامها خياران تاريخيان، إما أن تصبح دولة لجميع مواطنيها (يهودًا وغير يهود) متخلية عن حصرية الهوية اليهودية، وإما أن تنزلق نحو مأسسة الفصل العنصري بشكل أعمق.

وفي كلتا الحالتين، ستفقد صورة كـونها "واحة ديمقراطية" أمام العالم. إن أزمة إسرائيل الداخلية بين كونها "يهودية وديمقراطية" تتفاقم مع مرور الزمن، خاصة مع صعود اليمين الديني وتغير الديموغرافيا لصالح الفلسطينيين في الداخل. ولذلك يرى جدّت أن الوقت ربما تأخر فعلًا على حل الدولتين وأن المستقبل قد يكون في دولة واحدة، وهو ما نتفق معه هنا.

في المحصلة، تمثل إسرائيل مرآة مكبرة لتناقضات الغرب. فهي حليف للغرب الليبرالي، لكنها في جوهرها دولة قومية إثنية عنصرية على النمط الأوروبي القديم. واستمرار الغرب في دعمها دعمًا غير مشروط مع سياساتها الإبادية اتجاه الفلسطينيين يغذي الفكرة التي تترسخ يومًا بعد يوم بأن قيم الغرب ليست كونية ولا مطلقة ولا تهمّ أحدًا غير الرجل الأبيض الذي كان في وقت سابق سيستعمر بلادنا ويقتلنا ليحقق نفس النتائج.

​لذا، فإن إسرائيل ليست مجرد مفارقة تاريخية، بل هي الدليل الفلسفي الذي يرسخ اقتناع الكثيرين بأن اللحظة الليبرالية كانت لحظة استثنائية في تاريخ الهيمنة، وأن الإبادة والغزو والاستعمار جاءت أولًا قبل أن يجيء المنطق ليمنع الشعوب المقهورة من المقاومة، باعتبار أن الوضع الجديد هو طبيعة الأشياء.

بل إن بعض المفكرين يرون أن تغاضي الغرب عن النزعات القومية في إسرائيل يعكس ميلًا متزايدًا في الغرب نفسه للعودة إلى عقيدة الدولة القومية الصلبة ونبذ المثالية الكوزموبوليتانية التي رفعتها حقبة ما بعد الحرب الباردة.

أي أن الغرب، عبر دعمه لإسرائيل بهذا الشكل، يستدعي صورة "الغرب القديم" مرة أخرى على الساحة الدولية ويؤكد أن اللحظة الليبرالية -وإن امتدت لعقود- فهي لحظة استثنائية في تاريخ الفكر الأوروبي والهيمنة التي لم تُفرض بالفكر، كي تُفكك بالفكر والحجاج المنطقي. فقد جاءت الإبادة والغزو والاستعمار أولًا قبل أن يجيء المنطق ليمنع الشعوب المقهورة من المقاومة باعتبار أن الوضع الجديد هو طبيعة الأشياء.

عودة الوصاية: البداية فلسطين

تجلّى أحد أبرز الملامح المقلقة لعودة العقلية الإمبريالية الغربية في الطروحات المتعلقة بمستقبل قطاع غزة بعد حرب الإبادة المستمرة. فقد ظهرت خطط تشكيل إدارة انتقالية دولية في غزة تشبه نظام الوصاية أو الانتداب القديم.

وبحسب الوثائق المسربة والتأكيدات اللاحقة، ستقود هذه السلطة شخصية دولية رفيعة بمنصب "الرئيس" أو الحاكم الإداري، وطرحت أسماء مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ضمن المرشحين المحتملين لرئاسة هذه الإدارة.

" frameborder="0">

تتصور الخطة تشكيل مجلس حاكم من 7 إلى 10 أعضاء يُقرّه مجلس الأمن الدولي، على أن يكون الفلسطينيون فيه مجرد عضو واحد فقط مقابل أغلبية من المسؤولين الأجانب. هذا المجلس سيكون مخوّلًا إصدار التشريعات واتخاذ القرارات الملزمة وإدارة شؤون القطاع، بمعزل عن السلطة الفلسطينية في رام الله.

ولا تقتصر النزعة الوصائية على غزة وحدها، بل تمتد إلى مقاربة إدارة ترامب الأوسع للشرق الأوسط. فإدارة ترامب طرحت ما قيل إنه "خطة سلام من 20 نقطة لغزة" تضمنت أفكارًا جذرية لترتيبات ما بعد الحرب. وقد عُيّن المبعوث الرئاسي الخاص توم بارّاك مسؤولًا عن ملف التفاوض في لبنان وغزة.

أظهر بارّاك لهجة أبوية وقحة في تصريحاته، فقال في يوليو/تموز 2025 محذرًا لبنان ضمن سياق مختلف: "إذا لم يُسارع لبنان إلى الالتزام، فإن كل من حوله سيفعل ذلك… نحن نقول لهم أتريدون مساعدتنا؟ ها هي. لا تريدونها؟ لا مشكلة، سنعود إلى ديارنا".

هذه النبرة، التي تجمع بين التهديد واللامبالاة، تعكس عقلية مفادها أن الولايات المتحدة لن تتورط طويلًا في مشاكل الشرق الأوسط إذا لم يحصل ما تريده. فإما أن يقبل السكان الأصليون (نحن!) بالوصفات والحلول الأميركية المطروحة مهما بدت مجحفة وإلا فلتتحمل تلك الشعوب مصيرها وحدها أمام آلة الحرب، الإسرائيلية في ظاهرها، والأميركية بالأساس.

مثل هذه المقاربات تعيد إلى الأذهان حقبة الانتدابات بعد الحرب العالمية الأولى عندما تقاسمت القوى الاستعمارية تَرِكة الدولة العثمانية تحت ذريعة عدم جاهزية شعوب المنطقة للحكم الذاتي. واليوم، بعد نحو قرن، نسمع أصداء مشابهة من حديث عن وصاية دولية على غزة بذريعة "عجز الفلسطينيين عن الحكم" أو ضرورة إعادة تأهيلهم سياسيًّا قبل منحهم حقهم في تقرير المصير.

وبالطبع، يتم تغليف هذه الطروحات بخطاب "إنساني" يتحدث عن إعادة الإعمار والإغاثة ومحاربة الإرهاب. لكن الجوهر يظل أن الغرب يستعيد دور الوصي الذي يمنح نفسه حق إدارة شؤون شعوب أخرى بدعوى المسؤولية الدولية. إنه الغرب القديم بلبوس جديد، يعود ليمارس استعماره المباشر في الشرق كما في أيام الأمس، غير عابئ كثيرًا بمفاهيم السيادة الحديثة التي اخترعها، عندما لا توافق هواه.

مستقبل الغرب

نعود إلى سؤال المقال، هل ما نراه اليوم هو موت الغرب الحديث الذي عرفناه طوال العقود الماضية، أم أنه مخاض ولادة لطور جديد (قد يكون عودة إلى طور قديم) من أطوار الحضارة الغربية؟ الواقع أن الغرب أثبت تاريخيًّا قدرة على تغيير جلده وأدواته للحفاظ على جوهره.

فالغرب القومي الإمبريالي تلبّس ثوبًا ليبراليًّا عالميًّا بعد 1945 كي ينقذ نفسه من نفسه. وها هو اليوم، إذ يشعر بخطر الانهيار الداخلي، يتخلى تدريجيًّا عن ذلك الثوب ليستعيد منطقه القديم. وكما قال عبد الواحد يحيى (غينون) قبل نحو قرن، فإن أزمة الغرب الحديث عميقة في بنيته وليست مجرد عارض طارئ. ولعل تلك الأزمة البنيوية تصل اليوم إلى إحدى ذراها مع التشظي السياسي والقيمي الذي نشهده.

ليس مستبعدًا أن نشهد ولادة "غرب ثالث" إذا جاز التعبير، يتشكل من تفاعل القديم والجديد، القومي والليبرالي. كانت هناك مقاومة مستمرة من داخل بعض القطاعات في الغرب، سواء العنصرية أو اليمينية أو المحافظة، وقد يرفض هذا الغرب مسمى "العالم الحر" العالمي ويتبنى صراحةً تعريفًا حضاريًّا ضيقًا لنفسه.

وربما سيشهد أيضًا انقسامات داخلية حادة بين معسكرين غربيين (كما انقسمت أوروبا نصفين بعد 1945، وكما تنقسم اليوم الولايات المتحدة ذاتها بين رؤيتين). من جهة، معسكر ديمقراطي ليبرالي يسعى للحفاظ على إرث ما بعد الحرب العالمية الثانية من مؤسسات وقيم كونية، ومن جهة أخرى معسكر قومي شعبوي يرى ذلك الإرث عبئًا ويحن إلى استقلاليته المطلقة حتى لو أدى ذلك إلى انهيار المنظومة الدولية الحالية.

سيعتمد المسار الذي سيسلكه الغرب على خيارات أبنائه وقادته، كما أشار ماكرون في تحذيره بأن "مصير أوروبا بيدنا، يمكن أن تموت إن لم نحسن الاختيار". فإن اختار الغرب طريق الانغلاق القومي التام، فقد يشهد العالم نهاية حقبة "السلام الأميركي" وبداية اضطرابات عالمية على غرار ما حدث بعد انهيار عصبة الأمم في ثلاثينيات القرن الماضي.

أما إن نجح دعاة التعاون الدولي في رأب الصدع، فربما يتم إحياء الغرب بشكل مختلف، شكل أقل أحادية وأكثر تعددية، يستوعب التغيرات دون أن ينفجر من الداخل.

فلسطينيون يبحثون بين أنقاض المباني وسط دمار واسع جراء القصف الإسرائيلي في خان يونس جنوبي قطاع غزة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025.
فلسطينيون يبحثون بين أنقاض المباني وسط دمار واسع جراء قصف جيش الاحتلال في خان يونس جنوبي قطاع غزة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2025 (الفرنسية)

في الحالتين، نحن نعيش لحظة مفصلية تشبه لحظات سابقة أعاد فيها الغرب تعريف ذاته. غرب يموت بمعنى أن صيغة تاريخية منه تلفظ أنفاسها، وغرب يعود بمعنى أن عناصر من روحه القديمة تُبعث من جديد.

ربما سيكون على العالم (وعلى الشرق بطبيعة الحال) أن يتعايش مع غرب مختلف عما عرفه في القرن العشرين، غرب لم يعد يدّعي العالمية كما كان في التسعينيات، بل يطالب صراحة بحدود ثقافية وحضارية. هذا التحول ينذر بمرحلة صعبة، لكنه أيضًا قد يفتح المجال لولادة توازن عالمي جديد تتراجع فيه مركزية الغرب لصالح تعددية حقيقية في مراكز القوة والحضارة.

على أي حال، ستبقى السنوات القادمة حاسمة في تحديد ما إذا كان الغرب سينكفئ على ذاته كحضارة منغلقة تشبه ما كان عليه قبل قرن، أم سيجد طريقة مبتكرة لصياغة دور جديد أكثر انسجامًا مع عالم تتعدد فيه القوى العظمى وتصعد فيه نماذج تفسيرية للعالم تختلف جذريا عن نموذج المركزية الأوروبية الذي نشهد نهايته أمام أعيننا.

وبالتأكيد ورغم أي تحول غربي قد يحدث فإن الذات الديكارتية لن تموت، وستبقى أقنعتها تتوالى على الوجوه، طالما بقيت إرادة الهيمنة والإخضاع تلهمان روحه. وسيبقى الفرق في التحول هو في تكلفة كل قناع ووجه، ومقدار الاستنزاف الذي يسببه لضحاياه ولنفسه. هذه الذات الديكارتية لن تتغير ما دامت تحافظ على روح شعارها، الذي لا يستبطن سوى معنى واحد وإن قدّم التفكير: "أنا أهيمن، إذن أنا موجود". وإذا كان هناك من أمل لتغيير تلك الذات، فإن الحل الوحيد سيبدأ من كسر هذه الهيمنة.

0 تعليق