الشاغور في دمشق.. استرخاء التاريخ وسحر الأزقّة - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشاغور؛ ذلك الاسم الذي يرن في ذاكرة دمشق كما ترن الأجراس القديمة في صمت الفجر، لم يكن يوما مجرد حي يلوذ بجدار الزمن وإنما حكاية ممتدة كتفاصيل نهر بردى وهو يلتف حول المدينة منذ آلاف السنين.

اسمه الذي يردده الدمشقيون بوقار، "الشاغور" أو "قلعة الشاغور"، يحمل في حروفه عبق أسرار دفينة، وطبقات من الحنين المتراكم عبر أجيال تعاقبت واحتفظت بالمكان كما لو أنه قلبها النابض.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

يتحدث الرواة أن التسمية تعود إلى أصول عربية قديمة؛ فقد ارتبطت كلمة "الشاغور" بمفردات القوة والحصانة، ويقال إن الحي في أزمانه الأولى كان محاطا بأسوار وأبراج تشبه القلاع الصغيرة التي تحمي أطرافه، فصار يعرف بـ"قلعة الشاغور".

وهناك من يعيدها إلى الجذور الزراعية الأولى للمنطقة، إذ كانت جزءا من البساتين الممتدة على ضفاف بردى، حيث كانت "الشواغير" تعني الأراضي المخضرة التي تتخللها قنوات المياه الموزعة على الحقول والحدائق، في إشارة إلى ارتباطه العميق بذاكرة الماء والنماء.

يقع الشاغور في قلب دمشق القديمة، كجوهرة مدفونة في صدر التاريخ، يلتصق بسور المدينة العتيق، في حيز يختصر عبقرية المكان؛ يمتد الحي بين عقد الأسواق الكبرى وأهم مسالك التجارة في المدينة؛ قريب من سوق الحميدية الذي يعج بضجيج الزوار، ومن سوق البزورية الذي تتصاعد منه رائحة الأعشاب والبهارات والعطور، ليكون الشاغور حلقة وصل بين دمشق العتيقة وأسواقها النابضة.

هو قلب نابض بالذاكرة، تتوزع حوله الحارات الضيقة التي تشبه شرايين متداخلة، تنساب في مساراتها المتعرجة بين البيوت الدمشقية التي تتكئ على حجارة بيضاء وحوائط خشبية مزخرفة.

حين تخطو إلى داخل الشاغور، تشعر أنك دخلت نصا طويلا مكتوبا بمداد العصور؛ فالأزقة الضيقة الملتوية التي تفضي إلى ساحات صغيرة، والنوافذ الخشبية العتيقة التي تطل على الشارع كعيون حارسة، والأبواب العالية المزينة بالمسامير النحاسية، كلها تحكي تفاصيل الحياة اليومية لأجيال سكنت هنا.

إعلان

لقد تركت في كل زاوية أثرا من حكاية، والجدران التي شربت من رطوبة القرون وحرارة المواسم، صارت سجلا صامتا للأفراح والأتراح، للأذان المتردد بين المآذن، ولضحكات الأطفال التي تتردد كل صباح في الأزقة الضيقة، حيث يختلط عبق الياسمين الدمشقي برائحة الخبز الطازج المنبعث من تنانير الحي.

الشاغور ليس مجرد مساحة عمرانية في خريطة دمشق ولكنه هوية حضارية متجسدة في تفاصيله الدقيقة؛ في الحارات التي تحافظ على انحناءاتها القديمة، وفي البحرات الصغيرة التي تتلألأ في باحات البيوت الدمشقية، وفي الشرفات التي يطل منها الياسمين، في تلك اللغة الصامتة التي يتحدث بها المكان مع رواده.

هو الحي الذي يعكس روح المدينة كلها؛ مدينة تعانق الماضي وتحتضن الحاضر بحنو، مدينة تتقن فن البقاء عبر التجدد، وتختزن في طياتها سيرة حضارة لا تزال حية في وجدان الناس.

ومهما تعاقبت الفصول وتبدلت الوجوه، يظل الشاغور أنفاس دمشق الدافئة؛ يلوذ به أهلها كما يلوذ العطشان بالنبع، ويقصده الزائر كما يقصد الحاج مقامه المقدس؛ ففي كل زاوية من زواياه حكاية، وفي كل حارة ذاكرة، وفي كل حجر من حجارته نبض يذكر العابرين أن دمشق ليست مدينة من طين وحجر، بل هي كائن حي يكتب سيرته بأصوات الأزقة ورائحة الورد والياسمين.

حي الشاغور في دمشق
الشاغور على مر العصور كان ملتقى للأرواح قبل أن يكون ملتقى للناس (مواقع التواصل)

المكانة والروح

الشاغور نسيج حي من روح المدينة وحضارتها، ورقعة زمنية تحتفظ بملامحها كما تحفظ المرآة صور العابرين منذ قرون؛ هو لوحة فنية معقدة، لا تبوح بكل أسرارها إلا لمن يعرف كيف يصغي إلى صمت الحجر، وإلى موسيقى الماء وهو يتسلل بين البساتين القديمة التي كانت تحيط بالحي وتغذي أزقته بروح النهر وبرودة النسيم.

كان الشاغور على مر العصور ملتقى للأرواح قبل أن يكون ملتقى للناس؛ مكانا تتداخل فيه الطبقات الاجتماعية بلا حواجز ولا تكلف، التاجر الجالس عند باب دكانه يبادل الحِرفيّ حديث الصباح، وشيخ الحارة الذي يجلس عند مفترق الأزقة يعرف وجوه الجميع، والمريد الصوفي الذي يعبر الأزقة في طريقه إلى الزاوية يوزع السلام كنسيم الفجر.

في هذا الحي العتيق يمتزج صوت المطرقة في ورشة النحاس مع تلاوة قرآن تتسلل من نافذة بيت دمشقي، ومع نغمات عود يتدرب عليه صبي في حوش منزل واسع تحرسه أشجار النارنج والليمون.

الدرب الواطي؛ ذلك الزقاق الغائر في ذاكرة المكان، كان فضاء يختزن تفاصيل حياة عابقة بالحميمية؛ ونوافذ البيوت القديمة تطل على الأزقة الضيقة، حيث تتسلل ضحكات النساء وهن يتابعن المارة أو ينسجن من خيوط الحديث حكايات صغيرة عن يوم مضى أو غد ينتظر.

هناك، في تلك الأزقة، كانت اليد الحرفية تصوغ من الخشب أبوابا محفورة، ومن النحاس صحونا لامعة، ومن القطن أقمشة تليق بأسواق الشرق والغرب، فكل حركة، كل صوت، كل رائحة، كانت تكتب تفاصيل يوم دمشقي تتكرر دورته دون أن تفقد فرادتها.

وفي قلب الشاغور، حيث تتداخل الأزقة كشبكة من العروق في جسد حي نابض، يتجسد المعنى العميق للحي الدمشقي؛ مجتمع صغير بملامح مدينة كاملة؛ فالأزقة المتعرجة تحمل في طياتها حكايات عن مقاهٍ قديمة احتضنت رواد الفكر والشعر، وعن زوايا صوفية سكنها ذكر خافت وصلاة طويلة، وعن بيوت تجارية كانت خزائن لتاريخ اقتصادي عتيق.

إعلان

وفي الحي كان التمايز الاجتماعي يذوب أمام دفء الجيرة، فتراهم يتقاسمون الأفراح في مناسبات الزواج، ويشدون أزر بعضهم في مواسم الحزن، كأنهم جسد واحد يتنفس بالحب والانتماء.

الشاغور هو وجه دمشق الاجتماعي الذي يجمع بين الأصالة والدفء، بين عمق الذاكرة وتجدد الحياة؛ هنا يشعر الغريب أنه ابن المكان، إذ تستقبله الأزقة كما لو كانت تعرفه منذ زمن بعيد، ويقوده عبق الياسمين إلى حوش بيت دمشقي يفتح أبوابه لكل طارق.

وهو أيضا مسرح حضاري يروي قصة مدينة عرفت كيف تصوغ من اجتماع الناس وتنوعهم لوحة متجانسة من الألفة والتعايش؛ حيث يقف الحِرفي بجوار التاجر، والشيخ بجوار الصبي، في صورة إنسانية نابضة بالانسجام والكرامة.

ومن يعيش في الشاغور يدرك أن المكان ليس حجرا ولا زقاقا وكفى ولكنه روح ممتدة تحفظ تفاصيل الزمن وتعيد سردها كل يوم بطرق جديدة؛ في صوت المؤذن الذي يرتفع فجرا، وفي صخب الأسواق مع بداية النهار، وفي سكون الليل الذي يطوي يومه ويهيئ الأزقة لاستقبال يوم آخر، وكأن الحي كله يكتب سيرته بمداد متجدد لا ينفد.

حي الشاغور في دمشق
مع دخول العصر العثماني شهد الشاغور ذروة حضوره الاجتماعي والثقافي فقد تحول الحي إلى ملتقى للأدباء والشعراء والعلماء (مواقع التواصل)

تحولات الأزمنة

الشاغور حيٌّ لم يعرف السكون؛ حي ظل يتحرك مع التاريخ كما تتحرك الموجة في صدر البحر، ويلتقط من كل عصر ملامحه ويعيد صوغها على مقاسه.

في الأزمنة القديمة حين كانت دمشق بوابة الشرق ومفتاح الغرب، كان الشاغور ملتقى الطرق العظمى التي تربط الشام بمحيطها؛ من بواباته تعبر القوافل المحملة بالحرير القادم من سواحل الهند والصين، وبالتوابل العابقة بروائح البهار والقرنفل، وبالعطور الشرقية التي تغمر الأزقة بنفحاتها، وبالحبوب والزيوت والخشب القادم من سهول الغوطة وضفاف العاصي.

كانت الأزقة الضيقة تموج بالحركة منذ الفجر حتى الغروب، وأصوات الباعة تتعالى وهم ينادون على بضائعهم، وصوت حوافر الإبل يختلط بوقع الأقدام، وتلاوات القرآن تتردد من حناجر العابرين وهم يشكرون الله تعالى على سلامة الرحلة ووصولهم إلى قلب المدينة.

ومع ازدهار دمشق في العصرين الأيوبي والمملوكي ازدادت أهمية الشاغور، إذ صار الحي مركزا للتجارة والحرف، ومقرا لطبقة من العائلات الدمشقية العريقة التي جعلت منه شاهدا على الثراء والذوق الرفيع.

في تلك الأزمنة كانت الورش الصغيرة تنتج التحف الخشبية والمصنوعات النحاسية والمشغولات اليدوية التي تتفنن في نقشها أنامل الحرفيين، وتنتقل من هذه الأزقة إلى أسواق الشرق الكبرى.

وفي المساءات كانت باحات البيوت الدمشقية تضج بأحاديث الضيوف، وأصوات الموشحات الأندلسية تتردد بين جدران الحارات المزخرفة، فتمنح المكان روحا من الأنس والصفاء.

ومع دخول العصر العثماني شهد الشاغور ذروة حضوره الاجتماعي والثقافي فقد تحول الحي إلى ملتقى للأدباء والشعراء والعلماء، ومجالس العلم والفكر انتشرت في أروقته، فكانت بيوته العتيقة تضج بندوات تجمع التجار الكبار مع المثقفين والفقهاء ورجال الأدب.

فكانت تنشد الموشحات الدمشقية وترتل الألحان الأندلسية، وتدار النقاشات العميقة في قضايا الفكر والسياسة والتجارة، كما ازدهرت الحرف التقليدية وبلغت مستوى من الإتقان جعل منتجات الشاغور تصل إلى أسواق إسطنبول والقاهرة وحتى مدن المتوسط البعيدة، وكانت الأزقة تمتلئ بالحركة، من وقع الخيول إلى صوت الباعة، حتى ليخيل للعابر أن الحي نبض دائم لا يهدأ.

وفي القرون اللاحقة ومع ما مرت به دمشق من صراعات وغزوات وحروب، ظل الشاغور منارة للصمود الدمشقي؛ في أزمنة الحصار، حين ضاقت المدينة بالجوع والخوف، بقي الحي نابضا بالحياة، يتقاسم فيه الجيران القليل مما يملكون، ويشد بعضهم أزر بعض.

إعلان

تتحول الأزقة إلى جسد واحد يتنفس بالصبر والرجاء، وفي لحظات الاحتلال والاضطراب، كان الشاغور يقف شامخا بأهله، يخبئون المجاهدين في بيوتهم، ويمدون الثوار بالمؤونة، ويحولون حاراتهم إلى متاريس تحفظ للمدينة كرامتها.

ومع مطلع القرن العشرين دخل الحي مرحلة جديدة من التحديث؛ دخلت الكهرباء إلى البيوت، وبدأت المحال تأخذ طابعا أكثر عصرية، لكن الشاغور ظل متمسكا بروحه القديمة، فالحرفيون واصلوا عملهم في الورش الصغيرة، والمجالس الشعبية ظلت تعقد في الأحياء الضيقة، والمساجد والزوايا بقيت مركزا لروحانية المكان.

وحتى في سنوات الثورة والحرب الحديثة ظل الشاغور يحتفظ بإيقاعه العتيق، إيقاع يعرف أن دمشق، مهما اشتدت عليها العواصف، تعود لتغسل جراحها بعبق ياسمينها وماء برداها.

لقد ظل الشاغور عبر الأزمنة كلها شاهدا على قدرة المكان على التجدد دون التفريط بجذوره، حيا يروي حكاية دمشق الكبرى في تفاصيل الأزقة المتعرجة، وفي دفء البيوت الدمشقية التي لم تنس أن تفتح أبوابها للجار والغريب، وفي ذاكرة حجر ما زال يردد أصداء العصور التي مرت من هنا.

حي الشاغور في دمشق
الشاغور رغم ما يحمله من تاريخ ضارب في عمق الأزمنة، يواجه اليوم امتحان البقاء (مواقع التواصل)

الحاضر النابض

في زمننا الراهن يقف الشاغور كقلب نابض في جسد دمشق القديمة، يرفض أن يتوقف عن بث الحياة في شرايين المدينة رغم ثقل الأزمنة وتقلباتها؛ وحين تمشي في أزقته الضيقة تسمع دبيب التاريخ في وقع خطواتك، وترى في كل زاوية مشهدا يروي حكاية من ألف عام، حكاية حي يعرف كيف يحفظ ذاكرته ويجعلها حاضرة في تفاصيل يومه.

تحت شمس الصباح يتفتح الحي على أصوات الحرفيين في ورشهم الصغيرة؛ رجال أتقنوا فنونهم حتى غدت أناملهم ذاكرة حية للمهارة الدمشقية الأصيلة؛ فهناك من يطرز الخشب بخيوط الذهب في لوحات مذهلة، وهناك من ينقش النحاس بدقة تليق بمتحف، وهناك من يصنع الحقائب والأحزمة والأبواب الدمشقية كما لو أنه يكتب قصيدة بيده، والإيقاع ذاته الذي كان يملأ المكان قبل قرون ما زال يتردد، لا تغيره آلات العصر ولا صخب المدينة الحديثة.

في الظهيرة تتسلل أنغام العود من نوافذ البيوت العتيقة، تصحبها أحيانا دندنات شاب يتدرب على مقام قديم، أو أنين ناي ينساب كنسيم رقيق بين الأزقة الملتوية؛ تلك الموسيقى الممتزجة برائحة الياسمين المتدلي من النوافذ، تصنع مشهدا لا يمكن أن يرى في غير دمشق؛ مزيجا من الحنين والجمال يذكرك بأن هذا الحي ليس مكانا ساكنا وإنما ذاكرة متحركة تتنفس بأصوات أبنائها.

ورائحة خبز الصاج الساخن تصعد من الأفران الصغيرة لتتسلل إلى قلوب المارة قبل أنفاسهم، رائحة خبز تحمل دفء البيوت وصدق العلاقات، وتجعل الغريب يشعر وكأنه ابن الحي منذ زمن بعيد؛ قرب تلك الأفران يتجمع الصبية يحملون أحاديث الصباح وضحكاتهم، يتناقلونها كما يتناقلون كؤوس الشاي في أيديهم الصغيرة، بينما العجائز يراقبون المشهد من نوافذهم العالية، وجوههم تفيض بحكايات عمر طويل قضوه في حضن هذا المكان.

والمقاهي الدمشقية القديمة توزع حضورها في الشاغور كما لو أنها قلوب مفتوحة على المارة. طاولات خشبية تحمل آثار السنين، وكراسي من القش المهترئ تقف بشموخ الزمن، ورواد يعرف بعضهم بعضا كما لو أنهم أسرة واحدة تتجدد كل صباح.

وهناك تروى الحكايات القديمة عن الباشوات الذين مروا من هنا وعن التجار الذين صنعوا لأنفسهم مجدا، وعن الصبية الذين جلسوا تحت الشجر يرددون أشعار الغزل والمديح، ويصوغون أحلامهم في دفاتر الطفولة.

في المساء يهدأ إيقاع الحي قليلا لكن دفء الحياة يبقى مشعا في تفاصيله؛ فالأضواء الصفراء التي تتدلى من الفوانيس العتيقة تلمس حجارة الأزقة برفق، تضيء الوجوه العابرة بنور حميم، فيما يتسلل عبق القهوة الطازجة من البيوت إلى الشوارع فيرسم خطا من الألفة يمتد بين المكان وأهله.

الشاغور في هذه اللحظات يبدو لوحة زمنية تتقاطع فيها الأزمنة؛ القديم يروي حكاياته للحاضر، والحاضر يحفظ وصية القديم بأن يبقى وفيا لروحه الأولى.

خلال فترة الانتداب الفرنسي، كان جزء من الحي، المعروف باسم
خلال فترة الانتداب الفرنسي، كان جزء من الحي، المعروف باسم "شاغور الجواني"، يقع داخل أسوار المدينة القديمة، بينما كان معظم الحي يقع خارج الأسوار، ويعرف باسم "شاغور البراني" (مواقع التواصل)

التحديات العاصفة

الشاغور؛ رغم ما يحمله من تاريخ ضارب في عمق الأزمنة، يواجه اليوم امتحان البقاء في عالم يركض بسرعة لا تشبه إيقاع أزقته الهادئة؛ فالحِرَف التقليدية التي شكّلت هويته عبر قرون، تلك التي كانت تعطي الحياة لأصوات النحاس والعود والحرير، بدأت تتوارى شيئا فشيئا أمام طوفان الصناعات الجاهزة التي تقتحم الأسواق بسطوتها وسرعتها.

إعلان

ورش صغيرة كانت تضج بصوت المطرقة ورائحة الخشب انطفأ نورها، وأبوابها الخشبية التي كانت تفتح مع أول خيط للفجر بقيت مغلقة، كأنها تنعى زمنا كانت فيه الأيادي الماهرة تصنع من الصنعة حكاية ومن الحرفة هوية.

وأما من بقي من الحرفيين فقد اختاروا الصمود على طريقتهم؛ يستمدون من ذاكرة المكان طاقة لا تخبو، ويعيدون إنتاج الحكاية ذاتها في زوايا ضيقة، يسكبون فيها شغفهم كما لو أنهم يحرسون قدسية ما ورثوه عن الآباء والأجداد.

ويأتي الازدحام السياحي تحديا آخر مزدوج الوجهين؛ فالسائحون الذين يملؤون أزقة الحي يمنحونه دفئا اقتصاديا ينعش محاله وأسواقه ويُؤَمِّنون للحرفيين فسحة للبقاء، لكنهم في الوقت ذاته يثقلون أنفاس الأزقة التي اعتادت إيقاعا أكثر هدوءا وألفة، أصوات الكاميرات وضجيج الخطوات السريعة تحاول أن تفرض إيقاعا غريبا على نبض المكان.

تختنق الأزقة أحيانا بهذا الصخب الطارئ، وهي التي عاشت قرونا على إيقاع التراتيل وحفيف الخطى الوادعة؛ هنا يصبح التحدي الحقيقي هو إيجاد التوازن بين الحفاظ على الأصالة والتكيف مع إيقاعات العصر بحيث تبقى القيم الروحية والإنسانية للشاغور حاضرة في وجه موجات التغيير المتسارعة.

ورغم هذه الضغوط يظل الشاغور قلعة صامتة للصمود الدمشقي؛ فالأزقة التي شهدت حكايات الحب والفرح والحزن والحجارة التي احتفظت بملمس الأيادي القديمة، ما زالت تروي قصتها كل صباح، وتذكر العابر أن المكان أقوى من العابرين، وأعمق من محاولات محوه أو إعادة تشكيله.

الحي يواجه العواصف بعنفوان حجارة شامخة لا تعرف الانكسار، وبروح تعلمت عبر القرون أن التجدد لا يعني الذوبان، وأن التمسك بالجذور هو الطريق الوحيد للحفاظ على هوية لا تقبل التشويه.

يبقى الشاغور أكثر من حي في خريطة دمشق؛ هو قلب نابض بالحياة، وروح تأبى أن تنطفئ مهما تعاقبت الأزمات والأزمنة وكل زاوية فيه تحتفظ بندبة من الزمن ووشم من الذاكرة، وكل حجر فيه يشهد على عبور أجيال، وكل نافذة خشبية تتنفس حكايات لا يبهت ألقها مع مرور السنين.

رائحة الياسمين المعلقة في الشرفات، وضحكات الأطفال التي تتردد بعد صلاة العصر، وأصوات الباعة وهم ينادون في الصباح، ورائحة القهوة التي تعبق في الأزقة الضيقة، كلها تفاصيل تعيد الحي إلى عاصفة الحياة التي صنعته قبل قرون، وتجعله حيا كما لو أن الزمن لم يجر.

الشاغور هو دم دمشق المتجدد، النبض الذي يجعل للمدينة قلبا يخفق بالحكاية، ويعلمها أن البقاء لا يكون إلا لمن يحسن الإصغاء لصوت ذاكرته، ويحفظ للأماكن قدسيتها أمام اندفاع الحداثة الصاخب.

0 تعليق