Published On 23/10/202523/10/2025
|آخر تحديث: 21:12 (توقيت مكة)آخر تحديث: 21:12 (توقيت مكة)
بعدما اعتُبر واحدا من أعظم عازفي الكمان في العالم، لا تزال تحيط أسطورة العازف الإيطالي "نيكولو باغانيني" الكثير من الغرابة. فقد فاقت موهبته في العزف على الكمان أقرانه بهامش كبير لدرجة أن البعض زعم أنه عقد ميثاقا مع الشيطان ليصبح أعظم موسيقي في التاريخ.. فما قصة هذا الفنان الغامض؟ وما السر وراء موهبته الفريدة من نوعها؟
نشأته وبداية موهبته
وُلد باغانيني في مدينة جنوة الإيطالية في 27 أكتوبر/تشرين الثاني عام 1782، وقد تعلّم العزف مبكرا على الماندولين والكمان وأظهر قدرة استثنائية لدرجة أنه بدأ التأليف والظهور العلني في سنوات مبكرة من طفولته.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listوفي الـ13 من عمره، أُرسل باغانيني للدراسة مع عازف الكمان الشهير آنذاك أليساندرورولا. لكن سرعان ما لاحظ رولا موهبة باغانيني، وقرر أنه لا يوجد شيء آخر يمكنه تعليمه إياه. لذلك، سلمه إلى معلمه العريق، فرديناندو بير الذي أحاله لاحقا هو الآخر إلى معلمه، غاسبارو غيريتي.
كان باغانيني الشاب موهوبا بشكل واضح، إذ تدرّج ليصبح واحدا من أعظم فناني الكمان في القرن التاسع عشر. ولكن عندما شرع باغانيني، وهو في الـ15 من عمره، في القيام بجولات منفردة، أصيب بانهيار عصبي ولجأ إلى إدمان الكحول إضافة لانغماسه في المقامرة والعلاقات النسائية.
وبحسب الموسوعة البريطانية، في إحدى المرات، رهن كمانه بسبب ديون المقامرة؛ فأعاره تاجر فرنسي كمانا باهظا من طراز غوارنيري، وهو أفضل وأثمن أنواع الكمنجات في ذلك الوقت، ليعزف في حفلة موسيقية، وبعد أن استمع التاجر إلى مهارة باغانيني الفريدة، أهداه الآلة من شدة الانبهار.
" frameborder="0">
سلسلة من النجاحات المدوّية
بلغ نيكولو باغانيني قمة مجده في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، حين أصبح أشهر عازف كمان في أوروبا دون منازع. كانت حفلاته في باريس ولندن وفيينا حدثا فنيا استثنائيا يجذب الجماهير التي تحتشد قبل ساعات لسماع عزفه الساحر لمقطوعاته التي لا تزال حتى اليوم تحديا حقيقيا لأمهر العازفين.
إعلان
في تلك الفترة، لفتت موهبته أنظار النخب السياسية والثقافية، فاستدعته إليزا باكايوكو، شقيقة نابليون بونابرت وحاكمة لوكا وتوسكانا، ليكون عازف الكمان الرسمي في بلاطها عام 1805، مما فتح أمامه أبواب الشهرة والرعاية الملكية، ومكّنه من التفرغ للتأليف والعروض.
وبفضل جولاته الأوروبية، جمع ثروة ضخمة غير مألوفة لفنان في زمنه، حتى وصفه مؤرخون بأنه أول نجم موسيقي بالمعنى الحديث، أو "سوبر ستار" القرن التاسع عشر. لم يقتصر تأثيره على جمهوره، بل ألهم مؤلفين كبارا مثل ليزت وشوبان وراخمانينوف الذين اقتبسوا من أعماله وأعادوا صياغتها.
أما شهرته، فقد تجاوزت المسارح إلى عالم الموضة والفن والأدب، ليغدو باغانيني رمزا للعبقرية المتمردة والنجاح الفردي الاستثنائي الذي كسر حدود المألوف.
أسطورة الرجل الذي باع روحه للشيطان
كما جاء النجاح سريعا، تبعته الشائعات والإخفاقات الشخصية في حياة نيكولو باغانيني الغامضة. فقد تحوّل من عبقري الكمان إلى شخصية مثيرة للجدل، عُرف عنه إدمان القمار والكحول وكثرة علاقاته بالنساء. بل وصل الخيال الشعبي إلى نسج أسطورة تزعم أنه قتل امرأة واستخدم أمعاءها كأوتار لكمانه، وأن روحها سُجنت في آلته، حتى قيل إن صرخات النساء تُسمع من كمانه أثناء عزفه على المسرح من شدة النغمات وحدتها.
كان باغانيني أول من عزف منفردا دون الاستعانة بنوتة موسيقية، معتمدا على ذاكرته الفذة، كما عُرف بأسلوبه المسرحي المدهش، إذ كان يقطع أحد أوتار الكمان عمدا ويواصل العزف على الأوتار الباقية ببراعة استعراضية.
اشتهر بمجموعته الموسيقية "24 نزوة للكمان المنفرد" التي رسخت مكانته كأيقونة موسيقية، وابتكر من خلالها تقنيات جديدة للأداء مثل سبيكاتو (ارتداد القوس تلقائيا عن الأوتار) والبيتزيكاتو لليد اليسرى (نقر الأوتار بالأصابع بدلا من القوس)، إضافة إلى الهارمونيك التي تُنتج نغمة نقية تشبه صفير الفلوت. ويُقال إن سرعته في العزف بلغت 12 نغمة في الثانية، ما جعل عزفه أقرب إلى السحر في نظر جمهوره.
" frameborder="0">
الحقيقة وراء الأساطير والشائعات
يقول المؤرخون إن ملامح نيكولو باغانيني وبنيته الجسدية أسهمت في ترسيخ صورته الغامضة، إذ كان طويل القامة، نحيل الجسد، يتمتع بأطراف دقيقة ومرنة على نحو غير مألوف، يُعتقد أنها نتيجة إصابته بمتلازمة مارفان، وهي اضطراب وراثي يؤثر على النسيج الضام. هذه السمات الجسدية، إلى جانب طاقته غير العادية على المسرح، جعلت الجمهور يشبّهه برجال السحر والشعوذة في الأدبيات الأوروبية آنذاك.
وفي كتابها "باغانيني: الفنان الشيطاني" (2013)، توضح عالمة الموسيقى مايكو كاواباتا أن الأسطورة التي أحاطت به لم تكن وليدة الصدفة، بل نتيجة تيارات ثقافية أوروبية معقدة في مطلع القرن التاسع عشر. فقد تزامن صعوده مع رواج مسرحية غوته "فاوست"، التي تحكي عن عالم يعقد صفقة مع الشيطان مقابل القوة والمعرفة، ومع انتشار المدرسة البيرونية الرومانسية المستوحاة من اللورد بايرون، التي مجّدت صورة الإنسان العبقري المتمرد، المعذّب، والجذاب، وجد الجمهور في باغانيني تجسيدا حيا لتلك الشخصية الأسطورية.
" frameborder="0">
توفي باغانيني في 27 مايو/أيار 1840 في مدينة نيس الفرنسية بعد صراع طويل مع مرض في الحنجرة والسل أنهكا جسده ومنعاه من العزف في سنواته الأخيرة. وحتى في وفاته، استمر الغموض؛ إذ رفض الكهنة إقامة الطقوس الكنسية له بسبب سمعته "الشيطانية"، فدُفن مؤقتا لسنوات قبل أن يُنقل رفاته لاحقا إلى بارما بأمر من البابا.
إعلان
برحيله، أُسدل الستار على حياة فنان جمع بين العبقرية والغرابة، لكن موسيقاه بقيت نابضة، تُلهِم عازفي الكمان والموسيقيين حول العالم حتى اليوم.
0 تعليق