الجمعة 24 أكتوبر 2025 | 12:45 مساءً

بسام عبد السميع

في ظهرِ يومٍ من الأيام المتجدّدة، وفي ساحة مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، كان اللقاء الذي لم يُخطّط له، لكنه بدا كأنه مكتوب منذ الأزل في كتاب الوعي.
هناك، حيث تتجاور الأرواح القديمة مع الخطى الحديثة، وتصعد الدعوات بين نوافذ المآذن مثل نداءٍ من زمنٍ أنقى، التقيتُ بثنائيةٍ نادرةٍ من الرجال، من عرفهما حاز سعادة الصحبة، وصدق المودة، وإنارة القلب والعقل.
كانا المستشار شعيب عبد الفتاح والصديق أمين الدوبلي — رجلين اجتمع فيهما التاريخ والفكر، الواقع والحلم، العقل والروح.
المستشار شعيب عبد الفتاح يتحدث وكأن اللغة تعرفه أكثر مما يعرفها. إعلاميٌّ عميق التجربة،شغل منصب المستشار الإعلامي لمصر في السعودية والإمارات،
ابن الهيئة العامة للاستعلامات، أصدر كتبًا وأسس مراكز بحثية، وترأس تحرير مطبوعاتٍ متخصصة،
لكنه ظلّ كما هو — متواضعًا، نقيًّا، يرى في الكلمة أمانة لا أداة.
قال لي: "الإعلام ليس سلطة، بل ضمير الأمة حين تصمت. والرسالة بلا رحمة تتحول إلى نشرةٍ جافةٍ بلا إنسان.”
كان صوته يحمل خبرة الميدان وحنين العارف، وحين يتكلم، تشعر أن الحروف تمشي على الأرض برفقٍ كي لا تجرح الحقيقة.
أما أمين الدوبلي، فهو عقلٌ يضجّ بالأسئلة كحديقةٍ لا تهدأ.
صحفيٌّ ومفكر، خريج آداب إنجليزي، عاش عمره قارئًا للفكر العالمي، يكتب كما يتأمل، ويصغي كما يتعلم من الصمت.
قال لي وهو يبتسم في ظلّ المئذنة: "الكلمة الحقيقية هي تلك التي تجعلك تخاف أن تكتبها…لأنها صادقة أكثر مما تطيق.”
فيه شيء من سقراط حين يسأل، وشيء من الرومي حين يعشق الحقيقة، فإذا تحدث عن الصحافة، جعلها بحثًا عن الإنسان لا عن الحدث.
في هذا اللقاء ؛ جلسا متقابلين كأنهما مرآتان متقابلتان،
تنعكس فيهما صورة واحدة للعقل العربي حين يستعيد ذاته.
قال شعيب وهو يحدّق في الزائرين: "الضمير هو ما يبقى من الإنسان بعد أن ينهزم كل شيء.”
فأجابه أمين: " لكن الضمير وحده لا يكفي إن لم يكن واعيًا. فالوعي هو الذي يحرس الضمير من الغفلة.”
في تلك اللحظة، ولدت الفكرة: "الضمير الرابع» —
ذلك الذي يتجاوز سلطة الصحافة والسياسة والاقتصاد،
ليصبح سلطة الوعي الإنساني الصادق.
تحدثنا طويلًا عن فكرةٍ أعمق من اللحظة ذاتها: كيف نشأ الوعي الإنساني عبر التاريخ، وكيف كانت الثنائيات الكبرى هي الشرارة الأولى لكل تحول حضاري.
من سقراط الذي طرح السؤال الأول، إلى أفلاطون الذي دوّن الإجابة، وُلد الوعي العقلي الذي أسّس للفكر الفلسفي الحديث.
ومن لقاء شمس التبريزي بجلال الدين الرومي، انبثق الوعي الروحي الذي جعل الحب طريقًا إلى الله.
ومن شراكة ماركس وإنجلز، انبثق الوعي الاجتماعي الباحث عن العدالة في وجه الاستغلال.
ومن تعاون ستيف جوبز وستيف ووزنياك، انبثق الوعي التقني الذي أعاد تعريف علاقتنا بالعالم.
كل ثنائيةٍ كانت مرآةً للوعي الإنساني في طورٍ جديد من رحلته: السؤال والجواب، الفكرة والتطبيق، القلب والعقل، الحلم والفعل.
ولهذا، حين جلس شعيب والدوبلي في ساحة الحسين،
شعرتُ أنني أمام امتدادٍ حديثٍ لتلك الثنائيات —
حوارٌ بين تجربةٍ إنسانيةٍ ناضجة، وعقلٍ قلقٍ لا يهدأ،
لقاءٌ يُعيد للعقل العربي قدرته على السؤال دون خوف،
وللقلب العربي قدرته على الحُب دون حساب.
كان شعيب يتحدث بصفاء القلب، وأمين يحلّل بعمق العقل، والحوار بينهما كان كجسرٍ من النور يمتدّ من منطق سقراط إلى وجد الرومي.
تذكرتُ حينها أن الوعي الإنساني لم يولد يومًا من فردٍ واحد، بل من لقاءٍ بين عقلٍ وقلب،
كما وُلد الفلسفي بين سقراط وأفلاطون،
والروحي بين الرومي والتبريزي،
والاجتماعي بين ماركس وإنجلز،
والتقني بين جوبز وووزنياك.
وادركت يومها ؛، ولادة ثنائية عربية جديدة تُضاف إلى التاريخ: شعيب والدوبلي — الوعي الذي يرى بالعقل ويشعر بالقلب.
حين غادرتُ ساحة الحسين، امتليء القلب بإحساسٍ غريب: أن بعض اللقاءات لا تحدث بالصدفة، بل لأن الوعي يحتاج أن يولد من جديد. دونت في هاتفي : في ساحة الحسين… وُلد الضمير الرابع، لا كفكرة، بل كنداءٍ في قلب كل من لا يزال يؤمن أن الكلمة يمكن أن تُنقذ.
بسام عبد السميع
الكاتب الصحفي بسام عبد السميع
0 تعليق