ذهبٌ يلمع.. وحلمٌ يتبخر: كيف حوّل ارتفاع أسعار الذهب زواج الشباب الأردني إلى مهمة مستحيلة؟ - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
"الشبكة" الذهبية جزءا لا يتجزأ من المهر وتقاليد الخطبة

في مجتمع يقدس الزواج ويعتبره ركنا أساسيا للاستقرار وتكوين الأسرة، وفي ثقافة تعد فيها "الشبكة" الذهبية جزءا لا يتجزأ من المهر وتقاليد الخطبة، يقف الارتفاع الجنوني لأسعار الذهب كعائق هائل أمام آلاف الشباب الأردنيين الذين يطمحون لبدء حياتهم الزوجية.

لم يعد بريق المعدن الأصفر مجرد زينة تفرح العروس، بل تحول إلى عبء مالي ثقيل، ورمز لأزمة اقتصادية واجتماعية تضرب بجذورها عميقا، مهددة بتأجيل أحلام جيل بأكمله، أو دفعه نحو حلول بديلة قد لا ترقى لمستوى التقاليد المتوارثة.

ومع استمرار ارتفاع سعر غرام الذهب عيار 21 لأكثر من الـ 82 دينارا أردنيا منذ أسابيع، وسط توقعات بمزيد من الارتفاع، يبدو أن كابوس "تأمين الذهب" أصبح الهاجس الأكبر الذي يؤرق شباب الأردن المقبلين على الزواج.

بريق يطفئ وهج الأفراح

"المهر" في الأردن، وخاصة "المعجل" منه الذي يشمل الذهب، ليس مجرد هدية رمزية، بل هو عرف اجتماعي راسخ وجزء أساسي من اتفاق الزواج، يعكس تقدير العريس لعروسه ومكانتها.

تقليديا، يتضمن المهر كمية معينة من الذهب (تتفاوت حسب العادات والمستوى الاجتماعي للعائلات)، تقدم للعروس عند الخطبة أو عقد القران.

لكن مع التحليق المستمر لأسعار الذهب عالميا ومحليا، أصبح تأمين هذه الكمية، حتى لو كانت متواضعة، مهمة شبه مستحيلة للكثير من الشباب، خاصة أولئك الذين هم في بداية حياتهم المهنية ويكافحون لتأمين أساسيات الحياة الأخرى.

وفي مثال، إن سعر 82 دينارا لغرام الذهب عيار 21 يعني أن "شبكة" بسيطة تزن 30 غراما فقط قد تتجاوز كلفتها 2460 دينارا، وهو مبلغ ضخم يضاف إلى قائمة طويلة ومكلفة من متطلبات الزواج الأخرى: من تكاليف حفل الزفاف، إلى استئجار أو تجهيز منزل الزوجية، وشراء الأثاث والأجهزة.

يصبح الذهب بذلك ليس مجرد جزء من المهر، بل عقبة كأداء قد تنسف مشروع الزواج برمته، أو تجبر الشاب على الاستدانة والدخول في دوامة مالية لا تنتهي قبل أن تبدأ حياته الزوجية.

صرخات مكتومة: 'خالد' و'سامر'.. نماذج لمعاناة شبابية

"خالد"، مهندس شاب يبلغ من العمر 31 عاما، يعمل في شركة خاصة براتب جيد نسبيا، لكنه يجد نفسه عاجزا عن التقدم لخطبة الفتاة التي يحبها.

يقول بحسرة: "جمعت مبلغا جيدا لتكاليف الزواج على مدى السنوات الماضية، لكن كلما اقتربت من الهدف، تقفز أسعار الذهب بشكل جنوني.

المبلغ الذي كان يكفي لشراء شبكة مقبولة قبل عامين، بالكاد يكفي لنصفها اليوم.

أهل العروس متفهمون، لكن التقاليد أقوى، والذهب جزء أساسي لا يمكن التنازل عنه بسهولة في عرف عائلاتنا".

يشعر خالد بالإحباط والعجز، فسنوات الادخار تتبدد قيمتها أمام قفزات المعدن الأصفر.

أما "سامر"، البالغ من العمر 33 عاما، وهو موظف حكومي، فقد تمكن من إتمام خطبته قبل عام، لكنه لا يزال يكافح لتأمين باقي تكاليف الزواج، وعلى رأسها شراء الذهب المتفق عليه كجزء من المهر.

يروي معاناته: "اتفقت مع أهل خطيبتي على كمية معينة من الذهب بسعر كان مقبولا وقتها. الآن، وبعد ارتفاع الأسعار، أصبحت قيمة الذهب المطلوب تفوق قدرتي بكثير.

أفكر جديا في تأجيل الزواج، أو محاولة إقناعهم بتقليل كمية الذهب، وهو أمر محرج وصعب للغاية". يضيف سامر أنه يشعر بضغط نفسي هائل، فالمجتمع ينظر إليه، والوقت يمضي، وحلمه بتكوين أسرة يصطدم بجدار الذهب المرتفع.

البحث عن بدائل: 'الروسي' والفضة.. حلول اضطرارية أم بداية لتغيير التقاليد؟

أمام هذا الواقع المرير، بدأ بعض الشباب يلجأون إلى حلول بديلة، وإن كانت تحمل في طياتها حرجا اجتماعيا أو تتعارض مع التقاليد السائدة.

يأتي "الذهب الروسي" كأحد أبرز هذه البدائل؛ وهو ليس ذهبا حقيقيا، بل معادن أخرى (غالبا نحاس أو برونز) مطلية بطبقة من الذهب، تبدو شبيهة بالذهب الأصلي ولكن بسعر أقل بكثير.

يلجأ البعض إلى شراء "شبكة" من الذهب الروسي للخطبة، على أمل استبدالها بذهب حقيقي لاحقا عندما تتحسن ظروفهم المادية، أو بالاتفاق المسبق مع أهل العروس في حالات نادرة تتسم بالتفهم الشديد.

بديل آخر بدأ يجد طريقه إلى بعض العائلات، وإن كان على استحياء، وهو "الفضة".

ففي بعض الحالات، وخاصة عندما تكون الظروف المادية للشاب صعبة للغاية، قد تقبل بعض العائلات المتفهمة بشبكة من الفضة بدلا من الذهب، كحل مؤقت أو حتى كبديل دائم.

ورغم أن هذه البدائل تقدم حلا اقتصاديا آنيا، إلا أنها تثير تساؤلات أعمق:

هل هي مجرد حلول اضطرارية ومؤقتة أم أنها قد تمثل بداية لتغيير تدريجي في التقاليد والأعراف المتعلقة بالمهر والذهب؟

وهل سيتقبل المجتمع هذه البدائل على المدى الطويل؟

الإجابة لا تزال غير واضحة، لكن المؤكد أن الضغط الاقتصادي بدأ يدفع نحو إعادة التفكير في بعض الموروثات الاجتماعية.

مبادرة حكومية.. هل تكفي لكسر قيد الذهب؟

لم تكن هذه الأزمة بعيدة عن أعين المسؤولين. فقد أثارت معاناة الشباب نقاشا عاما، وصل إلى حد تدخل بعض الجهات الرسمية.

وفي هذا السياق، يمكن استذكار مبادرات وتصريحات سابقة لمسؤولين، مثل وزير الداخلية مازنت الفراية الذي دعا في إحدى المناسبات إلى ضرورة التخفيف من تكاليف الزواج الباهظة، بما في ذلك المغالاة في المهور ومتطلبات الذهب، لما لذلك من آثار سلبية على استقرار المجتمع وتأخير سن الزواج.

ورغم أهمية مثل هذه الدعوات الرسمية في تسليط الضوء على المشكلة وتشجيع الحوار المجتمعي، إلا أنها تظل، في نظر الكثيرين، غير كافية لمواجهة تحد اقتصادي بحت مرتبط بسعر سلعة عالمية.

فالمبادرات التوعوية قد تخفف من الضغط الاجتماعي، لكنها لا تخفض سعر غرام الذهب.


مستقبل الزواج على المحك: بين مطرقة التقاليد وسندان الاقتصاد

إن قضية تأثير ارتفاع أسعار الذهب على زواج الشباب في الأردن هي أعمق من مجرد صعوبة شراء "شبكة".

إنها تعكس أزمة أوسع يعاني منها جيل كامل، يواجه تحديات اقتصادية جمة، من صعوبة إيجاد فرص عمل لائقة، إلى تدني الأجور مقارنة بتكاليف المعيشة المرتفعة.

يأتي غلاء الذهب والمغالاة في المهور ليزيد الطين بلة، ويضع الشباب بين مطرقة التمسك بالتقاليد الاجتماعية وسندان الواقع الاقتصادي المرير.

المحصلة هي تأخر واضح في سن الزواج، وزيادة في نسبة العنوسة بين الجنسين، وشعور بالإحباط واليأس لدى شريحة واسعة من الشباب الذين يرون حلم تكوين أسرة يتلاشى أمام أعينهم.

ولا يمكن تجاهل الآثار الاجتماعية والنفسية لهذا الوضع، من زيادة الضغوط النفسية إلى احتمالية نشوء مشاكل اجتماعية أخرى.

يبدو أن "سراب الذهب" سيستمر في إلقاء ظلاله القاتمة على مستقبل الزواج في الأردن ما لم تحدث تغييرات جوهرية، سواء على المستوى الاقتصادي بتحسين الظروف المعيشية للشباب، أو على المستوى الاجتماعي بإعادة النظر في بعض التقاليد المكلفة، وإيجاد توازن منطقي بين العادات ومتطلبات الواقع.

قصة "خالد" و"سامر" الحقيقية، وإن اختلفت تفاصيلها، تلتقي عند نقطة واحدة: البحث عن أمل واستقرار مالي في زمن صعب، وهو البحث الذي قد يقود البعض إلى الوهم، ويجعل حلم الزواج للآخرين يبدو بعيد المنال.

0 تعليق