مدينة قابس التونسية.. حيث تختنق الواحة تحت رماد المصانع - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

على الساحل الجنوبي لتونس، تمتد مدينة قابس كواحة قديمة كانت تجمع بين زرقة البحر وخضرة النخيل، لكنها اليوم تعيش بين نقيضين: الحياة التي كانت، والموت الذي يقترب مع كل سحابة دخان تتصاعد من مصانعها.

ويعيد فيلم "قابس.. حياة وموت" الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية فتح جرح قديم عميق في جسد المدينة طالته وعود كثيرة ومتتابعة بالعلاج، لكنه ما زال ينزف تلوثا، كاشفا عن الجذور العميقة لغضب الشوارع الذي يعود اليوم ليطالب بالحق في الحياة.

يُعيدنا الفيلم إلى لقطات أرشيفية بالأسود والأبيض، حيث تبدو الوعود وردية كأحلام اليقظة، مسؤول حكومي يتحدث بثقة مؤكدا أن خطة مقاومة التلوث "لا تعني بالضرورة إيقاف الصناعة. فأهلا وسهلا بالصناعة".

اقرأ أيضا

list of 4 items end of list

يليه آخر يطمئن الأهالي قائلا إنه "لا وجود لأي ضرر، ولكن من الناحية النفسية.."، كلمات تتبخر سريعا مع صرخة من أرشيف آخر: "اليوم واحة قابس تطلب النجدة!".

تناقض صارخ

هذا التناقض الصارخ بين وعود التنمية وواقع الكارثة البيئية هو الخيط الذي ينسج حكاية قابس، فمنذ إنشاء المجمع الكيميائي عام 1972، بدأت المدينة رحلة الموت البطيء.

ويأتي صوت البحر في افتتاحية الفيلم ليبدو أقرب إلى نَفَس تتقاطع معه صفارات المعمل ودويّ المداخن، وعلى الشاطئ، يلتقط الصيادون شباكهم الفارغة ويتجاذبون أطراف الحديث عن أيام كان البحر فيها يهبهم رزقا وملحا وطمأنينة.

يروي الفيلم شهادات من قلب المدينة، أمهات يشكين أمراضا لا تنتهي، وأطباء يتحدثون عن ارتفاع مقلق في معدلات السرطان وأمراض التنفس، في حين يقول أحدهم: "البيئة هنا أصبحت بيئة مرض، نحن نرى النتائج كل يوم".

وفي أحياء المدينة القديمة، يصوّر الفيلم تفاصيل يومية صارت مألوفة للسكان، طبقات غبار على النوافذ، رائحة خانقة تملأ الهواء، ومياه بحر فقدت طعمها وشفافيتها، وبصحبة هذه اللقطات، تُسمع أصوات ماكينات تختلط بصوت الأذان، في تذكير بأن المصنع بات جدارا يفصل الناس عن مدينتهم.

أرقام صادمة

يدعم الفيلم الشهادات الإنسانية والمشاهد الدالة بأرقام صادمة تكشف حجم الكارثة البيئية، فخليج قابس يعد من "مناطق التلوث الساخنة" في البحر الأبيض المتوسط، حيث يتم إلقاء ما يقرب من 5 ملايين طن من مادة الفوسفوجيبس في البحر سنويا، وقد أدى ذلك إلى خسارة أكثر من 80% من التنوع البيولوجي البحري.

إعلان

ولا تقتصر الكارثة على البحر، فالهواء أيضا مسموم، أكثر من 95% من تلوث الهواء في مدينة قابس ناتج عن مصانع المجمع الكيميائي، مما أدى إلى ارتفاع نسبة وفيات أمراض القلب وسرطان الرئة في قابس إلى 1.8 ضعف المتوسط الوطني.

ويستعيد الفيلم بدايات الأزمة منذ ستينيات القرن الماضي، حين أنشئ المجمع الكيميائي بوعود تنموية كبيرة، لكن بدلا من الازدهار، بدأت الواحة تفقد ملامحها، حيث جُرّفت الأراضي الزراعية، وتراجعت الثروة البحرية، واضطر سكان إلى الرحيل.

لكن في مقابل هذا الواقع القاتم، يرصد الفيلم مظاهر الرفض، حيث يجتمع شباب في مقاه متواضعة يناقشون سبل التحرك، بينما تقود نساء حملات توعية في المدارس، وتخرج المسيرات في الشوارع بشعار "نحب نعيش"، في مشهد يختصر تحوّل الألم الفردي إلى مطلب جماعي بالحياة الكريمة والعدالة البيئية.

وسط هذه المفارقات، تبرز لقطات إنسانية تمنح القصة روحها، ومنها لقطة أم تتحدث عن خوفها من إنجاب طفل مريض، وصياد يحدّث الكاميرا عن خسارته مصدر رزقه، وهي مشاهد لا تحتاج لتعليق مطول، إذ تكفي الصورة التي تتحدث بلغة الألم.

ورغم قتامة الواقع، يترك الفيلم مساحة صغيرة للضوء، بمشهد أطفال يرسمون شجرة خضراء على جدار مدرسة متهالكة، وناشطين بيئيين يزرعون فسائل جديدة في أرض قاحلة، وهي رغم كونها لحظات بسيطة، فإنها تبرز روح المقاومة، وتذكّر بأن قابس ما زالت قادرة على استعادة حياتها إن أُعطيت حقها في الهواء والماء.

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

0 تعليق