الرقم الهائل لا يمثل مجرد إحصائية عابرة، بل هو مؤشر خطير على عمق الانقسام والتشاؤم الذي يخيم على المجتمع الأمريكي. يتفق الديمقراطيون والجمهوريون على وجود تصاعد في العنف، وإن اختلفوا جذريا في تحديد مصدره. فقدان الثقة في الحكومة، والقضاء، والإعلام، وحتى في نزاهة الانتخابات، خلق شعورا لدى قطاعات واسعة بأن النظام "مزور" وأن القنوات الديمقراطية التقليدية لم تعد مجدية.
كشف استطلاع حديث لمركز "بيو" للأبحاث عن نتيجة صادمة ومقلقة: 85% من الأمريكيين يعتقدون أن العنف بدوافع سياسية في بلادهم آخذ في التصاعد.
هذا الرقم الهائل لا يمثل مجرد إحصائية عابرة، بل هو مؤشر خطير على عمق الانقسام والتشاؤم الذي يخيم على المجتمع الأمريكي. إن مجرد الإيمان الساحق بأن العنف هو أداة سياسية متنامية، يعد في حد ذاته تهديدا مباشرا لأسس العقد الاجتماعي والديمقراطي، ويطرح سؤالا جوهريا حول المسار الذي تتجه إليه الولايات المتحدة.
سنوات من الاستقطاب المتراكم لم يأت هذا التصور من فراغ، بل هو نتاج عقد على الأقل من الاستقطاب السياسي الحاد الذي تآكلت فيه المساحات المشتركة. لقد ساهمت عوامل متعددة في خلق هذه البيئة المشحونة:
الخطاب السياسي العدائي: تحول الخطاب من نقد السياسات إلى الهجوم على الشخصيات وشيطنة الخصوم السياسيين، وتصويرهم كأعداء للوطن لا كمنافسين. تأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي: أدت "غرف الصدى" (Echo Chambers) التي خلقتها خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية الحزبية إلى ترسيخ القناعات وتغذية الغضب، وعزلت المواطنين عن وجهات النظر المخالفة. تآكل الثقة بالمؤسسات: فقدان الثقة في الحكومة، والقضاء، والإعلام، وحتى في نزاهة الانتخابات، خلق شعورا لدى قطاعات واسعة بأن النظام "مزور" وأن القنوات الديمقراطية التقليدية لم تعد مجدية. أحداث مفصلية: شكلت أحداث مثل اقتحام مبنى الكابيتول في 6 كانون الثاني / يناير 2021، والاحتجاجات العنيفة التي شهدتها مدن عدة، وتزايد التهديدات ضد مسؤولي الانتخابات والسياسيين، أدلة مادية ملموسة عززت هذا الاعتقاد لدى المواطنين.
إجماع نادر على وجود الخطر اللافت في نتيجة استطلاع "بيو" ليس فقط النسبة المرتفعة، بل حقيقة أنها تعبر عن ظاهرة خطيرة تعصف في أمة شديدة الانقسام. فعلى الأرجح، يتفق الديمقراطيون والجمهوريون على وجود تصاعد في العنف، وإن اختلفوا جذريا في تحديد مصدره. قد يرى الجمهوريون أن مصدره هو احتجاجات اليسار الراديكالي، بينما يرى الديمقراطيون أن مصدره هو اليمين المتطرف والخطاب الشعبوي. هذا الاتفاق على التشخيص مع الاختلاف على المسبب، يجعل المشكلة أكثر تعقيدا واستعصاء على الحل.
الأثر: حلقة مفرغة من الخوف والعنف
إن انتشار هذا الاعتقاد له تداعيات خطيرة تتجاوز مجرد الشعور بالقلق:
تآكل الخطاب المدني: عندما يعتقد الناس أن العنف خيار وارد، يصبح الحوار والتسوية السياسية ضربا من الضعف أو السذاجة. التطبيع مع العنف: الخوف من العنف قد يدفع البعض إلى تبريره كـ"دفاع استباقي" عن النفس أو المعتقدات، مما يخلق حلقة مفرغة تغذي نفسها. تراجع المشاركة الديمقراطية: قد يخشى المواطنون العاديون من التعبير عن آرائهم أو المشاركة في الأنشطة السياسية خوفا من الاستهداف والمضايقة. زيادة التسلح: قد يترجم الخوف من العنف السياسي إلى زيادة في شراء الأسلحة النارية بدافع الحماية الشخصية، مما يرفع منسوب الخطر في المجتمع.
أسئلة مفتوحة لمستقبل غامض إن نتيجة استطلاع "بيو" هي أكثر من مجرد بيانات؛ إنها صرخة تحذير تشير إلى أن النسيج الاجتماعي الأمريكي يتعرض لضغوط هائلة. فالإجماع على تصاعد العنف السياسي يضع الولايات المتحدة على مفترق طرق خطير. وتبقى الأسئلة المفتوحة هي: هل يمكن للقادة السياسيين تغيير لهجتهم وتخفيف حدة الاستقطاب؟ وهل تستطيع المؤسسات الإعلامية والمجتمعية لعب دور في بناء الجسور بدلا من تعميق الانقسامات؟ الأهم من ذلك، هل ما زال لدى المجتمع الأمريكي القدرة على التراجع عن حافة الهاوية قبل أن يصبح العنف واقعا سياسيا لا مجرد اعتقاد؟
0 تعليق