في العصر الرقمي الذي نعيشه، حيث تتداخل الحقيقة بالخيال وتنتشر المعلومة بسرعة الضوء، أصبح الوهم، للأسف، "أسرع انتشارا من التحذير".
لم تعد عمليات النصب والاحتيال تقتصر على الأساليب التقليدية أو المكالمات الهاتفية المجهولة، بل تطورت لتتخذ أشكالا أكثر تعقيدا وفتكا، مستغلة التطورات التكنولوجية، وخاصة الذكاء الاصطناعي، لنسج شباكها حول ضحايا جدد.
قصة "رؤى" السيدة الأربعينية، و"أحمد" الشاب الثلاثيني، ليست سوى نموذج مؤلم لهذا الواقع الجديد؛ قصة تحكي كيف يمكن لإعلان مصمم باحترافية، يستغل وجوها مألوفة واقتباسات مختلقة، أن يبخر مدخرات عمر بأكمله في غمضة عين، تاركا وراءه حسرة ودرسا قاسيا حول سراب الثراء السريع في العالم الافتراضي.
الإغراء.. حين يتحدث "المشاهير" عن "الفرصة الذهبية"
لم تكن "رؤى"، وهي اسم مستعار لسيدة أردنية في عقدها الرابع، تبحث عن مغامرة مالية محفوفة بالمخاطر أو تسعى لتحقيق ثراء فاحش بين ليلة وضحاها.
هدفها كان أبسط وأكثر واقعية: إيجاد طريقة لتأمين دخل إضافي يساعدها على مواجهة أعباء الحياة المتزايدة وتكاليف المعيشة المرتفعة، كانت تأمل في استثمار مدخراتها المتواضعة، التي جمعتها بشق الأنفس على مدار سنوات خدمتها الطويلة، في مشروع آمن يدر عليها عائدا معقولا.
ذات مساء، وبينما كانت تتصفح آخر الأخبار والمستجدات على هاتفها المحمول، وقعت عيناها على إعلان جذب انتباهها على الفور.
لم يكن إعلانا عاديا؛ كان مصمما ببراعة واحترافية عالية، ويحمل صورة وجه مألوف وموثوق بالنسبة لها – شخصية عامة مرموقة تحظى باحترام واسع وتعرف بآرائها الرصينة في الشأن العام والاقتصادي.
بجانب صورته، كتب اقتباس منسوب إليه، يتحدث بحماس شديد عن "فرصة استثمارية ذهبية لا تعوض" في مجال التداول المالي عبر منصة إلكترونية تدعى "Jordan Capital" وأخرى تدعى "Tdawulbank" .
تكشف "رؤى" لاحقا تفاصيل اللحظة التي بدأت فيها رحلتها نحو الهاوية: "كانت الصورة مقنعة جدا، والاقتباس يبدو حقيقيا تماما وكأنه مقتطع من حوار حقيقي. تصميم الإعلان كان يوحي بأنه جزء من مقابلة تلفزيونية موثوقة أجريت مع هذه الشخصية".
لم يخطر ببالها للحظة أن ما شاهدته لم يكن سوى نتاج عملية تزييف متقنة؛ صورة تمت معالجتها بدقة، واقتباس تم اختلاقه وتصميمه ليبدو أصيلا، ربما باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التي باتت قادرة على توليد محتوى مزيف يصعب تمييزه عن الحقيقة.
ما زاد الطين بلة، وعزز ثقة "رؤى" العمياء بهذه "الفرصة المزعومة"، هو رؤيتها لشعار موقع إخباري أردني شهير ومعروف بمصداقيته، مطبوعا على تقرير مفصل يزكي منصة "Jordan Capital" ويشيد بأدائها وأرباحها المضمونة.
لم تكن تعلم أن هذا الشعار أيضا قد تم استخدامه دون إذن، كجزء من عملية الخداع المنظمة. ولإكمال الحبكة، انهالت التعليقات أسفل الإعلان والتقرير، تحمل أسماء تبدو حقيقية لعائلات أردنية معروفة، يروي أصحابها تجاربهم "الناجحة" مع المنصة، ويتحدثون عن أرباح "خيالية" تحققت لهم في وقت قصير وبـ"ضمان كامل".
كانت هذه التعليقات، المدروسة نفسيا والمصممة بعناية، هي القشة التي قصمت ظهر حذر "رؤى".
الطعم.. أرباح وهمية تبني جسور الثقة الزائفة
تحت تأثير هذا الإغراء المتقن، قررت "رؤى" خوض التجربة. "بدأت بمبلغ متواضع جدا، فقط للتجربة"، تقول بحسرة. "مئتا دينار فقط وضعتها في حسابي على المنصة. لم أرد المخاطرة بكل شيء دفعة واحدة". لكن ما حدث في اليوم التالي كان كفيلا بتبديد أي شكوك متبقية لديها. "عندما فتحت حسابي، وجدت أن رصيدي قد زاد بمقدار 100 دينار. ربح صاف خلال أقل من 24 ساعة! شعرت بسعادة غامرة وفرحة لا توصف. بدأت أفكر بأن هذه فعلا قد تكون الفرصة التي كنت أنتظرها".
في مكان آخر من العاصمة عمان، كان الشاب الثلاثيني الطموح "أحمد" (اسم مستعار أيضا) يرى الإعلان ذاته. "أحمد"، الذي يتابع بشغف أخبار التكنولوجيا والابتكار ويتطلع إلى تحقيق استقلاله المالي، لم يجذبه فقط اسم الشخصية العامة أو شعار الموقع الإخباري، بل أغرته التفاصيل التقنية المزعومة التي روجت لها المنصة. "تحدثوا عن استخدام خوارزميات ذكية متطورة تقوم بتحليل السوق وإدارة الصفقات تلقائيا. قالوا إن التداول يتم بشكل آلي بالكامل، وأن الأرباح ثابتة وشبه مضمونة. بدا الأمر وكأنه مستقبل الاستثمار؛ تقنية تعمل من أجلك وتجني لك المال دون عناء". قرر "أحمد" أيضا البدء بمبلغ صغير، مترقبا النتائج بنفسه.
خلال الأسبوع الأول، كان حساب "رؤى" على المنصة يظهر أرباحا يومية متزايدة، وإن كانت وهمية. بالتوازي مع ذلك، بدأ شخص يقدم نفسه على أنه "مدير حسابها الشخصي" في المنصة بالتواصل معها بشكل مكثف عبر تطبيق "واتساب". كان هذا الشخص، بصوته الواثق ولهجته المقنعة، يمارس عليها ضغوطا نفسية مدروسة، ويحثها على زيادة استثمارها للاستفادة من "صفقات حصرية" و"فرص لا تتكرر". كان يرسم لها صورة وردية لمستقبل مالي باهر، ويؤكد لها أن الوقت قد حان لجني ثمار استثمارها وتحقيق "صفقة العمر".
تحت وطأة هذا الضغط والإغراء المستمر، وبعد أن رأت "الأرباح" تتراكم (افتراضيا) في حسابها، اتخذت "رؤى" القرار الذي ندمت عليه لاحقا. أودعت كل مدخراتها التي جمعتها بعناء طوال سنوات خدمتها، آلاف الدنانير التي كانت تمثل أمانها المالي وسندها في مواجهة تقلبات الزمن، مثل حسابها على منصة "Jordan Capital"و حساب الاحتيال "Tdawulbank"
السقوط.. لحظة الحقيقة المرة وتبخر الأموال
جاءت لحظة الحقيقة الصادمة عندما حاول كل من "رؤى" و"أحمد" اختبار مصداقية المنصة وسحب جزء من أرباحهم المزعومة.
"أحمد"، الذي كان أكثر حذرا، حاول سحب مبلغ بسيط من الأرباح التي ظهرت في حسابه، كانت المفاجأة سريعة وقاسية؛ وجد أن حسابه قد تم تجميده فجأة، ولم يعد قادرا على الوصول إليه أو إجراء أي عمليات سحب. رسائل الخطأ بدأت تظهر، ومحاولاته للتواصل مع خدمة العملاء باءت بالفشل.
أما "رؤى"، التي كانت تحلم بسحب أرباحها الكبيرة التي تراكمت في حسابها الوهمي، فقد واجهت مصيرا أكثر إيلاما. بمجرد أن أبدت رغبتها في سحب الأموال، اختفى "مدير الحساب" الذي كان يتواصل معها يوميا فجأة. الخط الهاتفي الذي كان يتصل منه أصبح مغلقا أو خارج نطاق التغطية. وعندما حاولت الدخول إلى المنصة الإلكترونية، وجدتها قد اختفت تماما من الوجود، وكأنها لم تكن يوما. تبخرت المنصة، وتبخرت معها آلاف الدنانير التي تمثل مدخرات عمرها، تاركة "رؤى" في حالة من الصدمة واليأس.
ما بعد الصدمة.. شكاوى رسمية وتحذير أمني
"رؤى" و"أحمد" ليسا سوى عينة صغيرة ضمن قائمة طويلة من الضحايا الحقيقيين الذين وقعوا في فخ هذه الصفحات الاحتيالية المنظمة والمتخصصة في النصب باسم الاستثمار والتداول.
تجاربهم المريرة، وعشرات القصص المشابهة التي بدأت تظهر، تحولت إلى شكاوى رسمية تم تقديمها أمام وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية في مديرية الأمن العام.
ولم يقتصر الأمر على الضحايا الماليين، بل امتد ليشمل الأطراف التي تم استغلال أسمائها وصورها في عمليات التزييف هذه.
فقد قام عدد من الشخصيات العامة المرموقة التي استخدمت صورها واقتباسات مزيفة منسوبة إليها دون علمها، بالإضافة إلى المواقع الإخبارية الأردنية التي زورت شعاراتها واستخدمت لإضفاء مصداقية زائفة على هذه المنصات الوهمية، بتقديم شكاوى رسمية أيضا، مطالبين بملاحقة القائمين على هذه الحسابات قضائيا بتهمة انتحال الشخصية والتزوير والتشهير.
هذا الحراك المتزايد من الضحايا والجهات المتضررة دفع وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية إلى التعامل مع القضية بأقصى درجات الجدية، وإصدار تحذير شديد اللهجة للمواطنين، كاشفة عن تفاصيل الأسلوب الإجرامي المبتكر الذي يتبعه هؤلاء المحتالون.
وأوضح بيان رسمي صادر عن الوحدة أن هؤلاء المحتالين يلجؤون بشكل ممنهج إلى إنشاء صفحات وهمية على منصات التواصل الاجتماعي، تحمل أسماء وصور شخصيات عامة معروفة وموثوقة، ويربطونها بشركات استثمار وتداول وهمية، مثل صفحة "Jordan Capital" و"Tdawulbank" ، بهدف إيهام الضحايا وكسب ثقتهم الأولية بسهولة.
وأكد البيان أن هذه الصفحات لا تكتفي بذلك، بل تستخدم أدوات تزييف متقدمة لتعزيز خدعتها، تشمل:
حوارات تلفزيونية كاذبة: قد تكون صورا مفبركة لشخصيات معروفة تظهر وكأنها في مقابلة، أو مقاطع فيديو قصيرة يتم توليدها باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي (Deepfake) تجعل الشخصية تتحدث عن المنصة الوهمية.
أخبار مفبركة بشعارات حقيقية: نشر تقارير ومقالات إخبارية تبدو وكأنها صادرة عن مواقع إخبارية مرخصة وموثوقة، تحمل شعاراتها وتنسيقها، ولكنها في الحقيقة مزورة بالكامل.
بيانات أرباح وهمية: عرض مستمر لبيانات ورسوم بيانية تظهر أرباحا خيالية ومضمونة، لإغراء الضحايا.
تعليقات مدروسة نفسيا: نشر سيل من التعليقات الإيجابية التي تبدو وكأنها من مستخدمين حقيقيين (غالبا حسابات وهمية أو مخترقة)، تروي قصص نجاح وهمية وتستخدم أسماء عائلات أردنية لزيادة المصداقية وخلق حالة من الثقة الزائفة و"الإثبات الاجتماعي".
وأشارت الوحدة إلى أن الخطوة التالية للمحتالين هي دعوة المتابعين للاشتراك بمبلغ مالي متواضع في البداية، مقابل وعود بأرباح مرتفعة وسريعة. هذا المبلغ الصغير هو "الطعم" الذي يهدف إلى كسر حاجز الخوف لدى الضحية، وجره تدريجيا نحو استثمار مبالغ أكبر، ليجد نفسه في النهاية وقد وقع فريسة لعملية احتيال محكمة.
درس قاسي في زمن الأوهام الرقمية
فيما تواصل وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية إجراءاتها القانونية والفنية المعقدة لتتبع القائمين على هذه الصفحات الوهمية ومحاولة استرداد جزء من الأموال المسلوبة، يبقى "رؤى" و"أحمد" وعشرات غيرهم في انتظار تحقيق العدالة، بعد أن تعلموا بالطريقة الأكثر قسوة ومرارة درسا لن ينسوه: أن ما يبدو "فرصة ذهبية" لامعة على شاشات هواتفنا، هو في الغالب مجرد "سراب" رقمي خادع، يكلفهم ليس فقط مدخراتهم، بل أيضا ثقتهم وأحلامهم، ويترك ندوبا نفسية قد لا تندمل بسهولة. إن قصتهم هي تحذير صارخ للجميع بضرورة توخي أقصى درجات الحذر والتشكيك في أي وعود بالثراء السريع عبر الإنترنت، والتأكد دائما من مصداقية أي جهة استثمارية قبل إيداع أي مبلغ، مهما بدا صغيرا.

0 تعليق