Published On 28/10/202528/10/2025
|آخر تحديث: 07:54 (توقيت مكة)آخر تحديث: 07:54 (توقيت مكة)
في ليلة هادئة على كوكب الأرض لم يكن علماء الفلك ينظرون إلى السماء بحثا عن نجم جديد، بل كانوا يطاردون ظلا في قلب الكون عبارة عن جرم مظلم، لا يُرى ولا يضيء ولا يكشف عن نفسه إلا من خلال أثره الخفي على الضوء.
ومن ألمانيا إلى الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا اجتمع فريق من العلماء حول شبكة هائلة من التلسكوبات الراديوية تمتد من تلسكوب غرين بانك في ولاية فرجينيا الغربية إلى الشبكة الأوروبية للتداخل القاعدي بعيد المدى، والتي تصل تلسكوباتها بين قارات عدة، ليحولوا الأرض نفسها إلى تلسكوب عملاق يبحث عن إشارة واحدة، وهي انحناءة ضوء صغيرة وسط بحر من النجوم.
أجرام غريبة
ولا تصدر "الأجرام المظلمة" أي ضوء أو إشعاع، لكن يتم الكشف عن وجودها من خلال تأثير جاذبيتها على الضوء القادم من الأجسام البعيدة، في ظاهرة تُعرف باسم "عدسة الجاذبية"، حيث تشوه الجاذبية مسار الضوء المار بالقرب من الجرم غير المرئي، فيحدث انبعاج في الصورة المشوهة بفعل جرم أكبر، وهو ما يشبه عيبا صغيرا في مرآة بيت المرايا.
وفي الحقيقة، العلماء لا يعرفون بعد على وجه الدقة ماهية هذه الأجرام، فهي ليست نجوما ولا مجرات واضحة كما نعرفها، بل تقع في منطقة غامضة بين الاثنين يعتقد بعض العلماء أنها تكتلات أو "عُقد" من المادة المظلمة لا تحتوي على نجوم أو غازات، لذلك لا تُصدر أي ضوء.
ويتوقع فريق آخر من العلماء أنها مجرات قزمة خاملة فقدت غازها ونجومها النشطة قد تكون نواتها مكونة من ثقوب سوداء أو تجمعات نجمية منطفئة.
علامة المادة المظلمة
وبينما كان العلماء يحدقون في تلسكوباتهم ظهرت فجأة تلك العلامة التي كانوا ينتظرونها وهي انبعاج دقيق في صورة ضوئية بعيدة، وكأن مرآة الكون نفسها أصابها خدش غير متوقع.
إعلان
لم يكن هذا الانبعاج خطأ في القياس، بل بصمة جرم مظلم مجهول هو الأصغر من نوعه الذي تم اكتشافه على الإطلاق، إذ يتمتع بكتلة تقدر بنحو مليون ضعف كتلة الشمس، ويقع على مسافة تقدر بنحو 10 مليارات سنة ضوئية من الأرض، وتم الإعلان عن هذا الإنجاز بدورية "نيتشر أسترونومي".
ويقول البروفيسور كريس فاسنات من جامعة كاليفورنيا في ديفيس وأحد المشاركين في الدراسة في بيان رسمي نشره الموقع الإلكتروني للجامعة إن "تمكننا من رصد جرم بهذه الكتلة الصغيرة وعلى هذه المسافة الهائلة يعد إنجاز مذهل، فكل جرم من هذا النوع يقربنا خطوة نحو فهم طبيعة المادة المظلمة".
ويضيف أن "التحليل أظهر أن هذا الجرم الغامض يمتلك كتلة تقارب مليون ضعف كتلة الشمس، لكنه لا يشبه أي شيء معروف، فقد يكون كتلة من المادة المظلمة التي تشكل ربع الكون ولا تُرى، أو ربما مجرة قزمة ميتة خمدت نجومها منذ زمن بعيد".
تأكيد نظرية "المادة المظلمة الباردة"
ويعد هذا الجرم المكتشف أقل الأجرام كتلة التي يتم اكتشافها بتقنية "عدسة الجاذبية"، مما يشير إلى إمكانية استخدامها لاكتشاف المزيد من الأجسام المظلمة المشابهة في المستقبل.
ويقول الباحث الرئيسي ديفون باول من معهد ماكس بلانك للفيزياء الفلكية في ألمانيا "لقد توقعنا العثور على جرم مظلم واحد على الأقل، ونتائجنا تتفق مع نظرية المادة المظلمة الباردة التي تفسر كيفية تشكل المجرات، والسؤال الآن: هل سنجد المزيد؟ وهل ستتطابق أعدادها مع النماذج النظرية؟".
و"المادة المظلمة الباردة" واحدة من أهم النظريات التي تفسر كيف تشكلت المجرات وبُني الكون كما نراه اليوم، وتدور حول أن الكون كان في بداياته مليئا بجسيمات غير مرئية لا تُصدر ضوءا ولا إشعاعا، لكنها تملك كتلة ضخمة جدا، وهي المادة المظلمة الباردة.
كانت هذه المادة تتحرك ببطء شديد مقارنة بسرعة الضوء، أي أنها ليست "سريعة أو ساخنة" كما في بعض النظريات الأخرى، وبسبب بطئها وثقلها تجذب المادة المظلمة المادة العادية كالغازات والغبار بفعل الجاذبية، لتتجمع تدريجيا وتشكل الهياكل الكبرى في الكون مثل المجرات والعناقيد المجرية.
ويرى باول أن نتائجهم تتفق مع نظرية المادة المظلمة الباردة، إذ إن اكتشاف الجرم المظلم الصغير يدعم فكرة أن المادة المظلمة يمكن أن تتكتل في تجمعات صغيرة كما تتنبأ به هذه النظرية، وهذا يعزز الاعتقاد بأن المادة المظلمة بالفعل هي "اللبنة الخفية" التي بنت المجرات منذ فجر الكون.

0 تعليق