خيارات السودان أمام ضغوط الرباعية الدولية - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يعد مبدأ السيادة ركنا أساسيا من أركان قيام الدولة الحديثة ووجودها، فمنذ اتفاق ويستفاليا عام 1648، الذي تم التوصل إليه بين الدول الأوروبية بعد حرب الثلاثين عاما، برز هذا المبدأ كشرط لازم لوجود الدولة الحديثة، واجتهد مفكرو النهضة لصياغة ذلك المبدأ وتطويره ليكون ركيزة من ركائز الدولة، ويقول توماس هوبز: (في كل دولة حقيقية يجب أن يكون هناك شخص أو هيئة تمتلك السلطة المطلقة والقصوى لإصدار القوانين، وأن تقسيم هذه السلطة يعني بالأساس تدمير وحدة الدولة).

بهذا المعنى يقرر توماس هوبز أن وحدة أي دولة يجب أن تقرَر بناء على مقدرتها في القيام بممارسة السلطة وإصدار القوانين وتنفيذها في كافة إقليمها، وذلك لأن (السيادة واحدة غير قابلة للتجزئة والتنازل، وهي ملك للدولة، ولا يمكن لأي جماعة أن تنتزع السيادة لنفسها، ولا يمكن لأي فرد أن يدّعيها لنفسه)، كما ينص عليه الدستور الفرنسي، وقد جاء ميثاق الأمم المتحدة مؤكدا هذه المعاني حين قرر أن (المنظمة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها).

وتتضمن السيادة مظاهر عدة، ومن أهمها:

السيادة الشخصية، وتعني امتلاك الدولة السلطة المطلقة داخل أراضيها. السيادة السياسية، وهي حرية تقرير شكل نظامها السياسي. السيادة الإقليمية، وهي امتلاك الولاية على رعاياها.

بهذا المفهوم يمكننا مقاربة العلاقة بين السودان واللجنة الرباعية الدولية التي تضم الولايات المتحدة الأميركية، المملكة العربية السعودية، جمهورية مصر العربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تقود جهودا مكثفة (لإنهاء الحرب).

وقد برز إلى السطح منذ بداية عملها اختلافات جذرية بينها وبين الحكومة السودانية، وعلى الرغم من اللقاءات التي تمت بين أطراف من الرباعية وقيادة مجلس السيادة السوداني، وآخرها لقاء الرئيس عبدالفتاح البرهان مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فإن المواقف لا تزال متباعدة جدا، وتجلت تلك الخلافات في التصريحات التي أدلى بها البرهان بعد عودته من مصر وأثناء أدائه العزاء لأحد شهداء القوات المسلحة في مدينة عطبرة شمالي السودان، حيث قال: (لا تراجع عن العهد، ولا تفاوض مع أي جهة كانت، سواء كانت رباعية أو غيرها).

إعلان

ومع تأكيده قبول المساعدة في إنهاء الحرب، إلا أنه شدد على أن (فرض السلام بشروط يرفضها الشعب السوداني لن يكون مقبولا).

وجاءت تصريحات البرهان هذه وسط حراك مكثف من قبل الرباعية؛ إعدادا لاجتماع جديد من المتوقع أن يلتئم نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2025، وكان الاجتماع السابق قد أقر خارطة للحل رفضتها الحكومة السودانية؛ لأنها ساوت بين الجيش والمتمردين من مليشيا الدعم السريع.

كما أن الحكومة تعترض ابتداء على وجود بعض الأطراف كأعضاء في الرباعية الدولية، وترى في بعض بنود خارطة الحل تدخلا سافرا في سيادة الدولة وانتقاصا من حقها في تقرير شأنها الداخلي.

تجارب السودان مع التدخلات الخارجية

ظل السودان عرضة للتدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية منذ أمد بعيد، إذ فتحت النزاعات الأهلية الممتدة بابا لهذه التدخلات منذ اتفاق أديس أبابا في عام 1972 بين الحكومة السودانية ومتمردي حركة الأنانيا في جنوب السودان وقتها، ومرورا بمسيرة طويلة من التدخلات في عهد حكومة الإنقاذ الوطني 1989-2019.

وبالنظر لتلك التدخلات يمكن استنباط بعض العوامل الثابتة كنمط ظل هو المسيطر على تعاطي القوى الخارجية مع السودان، وخاصة القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية:

كان العامل الأبرز، هو حرمان الجيش السوداني من تحقيق انتصار حاسم على المتمردين، وهو الذي حرك الولايات المتحدة الأميركية وبعض حلفائها الغربيين للعمل بجدية لإنهاء الحرب في جنوب السودان بعد التيقن من أن الجيش السوداني في طريقه لتحقيق انتصار نهائي على الحركة الشعبية لتحرير السودان، حين حاصرها في شريط ضيق على الحدود بين السودان وأوغندا.

حينها تولت الولايات المتحدة مهمة تسوية الأوضاع في جنوب السودان، وفقا لمعادلة سلّمت إقليم جنوب السودان للمتمردين ومكنتهم من الانفصال لاحقا مع موارد النفط التي كانت تشكل 75% من مصادر العملة الصعبة للدولة السودانية.

وفي الحرب الحالية، تجدد مفهوم حرمان الجيش من القضاء على المتمردين، وذلك بفرض عقوبات متتالية على الجيش السوداني كلما حقق انتصارا على الأرض، بل إن مبعوثها السابق للسودان توم بريليو لما رأى تقدم الجيش على الأرض وتحريره للعاصمة الخرطوم، صرح قائلا بأنه لا يوجد (منتصر عسكريا في حرب السودان).

العامل الثاني الذي يميز التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، هو فرض تسويات سياسية تحمل في أحشائها جرثومة تجدد النزاعات والحروب، أو تسهيل انفصال الأقاليم التي تتم بشأنها التسوية السياسية.

فقد قامت الولايات المتحدة إبان إدارة بوش الابن بممارسة ضغوط كثيفة على الحكومة السودانية من أجل تقديم تنازلات للحركات المسلحة في إقليم دارفور، والقبول بالقوات الدولية في الإقليم، وكانت نتيجة تلك الضغوط التوقيع على اتفاق أبوجا للسلام في عام 2006، والذي لم يصمد طويلا، حيث تجددت الحرب بأعنف مما كانت عليه، وانتشر السلاح في مناطق واسعة من الإقليم.

وما يعمق الخلاف حاليا بين الحكومة السودانية والرباعية الدولية، هو خشية الحكومة من فرض تسوية لا تمثل مصالح الشعب السوداني وتعمل على فرض رؤية بعيدة عن واقع ومسار الحقائق على الأرض، مما يمهد لجولة جديدة من النزاع تعمل على القضاء على كل المكاسب التي حققها السودانيون خلال العامين الماضيين بتضحياتهم ودمائهم ودموعهم.

إعلان

العامل الثالث الثابت في نتائج التدخلات الخارجية، هو المساهمة في إنتاج معادلات لتوزيع السلطة على أساس الموازنات غير العادلة، مما ينتج بيئة سياسية هشة وضعيفة، تنقل أجواء الصراع والانقسام إلى داخل الصف الحكومي، وتكون نتيجتها وجود قوى سياسية داخل الحكومة تعمل ضد الحكومة.

ويتذكر السودانيون أجواء المشاكسات داخل الحكومة بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005، وكيف أن وزير خارجية السودان دينق ألور كان ينادي بضرورة التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في الوقت الذي كان فيه موقف الحكومة السودانية المعلن هو عدم التعاون معها.

وما يؤرق بال الحكومة السودانية هو سعي بعض أطراف الرباعية لتسويق المليشيا وكأنها طرف سياسي يمتلك شرعية التفاوض ليكون جزءا من السلطة السياسية في البلاد، بينما ظل موقف الحكومة الثابت هو اعتبار المليشيا قوة مسلحة تمردت على الجيش السوداني، وقامت بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب ضد السودانيين، ولا يجب بأي حال مكافأتها على هذه الجرائم.

خيارات الحكومة السودانية

من الواضح أن الحكومة السودانية تتعرض لضغوط هائلة للقبول بالتسوية التي تعمل عليها الرباعية الدولية، التي تحاول أن تجعل خارطتها للحل عقد إذعان لا تمتلك الحكومة السودانية حق الاعتراض عليه أو تعديله.

ويمكن قراءة زيارة البرهان الأخيرة لجمهورية مصر كمحاولة لتنسيق المواقف مع الجارة مصر، والتي تعتبر أكثر المتأثرين مباشرة بتطورات الأوضاع الأمنية والإنسانية في السودان، ومن الداعمين لوحدة السودان والاعتراف بمؤسساته السيادية، شأنها شأن المملكة العربية السعودية التي أصدرت خارجيتها بيانا في مارس/آذار 2025 يرفض (أي خطوات أو إجراءات غير شرعية تتم خارج المؤسسات الشرعية لجمهورية السودان).

ومن الواضح كذلك أن الولايات المتحدة تحاول صياغة مبادئ فضفاضة تعبّر عن مصالح الأطراف المتناقضة في الملف السوداني داخليا وخارجيا، وهو ما أدى إلى شعور الحكومة السودانية بأن هناك محاولة لفرض مليشيا الدعم السريع كطرف متساوٍ مع الجيش والحكومة السودانية، وتسويق أجندة سياسية ظلت تتبناها بعض القوى المناهضة للجيش والمتماهية مع المليشيا.

ويبدو أن الولايات المتحدة استشعرت تحفظات الحكومة السودانية، فجاءت تصريحات مستشار ترامب للشرق الأوسط وأفريقيا تؤكد أن الحكومة السودانية حققت بعض التقدم (وفقا للمطالب الأميركية والإسرائيلية)، وهي قطع العلاقة العسكرية مع إيران، وتحسين العلاقة مع إسرائيل، ومحاصرة المتطرفين ولكن لا يبدو أن التقدم في تلك المطالب قد أثّر على مواقف الرباعية وتفهمها للسردية التي يتبناها الجيش السوداني لهذه الحرب.

وفي ظل هذه التعقيدات، يجب على الحكومة السودانية أن تتذكر أن الشعب السوداني وقف مع جيشه في أشد لحظات الحرب حرجا، ولم يتسلل إليه الشك في أن الجيش قادر على تحقيق النصر يوم كانت المليشيا تسيطر على كل العاصمة وولايات أخرى في وسط السودان، وأن هذا الشعب قدم تضحيات كبيرة من أجل استعادة دولته ومواصلة حياته.

ولذلك فإن الاستمساك بخيار الشعب والاعتصام بخياراته هو المنجاة من كل هذه الضغوط، ومن ثم فإن الحكومة السودانية بحاجة إلى التفكير خارج الصندوق لتسويق رؤيتها العادلة للحرب مع الاستعانة بأصدقاء السودان الحقيقيين لمساعدتها في استعادة الاستقرار في كافة ربوع البلاد.

كما أن الحكومة السودانية بحاجة إلى استحداث آليات وطنية توسع بها مظلة المشاركين في تحمّل المسؤولية الوطنية من القوى السياسية والشعبية التي تصطف خلف الجيش وتدعمه، ويمكن طرح مقترح تكوين برلمان انتقالي يكون بمثابة مظلة واسعة تتبلور تحت قبتها آراء القوى السياسية.

وفي نفس الاتجاه لا بد من العمل الجاد لنقل ثقل العملية السياسية إلى الداخل، بعودة الأحزاب والقوى السياسية إلى داخل الوطن؛ سعيا لتجريد القوى التي تعتمد على ضغوط الخارج من أي شرعية أخلاقية وسياسية. إن مواجهة هذه الضغوط تتطلب استنهاض كرامة الشعب السوداني وإرجاع الأمر إليه، لأنه صاحب الحق أولا وأخيرا.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق