Published On 31/10/202531/10/2025
|آخر تحديث: 20:59 (توقيت مكة)آخر تحديث: 20:59 (توقيت مكة)
كثير من السينمائيين يحملون في قلوبهم فيلما يشبه الحلم، مشروعا يسكنهم، وكلما اقتربوا منه يتبدد مثل السراب. "الإغواء الأخير للمسيح" (The Last Temptation of Christ) و"الصمت" (Silence) لمارتن سكورسيزي، و"الرجل الذي قتل دون كيشوت" (The Man Who Killed Don Quixote) لتيري جيليام، وغيرهما من المخرجين الذين عاشوا التجربة نفسها، ومؤخرا فيلم "فرانكشتاين" (Frankenstein) للمخرج المكسيكي جييرمو ديل تورو.
كان فيلم "فرانكشتاين" بالنسبة إلى غييرمو ديل تورو مشروع شغف شخصي طال انتظاره، إذ أمضى سنوات وهو يترقّب اللحظة التي تتكامل فيها عناصر النجاح: التمويل الكافي، والرؤية الإخراجية الناضجة، والتقنيات المناسبة. ولم تكن التأخيرات التي رافقت المشروع مجرّد عوائق إنتاجية عادية، بل نتيجة نموذج إنتاجي معقّد يجمع بين طموح سينمائي ضخم من جهة، ورؤية فنية غير مألوفة من جهة أخرى.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listوقد تحقق ذلك أخيرا بفضل إنتاج منصة نتفليكس، ليخرج الفيلم إلى النور في عرضه السينمائي الأول ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي، تلاه عرض خاص واحد في مهرجان الجونة السينمائي، قبل أن يُطرح بعرض محدود في بعض صالات السينما تمهيدا لمشاركته في سباق موسم الجوائز، وصولا إلى عرضه العالمي على منصة نتفليكس في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
"فرانكشتاين" من كابوس إلى أسطورة خالدة
"فرانكشتاين" مقتبس عن رواية بالاسم نفسه نشرتها الكاتبة ماري شيلي عام 1818 وهي في الـ20 من عمرها. وتمثل الرواية إرهاصة لأدب الخيال العلمي المقدم في عالم قوطي الطابع، والقوطية في الفن هي نمط بصري وسردي يجمع بين الغموض والرعب والرومانسية المظلمة.
ورغم نشر النسخة الأولى من الرواية من دون اسم الكاتبة ومن خلال دار نشر بسيطة وعلى أرخص نوع ورق متوفر، فإنها استطاعت غزو المجتمع الأدبي وجمعت حولها القراء، فصدرت منها طبعات أخرى ظهر عليها اسم الروائية الشابة، وشرحت في مقدمة طبعتها الثالثة المنابع التي استلهمت منها روايتها المختلفة عن كل ما كتب قبلها.
إعلان
عاشت ماري شيلي البريطانية في مراهقتها فترة في أسكتلندا، وفيها اقتربت من عوالم الاكتشافات الكهربائية الحديثة، وفي الوقت ذاته قرأت الترجمة الفرنسية لمجموعة القصص الألمانية "فانتاسماغوريانا" (Fantasmagoriana) التي تمزج بين الرعب والكوابيس.
واستحضرت ماري شيلي كابوسا مرعبا رأت فيه طالبا يصعق من رعبه بعدما أحيا جسدا مركبا من أجزاء بشرية، إلى جانب حلم سابق حاولت فيه أن تعيد ابنتها كلارا المتوفاة -بعد ولادتها مباشرة- إلى الحياة، وبدأت صياغة قصتها عن عالم يدعى فيكتور فرانكشتاين، يصنع إنسانا، لكن ابتكاره يتحول إلى مأساة تدمر حياته.
وقدمت الرواية على الشاشة الكبيرة مرتين من قبل، الأولى عام 1931 كأحد الكلاسيكيات الراسخة في سينما الرعب، في فيلم أخذ من الرواية جانبها المرعب وترك الفلسفة خلفه، أما النسخة الثانية فإنتاج 1994 للمخرج كينيث براناه، وقد سعى فيها إلى أن يكون أكثر وفاء للرواية من نسخة 1931، لكن الفيلم تلقى نقدا لكونه مميزا بصريا وضعيفا من حيث الجوهر.
ويحاول جييرمو ديل تورو في نسخته الخاصة صنع توازن بين تقديم فلسفة الرواية من ناحية، والإبهار البصري من ناحية أخرى، مع الإبقاء على الكثير من تفاصيل الرواية الأصلية قدر الإمكان.
الوحش الذي أراد أن يكون بشرا
يبدأ الفيلم بتقديم فيكتور فرانكشتاين، الذي يؤدي دوره أوسكار إيزاك، كطفل ينشأ بين أم حنون وأب صارم قاسي القلب. وسرعان ما يفقد أمه أثناء ولادتها لشقيقه الأصغر، رغم براعة والده الطبية النادرة في ذلك العصر. ومن تلك اللحظة المأساوية، يقرّر فيكتور أن يكرّس حياته لإيجاد حلٍّ للغز الموت والحياة.
وكما يعرف أغلب المشاهدين -حتى أولئك الذين لم يطالعوا الرواية أو يشاهدوا اقتباساتها السابقة التي رسّختها في الذاكرة الجمعية- تقوده عبقريته الجامحة إلى ابتكار كائنٍ جديد (يجسده جاكوب إيلوردي) مصنوع من أجزاءٍ بشرية مجمّعة من جثث مختلفة، آملا أن يستخلص من كل جسد أفضل ما فيه ليخلق إنسانا أسمى. غير أن التجربة تنقلب عليه، إذ يصدم بضعف الكائن في الفهم والتعلّم، فيقرّر في النهاية إجهاض المشروع والتخلّص من المخلوق الذي أوجده.
ويقسّم الفيلم سرد أحداثه، وفق الرواية الأصلية، إلى جزأين رئيسيين: الأول من وجهة نظر فيكتور، والثاني من وجهة نظر الكائن نفسه. ويحافظ العمل على أسلوب كلاسيكي في السرد الخطي من الماضي إلى الحاضر، إلا أن الجزء الأول يتميّز بإبهار بصري مذهل يعكس مرحلة التجربة الأولى في خلق الكائن وما تخللها من مشاهد رعب دموية متقنة. أما في النصف الثاني، ورغم خفوت عناصر الرعب تدريجيا، فإن التشويق النفسي والدرامي يتصاعد مع رحلة الكائن في البحث عن ذاته.
يعرض الفيلم بمهارة التناقض العميق بين العالِم ومخلوقه؛ فبينما يسعى فيكتور إلى تحدي الموت والتغلّب على الضعف البشري، يبحث الكائن بدوره عن جوهر الإنسانية، وعن معنى الضعف ذاته، حتى يصبح الموت بالنسبة إليه غاية ومطمحا لا مفرّ منه.
ويتعامل غييرمو ديل تورو مع قصة "فرانكشتاين" ليس كحكاية عن وحش وشرّ خيالي، بل كمرآة تعكس جوهر الإنسان نفسه. فهو يُقدّم فعل الخلق لا كإنجاز علمي فحسب، بل كفعل يحمل في داخله خطيئة الطموح والتمرّد على الطبيعة. ففيكتور فرانكشتاين لا يبتكر وحشا بقدر ما يخلق انعكاسا لغروره وجنونه البشري، في حين يتحوّل ما يُسمّى بالوحش إلى أكثر الشخصيات وعيا وإنسانية ومعاناة في الفيلم.
المرأة الغائبة في الرواية.. الحاضرة في الفيلم
أجرى جييرمو ديل تورو تغييرات عدة في الرواية، على رأسها زيادة مساحة شخصية إليزابيث (ميا جوث)، خطيبة أخ فيكتور، التي تستطيع التواصل مع الكائن بصورة وثيقة وتحتقر فيكتور لمعاملته للأخير، بينما في الرواية عانت هذه الشخصية وباقي الشخصيات النسائية من التهميش الشديد.
إعلان
وهو تهميش متعمد من الكاتبة التي ورثت رؤيتها النسوية من والدتها الكاتبة والمفكرة "ماري ولستونكرافت". فهي في روايتها تطرح بشكل متوار فكرة تجسد نموذج العلم الذكوري الطموح، الذي "يبدع" الحياة دون إشراك المرأة أو الطبيعة بطرق تقليدية، مما يضعه في موقع تشبث بالسلطة والسيطرة.
غياب المرأة الفاعلة في الرواية يستدعي تسليط الضوء على كيفية تهميشها في المجتمع الأبوي، بينما ظهورها في الفيلم يسلط الضوء على التغيرات التي حدثت في وضع المرأة في المجتمع، على الأقل من وجهة نظر المخرج.
يثبت جييرمو ديل تورو في "فرانكشتاين" أنه لا يصنع أفلام رعب بقدر ما يصنع أساطير إنسانية مغلفة بالظلام والجمال. فهو يواجه الحكاية الكلاسيكية بروح شاعر أكثر من كونه صانع مؤثرات، ويعيد إلى الذاكرة فكرة أن الوحش الحقيقي ليس من وُلد مشوها، بل من فقد رحمته باسم العلم والطموح.

0 تعليق