يتجاوز الحديث عن الحرب والسلام ليصل إلى جوهر الأزمة الحقيقية، أزمة قيادة عالمية تفقد بوصلتها الأخلاقية، ومصداقية تنهار أمام شعوب الجنوب العالمي، ومعايير مزدوجة تحول النظام الدولي إلى أداة قمع.
وفي قلب هذه الأزمة المتفاقمة، يكشف صوت قادم من قلب المؤسسة الأمنية الأميركية عن تناقضات لم يعد ممكنا تجاهلها، من المعايير النووية الانتقائية إلى غرف الأخبار التي تفتقر للتنوع الحقيقي.
وفي محاولة لفهم كيف تحولت القوة العظمى إلى مصدر للشك بدلا من الثقة، وكيف أصبحت المعايير المزدوجة القاعدة لا الاستثناء في نظام عالمي يفقد توازنه يوما بعد يوم، يواصل الجزء الثاني من برنامج "المنطقة الرمادية" -المكون من جزأين- استضافة الأدميرال المتقاعد نورمان هايز، المدير السابق للاستخبارات في القيادة الأوروبية للولايات المتحدة.
في حوار ينتقل من ساحات المعارك في السياسة الخارجية إلى الخطوط الأمامية لحرب المعلومات، طارحا أسئلة حول السلطة والحقيقة ومن يملك حق تشكيل الرواية في عصر من الارتباك الإستراتيجي.
وعلى الصعيد الأول من هذا النقاش، يبدأ الحوار بسؤال عن تأثير الانحياز الأميركي ضد الحقوق الفلسطينية على مصداقية واشنطن في الجنوب العالمي.
ويعترف هايز بأن الولايات المتحدة تواجه "قضية ضخمة" وأن عالميتها تتأثر بشكل خطير، مشيرا إلى أن جميع البلدان كانت تتطلع إلى أميركا للقيادة على مدى 250 عاما، لكن هذا الواقع تغير.
ويستشهد بمبدأ القيادة القائل إن "مع القوة العظيمة تأتي مسؤولية عظيمة"، موضحا أن القائد يجب أن يتمتع بمعايير معينة حتى يحترمه من يقودهم.
وبناء على هذا الطرح، يؤكد الأدميرال المتقاعد أن الولايات المتحدة فقدت هذه المكانة، وتحولت إلى دولة منقسمة في كل شيء تفعله تقريبا، مما تسبب في ظهور تشققات خطيرة في واجهتها.
لكنه يؤكد على أن الصين لا تستطيع ملء هذا الفراغ لأنها "تريد فقط استغلال الآخرين"، بينما يصف روسيا بأنها "دولة فاشلة" لكنها لا تعرف ذلك بعد، مشيرا إلى أن أهميتها الوحيدة تكمن في امتلاكها أسلحة نووية.
إعلان
وفي السياق نفسه المتعلق بالمنافسين الإستراتيجيين، بالنسبة للصين، يرى هايز أن لديها فرصة لتشكيل تحدٍ اقتصادي طويل الأمد، لكن مبادراتها الكبرى مثل "الحزام والطريق" واجهت إخفاقات كبيرة بسبب عدم قدرتها على العمل الحقيقي مع الدول الشريكة.
ويوضح أن الصين أرادت السيطرة الكاملة دون إعطاء البلدان المستضيفة فوائد حقيقية، مما أدى إلى انهيار الكثير من هذه المشاريع الطموحة.
النظام النووي
من محور القيادة العالمية إلى ملف أكثر حساسية، ينتقل الحوار إلى ركيزة أخرى من ركائز القوة العالمية، النظام النووي ومعاييره المزدوجة.
ويواجه هايز سؤالا مباشرا عن مصر التي قبلت التمديد غير المحدد لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بشرط انضمام إسرائيل، وهو ما لم يحدث قط، بينما تُقصف إيران رغم كونها من أكثر الأعضاء تعاونا وفق خبراء المفتشين.
ويعترف الأدميرال بوجود "معايير مزدوجة واضحة"، مشيرا إلى أن الخوف والمصالح السياسية تحكم التعامل مع هذا الملف أكثر من المبادئ القانونية.
وفي تطور مباشر لهذه الإشكالية النووية، يؤكد هايز أن إسرائيل لم تنضم قط لمعاهدة حظر الانتشار لأنها تريد الحفاظ على "الغموض الإستراتيجي" حول برنامجها النووي، معترفا بأن هذا الوضع يقوض مصداقية النظام العالمي لعدم الانتشار ويدفع دولا أخرى للتساؤل عن جدوى الالتزام بالمعاهدة.
ومن ملف السلاح النووي إلى ساحة حرب المعلومات، عند الحديث عن العلاقة بين الاستخبارات والإعلام، يؤكد الأدميرال على أن كليهما يبحثان عن الحقيقة، لكن الفارق الجوهري يكمن في كيفية جمع المعلومات.
ويوضح أن منظمات الاستخبارات تتمتع بميزة في صحة المعلومات بسبب طبيعة عملها الفريدة، مضيفا أن وكالات الاستخبارات تتأكد أحيانا من أن المنظمات الإخبارية تحصل على الحقيقة "إذا كان ذلك مناسبا سياسيا ودبلوماسيا للحكومة".
وفي صميم هذه العلاقة المعقدة بين الاستخبارات والإعلام، يتطرق النقاش إلى قضية التنوع الحقيقي في مؤسسات الاستخبارات والإعلام، ويكشف هايز -الذي كان تقريبا الأميركي من أصل أفريقي الوحيد في منصب رفيع بهذا المستوى- عن جذور المشكلة العميقة.
العنصرية في أميركا
ويؤكد أن نقص التنوع في مجتمع الاستخبارات الأميركي يعكس ثقافة المجتمع بأكمله، مشيرا إلى أن الأفكار العنصرية "متجذرة منذ زمن طويل" وليست وليدة اللحظة.
واستكمالا لهذا التشخيص، ينتقد هايز بشدة إلغاء برامج التنوع والإنصاف والشمول في أميركا، واصفا ذلك بـ"الكذبة الصريحة" وإنكار لمشكلة حقيقية ومستمرة.
ويختم الأدميرال المتقاعد برؤية حول كيفية إدارة غرفة أخبار بعقلية استخباراتية، ويؤكد على ضرورة التركيز على المستقبل وليس فقط على الحاضر، داعيا إلى التفكير الإستراتيجي طويل المدى واتخاذ قرارات اليوم بناء على رؤية للعقود القادمة.
ويؤكد أن غرف الأخبار يجب أن تسبق المشاكل وتبدأ الحديث عن حلول ممكنة للتحديات المستقبلية، بدلا من مجرد وضع ضمادات على الجراح اليومية.
وفي نهاية المطاف، تبقى الرسالة واضحة وفقا لهايز: معركة الحقيقة لم تكن أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، والفشل في مساءلة السلطة يحولنا إلى أدوات في يدها.
إعلان
Published On 4/11/20254/11/2025
|آخر تحديث: 16:06 (توقيت مكة)آخر تحديث: 16:06 (توقيت مكة)

0 تعليق