Published On 6/11/20256/11/2025
|آخر تحديث: 02:49 (توقيت مكة)آخر تحديث: 02:49 (توقيت مكة)
على هوامش جدل النهضة المعاقة عربيا، ثمة مساحة كبيرة للنقاش حول واحدة من أهم مظاهر هذه الإعاقة العربية الراهنة، وهي أزمة الدولة الوطنية الحديثة التي ظلت تراوح مكانها حائرة بين عصبية البداوة الخلدونية، وسطوة القوة الفيبرية، فلا هي التي تخلدنت ولا هي التي تفْيَبرت، ومضت في طريقها كبقية تجارب الشعوب والأمم من حولها، في إقامة دولة تستمد شرعية وجودها وبقائها من رضا المحكومين لا الحاكمين.
ففي هذا السياق، يبرز السؤال العريض والدائم، وهو هل فشلت أو أُفشلت فكرة الدولة الوطنية عربيا؟ وهل لهذا الفشل علاقة بتراث العرب أم بإرث المستعمر، ومحاولة تقليده في تلك الدولة التي صنعها على عينه وتركها لنا من بعده ورحل جسدا وبقي شبحا يهيمن على كل تفاصيل حياتنا؟ وهل بالفعل أن الدولة الوطنية الحديثة هي صنيعة استعمارية لا يمكن استثمارها وإعادة صياغتها وفقا لخصوصياتنا الحضارية كما يسميها أنور عبدالمالك؟
الدولة الخلدونية التي عرفها العرب باكرا هي الدولة التي يرى ابن خلدون أن البداوة مادتها وأصلها، وأن العصبية هي شرعيتها، وأن عادة العرب جرت على هذا النوع من الدول قرونا طوال، وأن دولة ما بعد الاستعمار لم تعد تشبه العرب في شيء، فهي دولة مستوردة، كما وصفها الفيلسوف الفرنسي برتران بادي، وهي دولة لا تشبه هذه المجتمعات؛ لأن الدولة الوطنية الحديثة هي بنت بيئتها الغربية، ونتاج ديناميكيتها الاجتماعية والثقافية والسياسية المغايرة لديناميات المجتمعات العربية والشرق عموما.
ففي كتابه الدولة المستوردة، قدم برتران بادي- وهو مؤرخ وأستاذ في معهد باريس للدراسات السياسية، ذو أصول عربية- تحليلا نقديا لكيفية فرض النموذج السياسي الغربي الحديث كالديمقراطية الليبرالية والدولة القومية، على الدول النامية، خاصة في العالمين؛ العربي والإسلامي، كأداة للهيمنة الاستعمارية والعولمة.
إعلان
وذهب بادي لأبعد من ذلك في وصفه لهذه الدول بأنها "مستوردة"؛ لأنها لم تنشأ عضويا من ديناميكيتها الثقافية والاجتماعية الداخلية، بل تم استيرادها عبر الاستعمار والتدخلات الخارجية، مما يؤدي إلى تناقضات عميقة وفشل في التكيف.
ولهذا يركز بادي على ثلاث نقاط جوهرية في فكرته عن الدولة المستوردة عربيا والعالم ثالثيا أيضا، وأولها: هو تغريب النظام السياسي حيث يركز بادي على كيفية عمل الاستعمار الأوروبي على نقل مفاهيم مثل السيادة والتمثيل الشعبي، دون مراعاة التراث الإسلامي، أو الشرقي وخصوصياته، مما خلق دولا "هجينة" غير مستقرة، لا تعكس خلفية مجتمعاتها الثقافية والاجتماعية والدينية.
ثانيا: مشكلة التوتر بين التراث والحداثة، حيث يقارن بادي بين تطور الدولة في الغرب، من خلال التفويض الديني والتمثيل، بعكس العالمين؛ العربي والإسلامي، حيث يفتقر النموذج المستورد إلى الشرعية الثقافية، مما يؤجج الصراعات الداخلية بشكل دائم.
النقطة الثالثة: هي مشكلة الهيمنة الثقافية والسياسية فمنذ عصر الأنوار، ترافق الهيمنة السياسية للغرب بهيمنة ثقافية، تحول الدول الجنوبية إلى "مستورِدة" لكل شيء من الأشياء والأفكار، وهو ما يجعل هذه الدول المستورَدة دولا وظيفية تخدم مصالح القوى الكبرى بدلا من شعوبها.
ولهذا يحذر برتران بادي من أن هذا الاستيراد يؤدي إلى دول "مستحيلة" أو غير قابلة للاستمرار، مع دعوة لإعادة بناء النظم السياسية بناء على الخصوصيات المحلية لتحقيق السيادة الحقيقية.
والدولة المستوردة هنا هي غير الدولة "المستحيلة"، في توصيف نظيره الكندي فلسطينيّ الأصل وائل حلاق، والذي هو الآخر يأخذ منحى آخر للنقاش، لكنه ربما يصل إلى نفس نتيجة برتران بادي فيما يتعلق باستحالة قيام دولة بهذه المقدمات والشروط الموجودة لفكرة الدولة الحديثة، وخاصة فيما يتعلق بالدولة الإسلامية التي يراها وائل حلاق مستحيلة التحقق وفقا لقالب وهياكل وفكرة الدولة الحديثة عموما.
ففي كتاب الدولة المستحيلة الذي صدر عام 2013 قدم وائل حلاق، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كولومبيا، مقاربة مثيرة للجدل حيث ركز كتابه على تحليل نقدي لمفهوم "الدولة الإسلامية" في سياق الحداثة الغربية، معتبرا أن هذا المفهوم يحمل تناقضا داخليا جوهريا يجعله مستحيل التحقيق، بناء على أي تعريف سائد للدولة الحديثة.
قد يقول البعض إن الكتاب وصاحبه لا يهدفان إلى إحباط المسلمين، بقدر ما يسعيان إلى فتح نقاش أخلاقي يعيد هيكلة الحداثة من منظور إسلامي، مع التركيز على أن أزمة الإسلام السياسية هي جزء من مأزق عالمي أوسع وأبعد، لكنه أيضا يقود لنفس النتيجة فيما يتعلق بفتح نافذة النقاش بلا أفق للحل أصلا، مما يجعل مأزق وأزمة الدولة الحديثة في العالم العربي، يبدوان وكأنهما غير قابلين للحل.
ينطلق وائل حلاق ويبني حجته على مقارنة جذرية بين نموذج الحكم الإسلامي التقليدي الذي يصفه بـ"الحكم الإسلامي النموذجي" أو "Paradigmatic Islamic Governance" والدولة الحديثة أوروبية الأصل، حيث يرى حلاق أن الدولة الإسلامية المعاصرة- كما يدعو إليها الإسلاميون مثل جماعة الإخوان أو حزب التحرير- غير قابلة للتوفيق مع الدولة الحديثة؛ لأنها تتطلب تبنيا كاملا لآلياتها غير الأخلاقية، مما يؤدي إلى فقدان الجوهر الإسلامي لهذه الدولة المنشودة.
إعلان
ومثل هذا الطرح الذي يحصره وائل حلاق في نظرة الإسلاميين أو الإسلام السياسي للدولة الحديثة، حتما يلتقي مع مقاربة برتران بادي، غير أن بادي لم يغلق أفق النقاش، وتحدث عن فكرة الاستنبات والتبْيِئة لفكرة الدولة مع خصوصيات المجتمع وثقافته، بعكس حلاق الذي أغلق مجال النقاش في عدمية التقاء الدولة الإسلامية مع آليات وجوهر وفكرة الدولة الحديثة عموما.
بالعموم، إن مثل هذا النقاش الذي لا يزال قائما اليوم ويعكس حقيقة جوهرية فيما يتعلق بتجربة الدولة العربية المعاصرة، وهي الدولة الهجينة التي ظلت تراوح مكانها، ولم تستطع النخبة العربية السياسية والمفكرة ولا الأكاديمية، القيام بأي محاولة لتبيئة الدولة الحديثة وفقا لواقعنا وتراثنا العربي السياسي والاجتماعي، والأدهى من ذلك أن ثمة محاولات يتيمة لكن لم يكتب لها النجاح والانتشار.
من تلك المحاولات ما قام بها المفكر العربي واليساري القبطي أنور عبدالمالك في مشروعه الفكري الذي ضمنه عديدا من كتبه كـ"الفكر العربي في معركة النهضة" و" رياح الشرق" و"الإبداع والمشروع الحضاري"، والذي طرح فيه مقاربة غاية في الأهمية وهي فكرة الخصوصية الحضارية للدولة في العالم العربي بكامل أبعادها الروحية والدينية والثقافية والاجتماعية، وهو القادم من خلفية دينية وأيديولوجية مرت بحالة صدام مع فكرة المشروع الحضاري الإسلامي للمنطقة العربية ككل، ومع ذلك لم يتجاوز هذه الحقيقة بأهمية المواءمة مع تراث المنطقة.
لا يعني هذا أن أنور عبدالمالك حاول وحيدا أن يضع مقاربة في سياق أزمة الفشل الراهن للدولة العربية الحديثة، بل ثمة إسهامات عدة كإسهامات محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، اللذين ركزا على البعد الفكري المعرفي لأزمة الدولة في العالم العربي، فيما ركز برهان غليون، وعزمي بشارة على البعد السياسي المؤسساتي المتعلق بالديمقراطية والمواطنة، فيما ذهب هشام شرابي لمقاربة البعد الاجتماعي للأزمة المتمثلة بالأبوية الأناركية والبنى التقليدية للمجتمع العربي.
ومع هذا، تبقى ثمة مساحة واسعة للنقاش في هذا الجانب، مما يعني الحاجة لاستمرار النقاش حول هذه الأزمة التي ليست مستحيلة الحل، ولكن مقاربتها يجب ألا تتخطى فكرة الخصوصية الثقافية للمجتمع، وأن كل مجتمع يمكنه أن يبدع تجربته الخاصة، وأن فكرة الدولة الحديثة مثلما نجحت في مجتمع فشلت في أخرى، لا يعني أنها فكرة فاشلة بقدر ما يعني أنه يجب أن يعاد النظر إليها من زاوية أن الدولة، هي مشترك بشري تاريخي، ولكن هذا المشترك يجب أن يعاد صياغته وفقا لظروف كل مجتمع وسياقاته التاريخية والاجتماعية والثقافية ككل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق