العلاقة بين مدينتي القدس والخليل تعود إلى مئات السنوات، ومرت عبر التاريخ بمراحل ازدهار جعلت أبناء الخليل جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي المقدسي، فقد اندمج الخلايلة مع أهل القدس وسكنوا أحياءهم وعملوا في وظائفهم، كما برزت منهم شخصيات قادت الحياة السياسية والتربوية والاجتماعية في المدينة المقدسة.
تاريخ الهجرة
امتدت العلاقة بين الخليل والقدس إلى أكثر من 500 عام وفق أرشيف محكمة القدس الشرعية، إذ تضمنت أواصر عائلية وسياسية واقتصادية وإدارية متينة.
وقد جمع بينهما عدد من المؤلفات التاريخية كان من أبرزها كتاب "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" الذي يتناول تاريخ المدينتين ومعالمهما وسِير العلماء فيهما لمؤلفه المقدسي مجير الدين الحنبلي ومحققه الخليلي عدنان أبو تبانة.
ورغم عدم معرفة تاريخ أولى الهجرات الخليلية إلى القدس فإنها مرت بمراحل مفصلية شهدت المدينة في غضونها توافدا متزايدا من أهل الخليل، مما أسهم في تشكيل ملامحها الديمغرافية والسياسية والاقتصادية.
وبدأت موجات الهجرة المكثفة مع أواخر القرن الـ19 في ظل الحكم العثماني لفلسطين، ثم تكررت بصورة أوضح في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الـ20 إبان الانتداب البريطاني وتصاعد الهجرات اليهودية إلى القدس.
دفعت محاولات الحركة الصهيونية شراء الأراضي وتوسيع الوجود اليهودي آنذاك علماء بيت المقدس وقياداتها إلى التحرك، وكان في مقدمتهم أمين الحسيني مفتي القدس رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الذي دعا أهل الخليل عام 1934 إلى الانتقال والاستقرار في القدس، للمحافظة على طابعها العربي والإسلامي.
يذكر أن محادثة دارت بين الحسيني ورئيس بلدية الخليل آنذاك محمد الجعبري أكدت على أهمية مساندة أهل الخليل للقدس، وتحديدا بلدتها القديمة، واقترحت عليهم العمل والإقامة في أسواقها وأحيائها، فصارت أسواق القدس تزخر بالفتيان الخلايلة الذين يعملون في محال المقدسيين، ثم ما لبثوا أن برعوا في التجارة وملكوا متاجرهم الخاصة في أزقة القدس القديمة.
إعلان
وأدى توافدهم إلى جانب مهاجرين من مناطق فلسطينية أخرى إلى نشوء تجمعات سكنية مصغرة داخل المدينة توسعت تدريجيا حتى شكلت أحياء امتدت خارج الأسوار القديمة، واندمجت في نسيج المدينة عبر المصاهرة والنسب، فصار يصعب التمييز بينها وبين العائلات المقدسية الأصيلة.
وحافظ الخلايلة المهاجرون على روابطهم مع مدينتهم الأم، فاحتفظ كثير منهم بأنسابهم، في حين غيّر بعضهم أسماء عائلاتهم بما يتناسب مع المهن التي عملوا بها أو القرى والمناطق التي لجؤوا إليها داخل القدس.
دوافع الهجرة
دفعت عوامل عدة سكان الخليل إلى الهجرة والإقامة في بيت المقدس كان من أبرزها:
المكانة الدينية للقدستتمتع القدس بمكانة دينية فريدة لدى المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فهي تحتضن المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة.
كما أنها شكلت مقصدا لطالبي العلم والمعرفة الشرعية في مصاطب الأقصى التي استقطبت الدارسين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي للإقامة فيها، ومن بينهم أهالي الخليل.
الاضطرابات المحلية في الخليلاندلعت ثورة فلسطينية عام 1834 ضد حكم إبراهيم باشا نتيجة فرضه الضرائب الباهظة والتجنيد الإجباري على السكان، وكان أهالي الخليل من أبرز المشاركين فيها.
استهدف إبراهيم باشا المدينة بحملة عسكرية استخدم فيها المدافع والبنادق لقمع الثوار، مما زعزع أمن الخليل واستقرارها.
كما عانت المدينة على مدى سنوات طويلة من نزاعات داخلية بين عائلاتها كان أبرزها الصراع بين الأكراد والتميميين، وقد نشأ بين العائلات التي أسكنها صلاح الدين الأيوبي الخليل بعد تحريره فلسطين وأسند إليهم إدارة المدينة، والعائلات العربية الأصيلة المنحدرة من نسل بني تميم.
اتسعت تلك النزاعات بعد القرن الـ17 مشكّلة تحالفات عائلية كبرى، تمثل الأول في تحالف اليمينيين الذي ضم العائلات العربية الأصيلة، والثاني في تحالف القيسيين الذي ضم العائلات ذات الأصول الكردية.
اندلعت الشقاق في معظمه حول الزعامة الإدارة المحلية، وأدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، مما دفع كثيرا من الأهالي إلى الهجرة نحو مدن فلسطينية أخرى كانت القدس في مقدمتها.
شهدت القدس تطورا ملحوظا في طرق المواصلات في أواخر القرن الـ19، إذ أنشئت سكة حديد بين القدس ويافا عام 1892، كما شق شارع القدس يافا الذي ربط المدينة بالساحل الفلسطيني.
وأسهمت هذه التطورات في تسهيل حركة التنقل بين القدس والمدن والقرى المجاورة، وربطها بمراكز النشاط الاقتصادي والإداري في فلسطين، مما قاد إلى ازدهار اقتصادها، خصوصا مع نشاط الحركة السياحية والدينية الناتجة عن توافد الحجاج والسياح إلى المدينة.
ازدهار التجارةشهدت أسواق القدس القديمة نشاطا تجاريا متنوعا منذ القدم، لكنها شهدت نقلة نوعية مع أواخر العهد العثماني وأثناء الانتداب البريطاني، إذ رصفت الطرق المؤدية إلى الأسواق وداخلها، وأنشئت فيها قنوات للصرف الصحي، كما امتدت الأسواق إلى خارج أسوار البلدة القديمة، ولا سيما باتجاه باب الخليل.
إعلان
وأدت الهجرات المتتالية إلى القدس من مختلف الجاليات العربية والأجنبية إلى تنوع الحرف والمهن في السوق المقدسية، إذ ظهرت مهن لم تكن مألوفة في البيئة الفلسطينية، مثل العزف والتصوير الفوتوغرافي، إلى جانب الفندقة والسياحة التي فرضتها طبيعة المدينة المفتوحة أمام الزوار من مختلف الديانات.
وفي الوقت ذاته، كان مزارعو الخليل يعانون من أوضاع اقتصادية صعبة، فرغم التحسن النسبي الذي شهده الاقتصاد في ظل الاحتلال البريطاني فإن الفجوة الطبقية بين ملاك الأراضي والعاملين زادت.
ومع تصاعد المجاعة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في فلسطين اضطر عدد كبير من أهل الخليل إلى الهجرة نحو القدس بحثا عن فرص عمل أفضل بهدف تحسين أوضاعهم المعيشية.
مظاهر الحداثة في القدسشهدت القدس في أواخر القرن الـ19 نهضة عمرانية وحضارية في ظل الحكم العثماني شملت إدخال الكهرباء إلى المدينة، وتأسيس منشآت حيوية مثل المشافي والمدارس، إلى جانب تنظيم القضاء والجيش والتعليم.
ورغم إعاقة الحرب العالمية الأولى ذلك التطور فإن الانتداب البريطاني عمل بعد سيطرته على فلسطين على مشاريع تخدم مصالحه الاستعمارية في المدينة المقدسة، مثل إدخال السيارات إلى شوارعها، وتأسيس نظام البريد الحديث، ودمج النشاط المالي في قطاع مصرفي جديد، إضافة إلى ظهور معالم الرفاهية في الحياة اليومية من مقاه ودور سينما ومتاحف.
وجذبت النهضة الحديثة المهاجرين الفلسطينيين من مختلف المناطق للإقامة في القدس، وكان من بينهم عدد كبير من أبناء الخليل.
نخبة الخلايلة في القدس
كان لأبناء الخليل الذين هاجروا إلى القدس دور بارز في صياغة المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المدينة، إذ قادت نخبة منهم مؤسساتها الوطنية والدينية والتعليمية، وبرز منهم:
أنور الخطيب التميميوُلد أنور الخطيب التميمي في الخليل عام 1917، وحاز على شهادة الحقوق في القدس عام 1947، تولى عقب نكبة 1948 منصب الحاكم الإداري للقدس، وشغل بعد ذلك بعام رئاسة بلديتها وبقي على رأس عمله حتى 1950، ثم أعيد تعيينه عام 1965 في منصب محافظ القدس.
كان له دور رئيس في تأسيس عدد من المؤسسات المقدسية، من أبرزها جمعية دار اليتيم العربي والهيئة الإسلامية العليا، كما انتُخب ممثلا في الوفد الفلسطيني لمحادثات مؤتمر مدريد للسلام عام 1991.
وقف التميمي بحزم أمام محاولات الاحتلال السيطرة على مستشفى المقاصد الإسلامي في القدس وتحويله إلى ثكنة عسكرية، فأسهم في استمرار عمله الطبي والإنساني لخدمة الفلسطينيين.
وامتد نشاطه إلى الساحة العربية، فعمل سفيرا للأردن في مصر، وتولى حقائب وزارية عدة في حكومات مختلفة، وربطته علاقة وثيقة بالرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر.
نهاد أبو غربيةوُلد نهاد أبو غربية في القدس عام 1913 لعائلة تنحدر من مدينة الخليل، تلقى تعليمه في مدارس القدس والخليل، ثم التحق بسلك التعليم في المدرسة الإبراهيمية بالقدس، والتي شغل لاحقا رئاستها بين عامي 1931 و1945.
طوّر أبو غربية المدرسة لاحقا إلى كلية، وصار رئيس مجلس أمنائها منذ عام 1983 حتى وفاته عام 2009.
ترأس لجنة المدارس الخاصة في القدس عام 1991، وبقي على رأسها حتى وفاته، كما عُيّن عضوا في مجلس أمناء كلية العلوم والتكنولوجيا بجامعة القدس، إلى جانب الكلية المهنية التابعة للجنة اليتيم العربي.
رفض أبو غربية إلى جانب عدد من التربويين المقدسيين فرض المناهج الإسرائيلية على مدارس القدس عقب نكسة 1967، مما حافظ على عربية التعليم وإسلاميته.
" frameborder="0">
حي الخلايلةقبيل نكسة 1967 أقدم أحد أفراد عائلة فراح الخليلية على شراء أراض زراعية شمال غربي القدس، ثم باعها إلى معارفه من أبناء الخليل فسكنوها وعملوا فيها، وصارت المنطقة تُعرف باسم "حي الخلايلة"، وسرعان ما استقر فيها فلسطينيون من مختلف المناطق بعد ذلك.
إعلان
سيطر الاحتلال الإسرائيلي على المنطقة عقب النكسة، ثم عزلها عن محيطها عام 2003 عن طريق إقامة جدار العزل، إلى جانب تطويقها بـ4 مستوطنات إسرائيلية، مما همش أهلها الذين تقدر أعدادهم بنحو 650 نسمة.
ورغم إقرار اتفاقية أوسلو بإدارة السلطة الوطنية الفلسطينية لهذه الأراضي فإن سلطات الاحتلال فرضت عام 2025 على سكانها تصاريح خاصة للتنقل عبر الحاجز العسكري المقام عند مدخل القرية، في خطوة اعتبرت سكانها مقيمين لا ملّاكا للأرض، الأمر الذي وصفته بلدية القدس بأنه "ضم فعلي غير معلن" للمنطقة إلى الحدود الإسرائيلية.
الخليل نصرة للقدس
في أوائل أبريل/نيسان 1920 دخل وفد من أهالي الخليل مدينة القدس للمشاركة في احتفالات موسم النبي موسى رغم محاولات سلطات الانتداب البريطاني منعهم.
واعتدت مجموعة من المستوطنين على المحتفلين قرب باب الخليل، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات أسفرت عن استشهاد 4 فلسطينيين ومقتل 5 يهود.
دفعت الحادثة قادة الحركة الوطنية الفلسطينية أمثال موسى الحسيني والمفتي أمين الحسيني إلى الدعوة لمواجهة الهجرة اليهودية والانتداب البريطاني ووعد بلفور، مما مهد الطريق لاحقا لاندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
وبعد 9 سنوات من حادثة موسم النبي موسى اشتعلت ثورة البراق في المدن الفلسطينية -ومن بينها الخليل- إثر تنظيم اليهود مظاهرة ضخمة بالقدس في ما يسمونها ذكرى "تدمير هيكل سليمان"، إذ وصلوا إلى حائط البراق ورددوا جواره "النشيد القومي الصهيوني" وشتموا المسلمين.
اعتقل الاحتلال البريطاني نحو 26 فلسطينيا شاركوا في الدفاع عن المسجد الأقصى وحائط البراق، وأعدم 3 منهم بتهمة قتل يهود، كان من بينهم شهيدان من مدينة الخليل هما عطا الزير ومحمد جمجوم، إلى جانب فؤاد حجازي من مدينة صفد.

0 تعليق