دخلت الولايات المتحدة مرحلة جديدة من الفوضى الاقتصادية واللوجستية مع اتساع تأثير الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخها، إذ أعلنت كبريات شركات الطيران الأميركية عن إلغاء مئات الرحلات الداخلية، وتعديل آلاف المسارات الجوية، في محاولة للتكيّف مع قرارات الطوارئ التي فرضتها إدارة الطيران الفدرالية.
وتأتي هذه التطورات في وقتٍ تتزايد فيه التحذيرات من تداعيات اقتصادية قد تتجاوز 15 مليار دولار أسبوعيا، وفق تقديرات نقلتها بلومبيرغ، في حين تتصاعد شكاوى العاملين في المطارات من الإرهاق والضغوط النفسية وغياب الأجور.
خفض تدريجي للرحلات في 40 مطارا رئيسيا
وذكرت هيئة البث البريطانية "بي بي سي" أن إدارة الطيران الفدرالية أصدرت أمرا طارئا يقضي بخفض الرحلات الجوية الداخلية في 40 مطارا رئيسيا عبر البلاد، في خطوة تُوصف بأنها "غير مسبوقة في تاريخ النقل المدني الأميركي".
وتبدأ الخطة بخفضٍ تدريجي بنسبة 4% اليوم الجمعة، وترتفع إلى 6% الثلاثاء المقبل، ثم 8% الخميس المقبل، لتصل إلى 10% بحلول 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، في محاولة لتقليل الضغط عن المراقبين الجويين الذين يعملون منذ أكثر من 5 أسابيع من دون رواتب.
وتشمل قائمة المطارات المستهدفة أبرز المراكز الجوية في الولايات المتحدة: جون كينيدي ونيوارك ولا غوارديا في نيويورك، ولوس أنجلوس الدولي، وأتلانتا، وشيكاغو، ودنفر، وهي ممرات جوية مسؤولة عن عشرات آلاف الرحلات اليومية، وقالت الإدارة إن القرار يستند إلى بيانات أمان أظهرت "علامات ضغط متزايدة على نظام الطيران الوطني".
وأكد وزير النقل شون دافي في مقابلة مع شبكة "سي بي إس نيوز" أن القرار "ليس سياسيا بل ضرورة تشغيلية"، مضيفا "بعض المراقبين يعملون 10 ساعات يوميا و6 أيام في الأسبوع، ومع الإرهاق تتضاعف الأخطاء المحتملة. نحن نتحرك بشكل وقائي قبل أن تتحول الأزمة إلى كارثة".
إعلان
وأشار دافي إلى أن السلطات ستنشر البيانات الفنية لاحقا "لضمان الشفافية"، لكنه حمّل الكونغرس والرئيس دونالد ترامب مسؤولية التأخر في إنهاء الإغلاق، قائلاً "إذا أراد أحدهم الاعتراض، فليفتح الحكومة".
أكثر من 800 رحلة ملغاة خلال يوم واحد
وبحسب بيانات بلومبيرغ، فإن عدد الرحلات الملغاة تجاوز 800 رحلة في يومٍ واحد فقط، مع ارتفاع متوقع في الأيام المقبلة. وأوضحت شركة التحليلات الجوية "سيريوم" أن من أصل 25 ألفا و375 رحلة مقررة اليوم الجمعة، تم إلغاء 748 منها (نحو 3% من الإجمالي)، في حين يتوقع أن يصل العدد إلى 4 آلاف رحلة يوميا مع بلوغ نسبة الخفض القصوى.
وتتحمّل الشركات الأربع الكبرى الجزء الأكبر من الخسائر، إذ ألغت "يونايتد" 510 رحلات حتى الأحد القادم، في حين ألغت "أميركان إيرلاينز" نحو 220 رحلة يوميا حتى الاثنين المقبل، و"دلتا" 170 و"ساوث ويست" 120.
وقالت بلومبيرغ إن شركة "يونايتد" قررت أن تركّز التخفيض على الرحلات الداخلية القصيرة التي لا تربط بين مراكزها الأساسية لتقليل الضرر على الرحلات الدولية والعابرة للقارات.
وأكد محلل الطيران توم فيتزجيرالد في مقابلة مع "بلومبيرغ تي في" أن ما يحدث "يشبه عاصفة ثلجية وطنية أكثر منه انهيارا كاملاً"، محذرا من أن "مدة الأزمة هي العامل الحاسم، فكل أسبوع إضافي يعني خسائر أكبر، ومطارات أكثر شللاً".
المراقبون الجويون بين الإرهاق والإفلاس
وفي تقارير "بي بي سي" من الميدان، تتكشف صورة قاتمة للعاملين في أبراج المراقبة الجوية. فهناك نحو 13 ألف مراقب يعملون حالياً دون أجر، بعدما تلقوا آخر رواتبهم قبل ستة أسابيع.
وروى المراقب الجوي جاك كريس، الذي يعمل في قاعدة "أندروز" العسكرية بولاية ماريلاند، أنه بدأ توصيل الطلبات عبر تطبيق "دورداش" أثناء فترات استراحته لتغطية نفقات أسرته. وقال لـبي بي سي: "أحب عملي وأخدم بلدي، لكننا لا نستطيع أن نعيش بلا أجر. أشعر أننا خُذلنا".
أما نيك دانييلز، رئيس نقابة المراقبين الجويين، فصرّح لـسي بي إس نيوز بأن "المعاناة لم تعد مالية فقط، بل نفسية أيضاً"، مضيفاً: "تلقينا تقارير عن مراقبين تم إخلاؤهم من منازلهم لعجزهم عن دفع الإيجار، والبعض بدأ فعلاً بتقديم استقالته بعد 20 عاماً من الخدمة". وأكد أن أحد المراقبين "تم طرده من شقته صباح الجمعة"، بينما آخرون يعملون أكثر من 60 ساعة أسبوعياً "تحت ضغط هائل".
تداعيات اقتصادية عميقة تتجاوز المطارات
وتُظهر بيانات بلومبيرغ إيكونوميكس أن الإغلاق الحكومي، الذي دخل يومه الـ38، يسبب خسائر تتراوح بين 10 و30 مليار دولار أسبوعياً، بمتوسط 15 ملياراً.
وإذا استمر حتى عطلة عيد الشكر (27 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري)، فإن النمو الاقتصادي في الربع الرابع قد يتراجع بما يصل إلى نقطتين مئويتين، في حين قد لا تُستعاد خسائر تُقدّر بـ 14 مليار دولار.
وأشار كبير الاقتصاديين في بنك باركليز جوناثان ميلار إلى أن "الإغلاقات السابقة كانت قصيرة الأمد وأثرها مؤقت، لكن هذه المرة مختلفة تماماً، فالوضع الاقتصادي أكثر هشاشة، والمواطنون يعانون من تضخم مرتفع وتراجع فرص العمل".
إعلان
وأضاف: "ما يجعل الأمر مقلقاً هو أن الضرر لا يقتصر على الموظفين الفدراليين، بل يمتد إلى الملايين من الأميركيين الذين يعتمدون على برامج المساعدات الغذائية، والخدمات التعليمية الممولة من الحكومة".
ويواجه نحو 42 مليون أميركي خطر انقطاع المساعدات الغذائية، حيث أعلنت إدارة ترامب أنها ستغطي نصف المخصصات فقط امتثالاً لحكم قضائي، وهو ما قد يستغرق أسابيع قبل أن يُنفّذ. كما تضررت برامج مثل "هيد ستارت" التعليمية، إذ فقد أكثر من 8 آلاف طفل إمكانية الالتحاق بالمراكز اليومية بسبب نقص التمويل.
شركات الطيران والمستهلكون في مأزق مزدوج
وقالت بلومبيرغ إن شركات الطيران الأميركية تحاول التكيّف مع الانخفاض الإجباري في السعة التشغيلية، إذ لجأت إلى خفض الرحلات القصيرة وتدوير الطواقم بين الولايات لتقليل الخسائر. ومع ذلك، بدأت آثار الأزمة تظهر على موسم الحجوزات الحيوي المرتبط بعطلة نهاية نوفمبر/تشرين الثاني.
وأكد الرئيس التنفيذي لـ"أميركان إيرلاينز" بوب إيسوم في مقابلة مع سي إن بي سي أن "التخفيض بدأ فعلاً يؤثر على الحجوزات لعطلة عيد الشكر، وهي واحدة من أكثر الفترات ازدحاماً في السنة".
وأشار تقرير بلومبيرغ إلى أن وزارة النقل الأميركية حذّرت من أن أي شركة تتجاوز الحدود المسموح بها للطاقة التشغيلية قد تواجه غرامة تصل إلى 75 ألف دولار عن كل رحلة إضافية. وأكدت أن الهدف هو "ضبط النظام وليس معاقبة الشركات"، لكنها حذّرت من أن تجاوز الحدود قد يعرّض سلامة الملاحة الجوية للخطر.
بدائل النقل تنتعش
وذكرت بي بي سي أن شركة "هيرتز" لتأجير السيارات شهدت ارتفاعاً بنسبة 20% في الحجوزات، خصوصاً للحجوزات ذات الاتجاه الواحد، بعد إعلان خطة تقليص الرحلات.
وقال الرئيس التنفيذي للشركة جيل ويست إن "المسافرين بدأوا يتجنبون الطيران ويتجهون إلى الطرق السريعة"، مضيفاً: "كل يوم إضافي من الإغلاق يضيف فوضى غير ضرورية إلى الاقتصاد الأميركي".
وفي ولايات مثل كارولاينا الشمالية وتكساس وكولورادو، ارتفع عدد الرحلات البرية الطويلة بنسبة 15 إلى 25%، بينما سجلت شركات النقل البري والحافلات بين المدن زيادة كبيرة في الطلب، خصوصاً مع اقتراب موسم العطلات.
أزمة ثقة ومخاطر سمعة
ويرى محللون نقلت عنهم بلومبيرغ أن الأزمة الحالية تمثل "إشارة تحذير عالمية" حول هشاشة البنية السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. وقال الخبير برنارد ياروس من مؤسسة أوكسفورد إيكونوميكس: "الإغلاق الممتد لا يهدد فقط موظفي الدولة، بل يقوّض الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد الأكبر في العالم".
وأوضحت بي بي سي أن الكونغرس يشهد حالة من الشلل السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين، إذ تبادل الطرفان الاتهامات بالمسؤولية عن الأزمة، فيما اتهم الجمهوريون خصومهم بأنهم "يستخدمون معاناة المواطنين كورقة تفاوض سياسية".
أما الديمقراطيون فيرون أن "الإدارة الجمهورية تجرّ البلاد إلى ركودٍ بفعل تعنّت سياسي لا مبرر له".
وقال وزير النقل دافي، في تصريح لافت لـبي بي سي: "السلامة أولاً، لكن السياسة تجعل الطيران أكثر خطراً مما يجب. لا يمكننا أن نطلب من الناس الطيران بينما موظفونا لا يعرفون إن كانوا سيتقاضون أجورهم".
أزمة تمتد في السماء وعلى الأرض
وبينما تدخل الأزمة أسبوعها السادس، تؤكد بي بي سي أن الولايات المتحدة تعيش "أطول إغلاق حكومي في تاريخها الحديث"، مع تداعياتٍ تتجاوز الأجواء إلى عمق الاقتصاد والمجتمع.
ففي الوقت الذي يواصل فيه الطيارون والمراقبون الجويون عملهم بلا أجر، تزداد التحديات أمام ملايين الأميركيين الذين باتت معيشتهم مرتبطة بقرارات سياسية مجمدة.
إعلان
ويرى مراقبون أن الحل لن يكون قريباً، إذ فقدت الأسواق الثقة في قدرة الإدارة على التوصل إلى تسوية، بينما تتكبد شركات الطيران خسائر متصاعدة، والمواطنون ينتظرون ببساطة "أن تُفتح السماء مجدداً".

0 تعليق