Published On 7/11/20257/11/2025
|آخر تحديث: 23:31 (توقيت مكة)آخر تحديث: 23:31 (توقيت مكة)
ليست السينما بحاجة إلى حروب كبرى لتكشف هشاشة الدول؛ فحادث واحد في السماء قد يفضح ما يُخفى على الأرض. من هذه الفكرة ينطلق فيلم "أخبار جيدة" (Good News)، الذي يعيد بناء لحظة متوترة من تاريخ شرق آسيا خلال الحرب الباردة، مستندا إلى واقعة اختطاف طائرة مدنية عام 1970. لكن الفيلم لا يكتفي بسرد الحادث، بل يتجاوزه ليطرح أسئلة أعمق: من يملك حق كتابة الرواية الرسمية؟ وهل الحقيقة في السياسة تُصنع أم تُكتشف؟
تجري أحداث الفيلم في كوريا الجنوبية عام 1970، وسط تصاعد التوترات الإقليمية في زمن الحرب الباردة، وهو مستلهم من حادثة اختطاف طائرة ركاب يابانية نفذها فصيل من الجيش الأحمر الياباني في العام نفسه.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listويُعيد المخرج تقديم تلك القصة في فيلم إثارة يحمل روح الكوميديا السوداء، حيث يتقاطع العبث السياسي مع المواقف الخطرة: طائرة مختطَفة، عملية سرية تدور في الخفاء، وحدود تتلاشى بين البطولة والدعاية والبيروقراطية.
"مجهول" يدير العالم
يدور فيلم "أخبار سارة" (Good News) حول 3 شخصيات رئيسية تتورط في عملية معقدة لإنقاذ طائرة مختطفة.
الأول هو شخص غامض يُدعى "مجهول" (يؤدي دوره سول كيونغ غو)، يعمل وسيطا سريا لصالح جهاز المخابرات الكوري؛ والثاني الملازم سيو غو ميونغ (يجسده هونغ كيونغ)، ضابط في سلاح الجو يجد نفسه مضطرا للمشاركة في المهمة رغم تحفظاته؛ أما الثالث فهو بارك سانغ هيون (أداه ريو سونغ بوم)، مسؤول استخبارات يتولى الإشراف على العملية.
ويشكل الثلاثة تحالفا غير متوقع لتنفيذ خطة جريئة، تهدف إلى إيهام الخاطفين بأن الطائرة تتجه إلى بيونغ يانغ في كوريا الشمالية، بينما في الحقيقة يتم إنزالها في "سول".
ويقدّم الفيلم رؤية نقدية لآلية صناعة الحقيقة في عالم تتحكم فيه السلطة بالسرد أكثر مما تصفه الوقائع. فالأزمة، كما يصورها العمل، لا تُعرَّف بما يحدث داخل الطائرة، بل بما تختاره المؤسسات الرسمية لترويه للجمهور.
إعلان
هكذا تصبح الحقيقة نتيجة هندسة لغوية وإعلامية، لا عملية كشف أو تحقيق. من يملك المنبر هو من يصيغ الذاكرة، ويقرر ما يُروى وما يُنسى.
تجسّد شخصية مجهول هذا التناقض بعمق؛ فهو من يخوض الخطر وينقذ الأرواح، لكنه يظل محجوبا عن الاعتراف العام، وكأن البطولة الحقيقية لا مكان لها في رواية الدولة.
ومن خلال هذا الإخفاء المقصود، يقدّم الفيلم نقدا حادا لمؤسسات السلطة التي تتعامل مع الأزمات بوصفها عروضا لإثبات الكفاءة أو حفظ الهيبة، أكثر من كونها مواقف إنسانية تهدد حياة بشرية حقيقية.
الفاعل دائما مجهول
لا تقتصر الكوميديا السوداء في فيلم "أخبار سارة" على المفارقات الظاهرة في أداء الممثلين أو عبث قرارات المسؤولين، بل تمتد إلى جذر البنية السلطوية نفسها، حيث تُدار البطولات وتُمحى الأسماء تبعا لمزاج السلطة.
ويتجلى ذلك في شخصية الملازم سيو غو ميونغ، مراقب الطيران الذي يُعلن أو ينكر دوره بحسب ردود أفعال رؤسائه؛ فإذا فشل تحمّل اللوم، وإن نجح مُحي اسمه ليُمنح الفضل لغيره. والأمر ذاته ينطبق على "مجهول"، الذي يدير العملية كاملةً في الخفاء، رجل بدأ مناضلا من كوريا الشمالية وانتهى عميلا بلا هوية في الجنوب، لا يملك حتى أوراقا تثبت وجوده.
يقدّم المخرج بيون سونغ هيون مزيجا ذكيا من الإثارة والتجسس والسخرية السياسية، كاشفا كيف تُصاغ البطولة في المكاتب لا في الميدان. ففي غرفة العمليات، يُقرّر فريق الاستخبارات تغيير هوية المنقذ لتناسب خطاب الدولة، ويُعاد ترتيب التقرير الأمني بحذف أدوار واستبدال أسماء، لتُخلق قصة بطل جديد تخدم الإعلام.
وحين يُعرض مقطع مصوَّر للحدث الأمني بعد تعديله من قبل المخابرات، يدرك المشاهد كيف تتحوّل الأدلة إلى دعاية مصقولة عبر القصّ واللصق اللذين يحددان من يُكافَأ ومن يُدان.
وفي مشهد مؤلم، يظهر "مجهول" بعد نهاية المهمة وهو يشاهد نشرات الأخبار التي تتجاهله تماما. يصوره المخرج بإضاءة باهتة وكادر ضيق وصوت مشوش، في حين تُعرض على شاشة التلفزيون صورة وطنية زائفة حذفت وجوده كليا. هكذا يختصر الفيلم فكرته القاسية: في عالم تصنعه السلطة، الأبطال الحقيقيون لا يُذكرون، لأن الفاعل دائما مجهول.
الحقيقة هي ما تراه السلطة
جاءت مشاهد "بيونغ يانع" المزيفة والتي بنيت مشاهدها خصيصا لخداع الخاطفين في الطائرة والعاصمة "سول" في سبعينيات القرن الماضي بمثابة إحالة دقيقة لماض قريب، وأضافت المؤثرات البصرية والصوتية عليها واقعية وحيوية عكست ذلك الزمن بشكل كوميدي سخيف أحيانا، لكنه سخف قادم من واقع مفعم به، وليس مفتعلا من قبل صناع العمل.
ويبرز أداء سول كيونغ غو لدور "مجهول" بشخصيته الهادئة، ومعطفه الطويل، وتدخينه المستمر، إذ يتمتع بكاريزما شخصية ويملك قدرة شبه سحرية لحلّ الأزمات بدون ضجة إعلامية، ولعل أبلغ ما في ذلك الأداء هو تلك النظرة المنكسرة والحزينة بعمق في نهاية الفيلم حين ينجح في استخراج هوية شخصية، ليجسد رحلة إنكار دامت عمرا.
يلعب الفيلم بعناصر غير خطية، ومشاهد "فلاش باك"، وتسلسلات من التضليل. ويُضفي الفيلم روح الفكاهة ليس فقط في الحوار، بل من خلال المونتاج ومراوغة المشاهد بالكشف المفاجئ عن أحداث وحقائق لم تكن ضمن توقعاته حول أولئك الذين يعتقدون أن عملية الاختطاف حقيقية ويبدؤون بالجدال حول أي مسار سيتخذ، أما المسيطرون فيتلاعبون بالإدراك أكثر من الأحداث.
إعلان
ويتميز الفيلم بمزيجه الصوتي من الإثارة والسخرية، وهو مزيج آسر باستمرار؛ ويحافظ الفيلم على زخمه وروح المفاجأة في فصليه الأولين، ويتميز بطموحه الموضوعي حول الحقيقة، والسرد، والسلطة كما يلعب الأداء الرئيسي القوي للممثل سول كيونغ غو الدور الأكبر في نجاح الفيلم. لكن أسلوب الفيلم يتأرجح، أحيانا، متنقلا من حافة العنف إلى الكوميديا العبثية، وبالنسبة لبعض المُشاهدين تُشكّل هذه الالتواءات مقاطعة بدلا من أن تثري العمل.
عبر استحضار الحادثة التاريخية الحقيقية، يؤكد الفيلم أن الذاكرة الجماعية ليست سجلا موضوعيا، بل نتيجة لخيارات سياسية، وهو ما يُكشف وما يُحجب، من يُحتفى به ومن يُمحى من الرواية، حتى عنوان الفيلم نفسه يلمّح إلى مفارقة أن "الأخبار السارة" ليست بالضرورة ما يحدث، بل ما يُسوَّق.

0 تعليق