منذ أن تحولت مدينة الفاشر إلى مرآة دامية تختزل مأساة الحرب السودانية، وهذا الغزو الوحشي على أيدي تتار العصر ورعاتهم، توالت التقارير الأممية والحقوقية لتوثّق الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع المتمردة بحق المدنيين، في المدينة ومحيطها، وفي عدد من مدن وأرياف كردفان. وما ترتب على ذلك من هجرة قسرية ومعاناة وتبعات إنسانية تنوء بحملها الجبال.
هذه التقارير لم تعد محصورة في روايات الضحايا، أو شهادات المراقبين الميدانيين والفضائيات، بل باتت موثقة باعترافات قادة المليشيا أنفسهم في أكثر من مناسبة، ما وضع المجتمع الدولي أمام حرج بالغ، إلى جانب مسؤولياته القانونية والأخلاقية بموجب الميثاق.
لكن، وبرغم هذا التراكم الموثق للانتهاكات، ظل الرد الأممي باهتا ومتعثّرا وغائبا، وكأن الضمير الدولي في موات، وبات ينتقي ضحاياه بحسب خرائط الجغرافيا والجنس والمصالح، لا خرائط الإنسانية.
فبينما أوغلت المليشيا في أعمال القتل الجماعي، والإبادة العرقية، والاغتصاب، والتجويع القسري، والنهب المنظم، وتكرار هذه المشاهد الدامية، كانت بعثات الأمم المتحدة تكتفي ببيانات "القلق العميق" ونداءات "التهدئة والإدانة الخجولة"، من دون أن تُسمي الجناة أو تُطالب بمحاسبتهم بوضوح توجبه الأعراف والمواثيق الدولية.
وكأن المنظومات والشبكات الدولية التي تخرج هذه التقارير تأتي من كوكب خارج فضاء ما يجري في غزة وأوكرانيا، والمأساة في السودان تمضي إلى عامها الثالث، كثالث أكبر أزمة دولية.
زيارة فليتشر إلى السودان حملت في طياتها أكثر من دلالة، فهي تعبير عن اعتراف أممي متأخر بعمق الكارثة الإنسانية، وفي الوقت نفسه تضع المنظمة الدولية في موضع الحرج الفاجع
الحق الوطني وسيادة العدالة
أمام هذا المشهد المثقل بالجرائم والخذلان والتواطؤ، جاء تحرك النيابة العامة السودانية خطوة في الاتجاه الصحيح، حين أعلنت فتح تحقيقات وطنية شاملة في الانتهاكات التي شهدتها دارفور، وكردفان، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
إعلان
إن تمسك النائب العام بهذا الحق الوطني القانوني للتحقيق في الجرائم الواقعة على أرض السودان حصرا، يؤكد أن الدولة ما زالت قادرة على ممارسة سيادتها القضائية رغم الحرب، وأن العدالة الوطنية ليست ترفا مؤجلا، بل واجبا لا يسقط بالتقادم، لتترك أيضا خذلان العدالة الدولية إزاء ما يجري وصمة عار أخرى.
وتكتسب هذه التحقيقات بُعدا خاصا في ظل إصرار المليشيا على التمويه بمسميات مضللة كالحديث عن "حكومة موازية" أو "إدارة مدنية" في المناطق التي تسيطر عليها، في محاولة لشرعنة احتلالها الأرض وتغطية جرائمها بحق المدنيين، بالحرق والدفن في مقابر جماعية لطمس معالمها، وهو ما لا يمكن قبوله في ضوء القانون الدولي الإنساني والجنائي، ولا في منطق الدولة الحديثة.
زيارة توم فليتشر بين الأمل والحرج
في هذا التوقيت الدقيق، جاءت زيارة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر إلى السودان ولقاؤُه برئيس مجلس السيادة، لتكون الثانية لمسؤول أممي رفيع المستوى بعد زيارة مارتن غريفيث في مايو/أيار 2023، بعيد اندلاع الحرب.
وكلاهما بريطاني، ودولتهما هي حامل القلم ضد السودان ومصالحه في مجلس الأمن، وشريك الرباعية الأولى، والخماسية الحالية، وبلادنا لا تنسى آخر مشروع لها قضى عليه الفيتو الروسي كدليل دامغ على حلقة تآمر التاج البريطاني والإمعان في محاصرة السودان.
لكن الزيارة حملت في طياتها أكثر من دلالة، فهي تعبير عن اعتراف أممي متأخر بعمق الكارثة الإنسانية، وفي الوقت نفسه تضع المنظمة الدولية في موضع الحرج الفاجع؛ لأنها لم تتحرك بالجدية المطلوبة حين كان بإمكانها الحد من المأساة قبل أن تتفاقم.
وهي التي أصدرت القرار 2736 القاضي بفك الحصار عن الفاشر، ولها مبعوث شخصي للأمين العام للسودان، ولكنها آليات أضحت تستخدم للضغط السياسي، وتمرير المشروعات الخارجية التي تنال من سيادة البلاد وأمنها، وليست معنية بالضوائق والمعاناة الإنسانية وإيجاد الحلول العاجلة لها.
فمنذ أكثر من عام، كان الأمين العام للأمم المتحدة، قد طرح مبادرة لوقف إطلاق النار، رحبت بها حكومة السودان؛ حرصا على حماية المدنيين، بينما رفضها التمرد المسلح المدعوم خارجيا.
ذلك الرفض لم يُقابل حينها بأي موقف حازم من المنظمة، ما شجع المليشيا على التمادي في جرائمها، وترك الفاشر تواجه مصيرها وحدها بين حصار وتجويع ومجازر ممنهجة من واقع هذا الغزو الذي استخدم المسيرات والتقانة والغازات السامة.
الفاشر جرح في ضمير العالم
اليوم، وبعد ما يقارب العامين من المعاناة المتواصلة في الفاشر، تتكشّف للعالم فداحة ما جرى: مدينة منكوبة، ومئات الآلاف من المدنيين بين قتيل ومشرّد وجائع ومعتقل ومفقود، ومستشفيات مدمّرة، بلا غطاء أو دواء، ومخيمات لجوء تتكدّس بالنازحين وسط عجز أممي واضح، وفضيحة إنسانية كونية.
كل هذا يجري على مرأى من مجلس الأمن ووكالات الأمم المتحدة التي لم تترجم بياناتها إلى فعل إنساني يليق بحجم كارثة، حصدت أرواح أهل الفاشر بالتسييس والانتقائية، ونفوذ المال، وأجندات اللاعبين الكبار.
إن السودان، وهو يواجه هذا الواقع المأساوي القاسي، لا يطالب بأكثر من احترام سيادته وترابه وحرمات أمته وحقهم في العدالة، وأن تُعامل الأمم المتحدة شعبه بما تمليه مواثيق حماية المدنيين وحقوق الإنسان، لا بما تقتضيه الحسابات السياسية، أو الضغوط الإقليمية، والعدو الحقيقي يكشف عن ذاته وظلاماته كل صباح عبر أداته الوظيفية.
إعلان
فالموقف الإنساني لا يُجزّأ، ومنظومة الأمم المتحدة لن تستعيد ثقة الشعوب ما لم تُظهر العدل والاتساق بين خطابها الإنساني، وممارستها الفعلية دون تمييز.
خاتمة
يبقى الحرج الأممي الأكبر أن الفاشر لم تعد مجرد مدينة منكوبة، بل شاهد إدانة على عجز النظام الدولي عن حماية الإنسان حين يُسحق تحت أقدام المليشيات، ومبادرات الخزي والعار التي تُنسج كغطاء وصائي مرفوض يعقّد الحلول، ويفاقم المعاناة، ويكافئ الجناة كما هي الرباعية.
وفي المقابل، فإن تمسك السودان بمسار العدالة والسيادة القانونية، هو الرد الحقيقي على فوضى السلاح، ورسالة واضحة بأن لا سلام بلا محاسبة، ولا إنسانية بلا احترام لحق الحياة والكرامة.
كما يتمسك بحقه الدستوري في دحر الأعداء، وإخراجهم إلى حيث أتوا، وحسمهم ميدانيا لإعادة الأمن والاستقرار بموجب التزاماته الدستورية والوطنية والأخلاقية تجاه شعبه، لأن الموتى لا يأكلون يا سيد توم فليتشر!؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق