قرى محصّنة.. كيف تشكلت العقيدة الأمنية لإسرائيل وماذا بقي منها اليوم؟ - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في صيف عام 1952، آثر دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، الانعزال في منزله الكائن في سديه بوكير في صحراء النقب، حيث انقطع عن مهامه الرسمية قرابة شهرين. وقد خرج من هذه العزلة بما عُرف لاحقًا بسيمنار بن غوريون وهو النواة التي أخرجت الأسس الأولى للنظرية الأمنية الإسرائيلية أو العقيدة العسكرية، محددًا مرتكزاتها ومبادئها التي شكلت لسنوات طويلة العمود الفقري للسياسات الدفاعية والهجومية لإسرائيل. هذه النظرية تأسست على اقتناع بقدرة إسرائيل على الجمع بين الردع والإنذار المبكر، وبين نقل المعركة إلى أرض الخصم وبناء تحالفات دولية داعمة. وقد مثلت بذلك الإطار الذي حدد حدود القوة الإسرائيلية وكيفية ممارستها في محيط عربي معادٍ.

كذلك، فلاديمير جابوتينسكي -أحد أبرز المنظّرين للحركة الصهيونية- صاغ في عام 1923 ما يُعرف بنظرية الجدار الحديدي التي شكّلت لاحقًا الأساس النظري للعقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. تقوم هذه النظرية على فرضية مركزية مؤداها أنّ العرب لن يقبلوا أبدًا بوجود كيان يهودي في فلسطين ما دام لديهم أيّ أمل في منعه أو مقاومته، ومن ثمّ لا سبيل لترسيخ المشروع الصهيوني إلا بإقامة جدارٍ حديديٍّ من القوة في جميع أشكالها، يَئِد إرادة المقاومة في مهدها ويقنع العرب بعبثية مقاومة الوجود الصهيوني الاستعماري.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

وقد تحوّلت هذه الرؤية من أطروحة أيديولوجية إلى ركيزة بنيوية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي تبنّت فكرة الردع المطلق واستخدام القوة المفرطة أداةً في محاولة لتحقيق الأمن والاستقرار للمشروع الصهيوني. ومع توالي الأيام أصبحت هذه النظرية جزءًا من البنية الذهنية والإستراتيجية للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية حتى اليوم.

في السابع من أكتوبر 2023. ففي ذلك اليوم، ومن الجنوب ذاته الذي انبثقت منه أفكار بن غوريون، انكشفت ثغراتها العميقة وتهاوت مقولاتها المركزية، وانهار جدار جابوتينسكي، وظهرت محدوديته في التعامل مع واقع متحول ومع خصم فلسطيني لم يخبُ الأمل في قرارة ذاته.

ومع أن السابع من أكتوبر شكّل ضربة قاصمة للنظرية الأمنية بصيغتها الكلاسيكية، فإنه فتح الباب في الوقت نفسه أمام مسار إعادة صياغة جديدة. إذ برز تيار واسع في إسرائيل يرى أن تجديد النظرية الأمنية لم يعد خيارًا ثانويًّا، بل هو شرط لازم لبقاء الدولة واستعادة زمام المبادرة. ومن هنا، فإن الخطاب الإسرائيلي المعاصر ينزع نحو بناء مقاربة أمنية جديدة أكثر شمولًا، تتكامل فيها أدوات القوة العسكرية مع السيطرة التكنولوجية والاستخبارية، إلى جانب تعزيز الردع النفسي والإعلامي. وبذلك، فإن ما يُطرح اليوم ليس فقط إعادة النظر في مكونات النظرية، بل إعادة إنتاجها كإطار جامع يحدد هوية إسرائيل الأمنية في القرن الحادي والعشرين.

إعلان

بهذا المعنى، يمكن القول إن انهيار النظرية في أكتوبر 2023 لم يكن نهاية المطاف، بل شكل نقطة انعطاف. فبينما كشف ما رشح من نتائج التحقيق في الهجوم المباغت عن قصور في نجاعة الرؤية الأمنية التي صاغها بن غوريون، فإنه في المقابل أطلق عملية إعادة صياغة قد تمثل، في نظر كثير من المحللين الإسرائيليين، حجر الأساس في نهوض إسرائيل من جديد ضمن بيئة إستراتيجية أشد تعقيدًا. ومن هنا تتجلى أهمية تناول هذا الموضوع، لا باعتباره مراجعة تاريخية لنظرية أمنية تقادمت، بل بوصفه مدخلًا لفهم كيفية تعامل إسرائيل مع أزمتها في أعقاب هجوم 7 أكتوبر 2023 وسبل إعادة بناء قوتها والردع في النظام الإقليمي والدولي المعاصر.

ويرى معهد دراسات الأمن القومي أن المبادئ الأساسية للعقيدة الأمنية الإسرائيلية كانت كافية نظريًّا لمواجهة ناجحة لهجوم 7 أكتوبر، لكن الخلل الرئيسي تمثّل في سوء تطبيق هذه المبادئ من قِبل كلٍّ من المستوى السياسي والمستوى العسكري.

وقبل البدء لا بد من تعريف الأمن القومي. هو قدرة الدولة على صيانة مصالحها الإستراتيجية العليا وتأمينها، عبر امتلاك الدولة لمقومات القوة الإستراتيجية الشاملة التي ترتكز على تحقيق الأمن الإنساني، وتعزيز الإرادة الوطنية. يتضمن المفهوم توفير مقومات كاملة تمكّن الدولة من الحفاظ على سيادتها، وتنمية مواردها، وحماية بيئتها، إضافة إلى المساهمة في استقرار النظام الدولي، والأمن العالمي.

 

مرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية

تنطلق العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي صاغها دافيد بن غوريون  من إدراك جغرافي ديمغرافي عميق لواقع إسرائيل ككيان صغير المساحة مقارنة بالدول العربية، محاط بأعداء، ويفتقر إلى العمق الإستراتيجي والموارد البشرية الكافية لخوض حروب استنزاف طويلة. بناءً على ذلك، أسّس بن غوريون رؤيته الأمنية على مجموعة من الأسس المترابطة، هدفها النهائي ضمان بقاء الدولة ومنع تكرار الكارثة اليهودية عبر بناء قدرة ردع مستدامة، وهذه المرتكزات هي:

أولًا: الردع باعتباره ركيزة أولى، يقوم مبدأ الردع في فكر بن غوريون على منع العدو من الإقدام على شن هجوم عبر ترسيخ اقتناع لديه بأنّ تكلفة الاعتداء ستكون باهظة جدًّا. ويتحقق ذلك من خلال إظهار تفوق نوعي في القوة، والتزام دائم بالتعبئة الشاملة والجاهزية القتالية، مع الاحتفاظ بخيارات هجومية سريعة. وقد اعتُبر الردع حجر الزاوية الذي يقوم عليه مجمل السياسة الأمنية الإسرائيلية.

Former Israeli Prime Minister David Ben-Gurion (l) accompanied by Israeli defence minister General Moshe Dayan (r), 07 May 1969 prior his departure from Lod international airport to South Africa. (Photo by FILES-IPPA / AFP)
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن غوريون (يسار) برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشيه ديان (يمين)، ٧ مايو/أيار ١٩٦٩، قبل مغادرته مطار اللد الدولي إلى جنوب أفريقيا (الفرنسية)

ثانيًا: نقل المعركة إلى أرض العدو، نظرًا لانعدام العمق الجغرافي لإسرائيل، تبنّى بن غوريون مبدأ تحويل الحرب إلى أراضي الخصم فور اندلاعها. ويهدف هذا المبدأ إلى تجنيب الجبهة الداخلية أعباء القتال، أو احتلال أرض إسرائيلية ولو لفترة زمنية قصيرة، وإجبار العدو على القتال بعيدًا عن المراكز السكانية والبنى الحيوية الإسرائيلية.

ثالثًا: تدمير المقدرات العسكرية المسلحة، ترى العقيدة الأمنية أنّ النصر لا يتحقق بمجرد صدّ الهجوم، بل بـتدمير القوة العسكرية للعدو ومنعه من استعادة قدراته القتالية. لذا ركّزت العقيدة على تحقيق حسم عسكري سريع عبر الاستخدام المركز للقوة الجوية والمدرعات والمناورة المتحركة، كما جرى في الحرب مع مصر.

إعلان

رابعًا: احتلال مناطق والبقاء فيها، لم يكن الاحتلال هدفًا توسعيًّا بالمعنى الكلاسيكي، بل وسيلة لتحقيق الأمن من خلال السيطرة الوقائية على أراضٍ ذات أهمية إستراتيجية. فاحتلال مناطق معينة (مثل سيناء والضفة الغربية لاحقًا) اعتُبر وسيلة لتأمين الحدود، ولتحسين موقع إسرائيل الإستراتيجي بعد انتهاء العمليات العسكرية.

خامسًا: لا يُصبح الهجوم الاستباقي خيارًا عمليًّا إلا بعد تراكم معلومات استخبارية عملياتية دقيقة. إذ يُدرَج مبدأ الضربة الاستباقية باعتباره أداةً هجومية ذات طابع دفاعي تهدف إلى إحباط نيات العدو قبل تجسيدها فعليًّا، إذ اعتُبرت المبادأة وسيلةً لتقليل الخسائر؛ وبرز ذلك في الضربة الافتتاحية للحرب مع إيران عام 2025.

سادسًا: السلاح النووي ملاذ أخير، في ضوء التهديدات الوجودية، تطوّر لاحقًا لدى صانعي القرار الإسرائيليين مفهوم الردع النووي بوصفه خيارًا نهائيًّا، يُلجأ إليه فقط في حال تعرّض الكيان لخطر الإبادة. وقد عبّر بن غوريون عن إيمانه المبكر بـضرورة امتلاك سلاح غير تقليدي يضمن بقاء الدولة في وجه الأخطار المصيرية"، مما مهّد لتطوير البرنامج النووي في ديمونا تحت مبدأ الغموض.

ضرورة تحديث مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي

يشهد مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي تحوّلًا متسارعًا منذ مطلع الألفية الجديدة، نتيجة التبدلات العميقة في البيئة الجيوسياسية والتكنولوجية والإقليمية. فالعقيدة الأمنية التي تشكّلت في الخمسينيات على مبادئ الردع، والإنذار المبكر، ونقل المعركة إلى أرض العدو، لم تعد قادرة على مواكبة طبيعة التهديدات الجديدة. وقد فرضت التغيرات الجذرية في الشرق الأوسط، خاصة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، واقعًا إستراتيجيًّا جديدًا تلاشت فيه الحدود بين الأمن الخارجي والداخلي.

كذلك، خلال العقود الأخيرة كان هناك تحوّل بنيوي عميق في بنية الجيش الإسرائيلي وعقيدته الأمنية، حيث انتقل مركز الثقل العسكري من الجيش القائم على القوات البرية والمناورة الميدانية إلى جيش فائق التقانة (الهاي-تك) المعتمد على التكنولوجيا والاستخبارات والحرب عن بُعد. هذا التحول، الذي تَغذّى من الثورة الرقمية وهيمنة اقتصاد الابتكار الإسرائيلي، أوجد فجوة متزايدة بين الأذرع العسكرية، إذ تحولت النخبة التكنولوجية الممثلة بسلاح الجو والاستخبارات والسايبر إلى مركز الثقل العملياتي، في مقابل تهميش القوات البرية التي كانت تاريخيًّا عماد الحسم في الحروب الإسرائيلية.

ويرى كلٌّ من رئيس الأركان الأسبق غادي آيزنكوت والعميد غاي حزوت أنّ هذا الخلل في بناء القوة العسكرية أضعف قدرة الجيش على تحقيق الردع الفعّال والحسم الميداني، وجعل العقيدة الأمنية الإسرائيلية تميل إلى إدارة الصراع من بعيد بدل خوضه على الأرض، الأمر الذي أوجد فجوة بين التفوق التقني والجاهزية الميدانية.

وقد جاءت أحداث السابع من أكتوبر 2023 لتجسّد بصورة مأساوية هذا الخلل البنيوي، إذ كشف هجوم حماس حدود الرهان على التفوق التكنولوجي وإهمال القوات البرية، وأظهر هشاشة منظومات الاستخبارات والإنذار المبكر في مواجهة تهديد غير متكافئ. في ضوء ذلك، يقدم حزوت مراجعة نقدية داخلية لمسار الجيش الإسرائيلي، مبيّنًا أن النجاحات التكتيكية في المعركة بين الحروب لم تُترجم إلى تفوق إستراتيجي، وأن الانقسام بين جيش فائق التقانة (الهاي-تك) وجيش الفرسان يعكس أزمة أعمق في العلاقة بين الجيش والمجتمع الإسرائيلي، الذي تراجعت ثقته بالمؤسسة العسكرية وتبدلت أولوياته اتجاه الخدمة القتالية. ومن هنا، يدعو النص إلى إعادة بلورة عقيدة أمن قومي متوازنة تُعيد الاعتبار للقوات البرية، وتدمج بين القدرات التكنولوجية والميدانية، وتؤسس لرؤية نقدية إصلاحية داخل الجيش الإسرائيلي، بما يضمن استعادة الجاهزية والثقة وتحقيق الردع الفعلي في الحروب المستقبلية.

إعلان

ترافقت هذه التحولات الخارجية مع تغيّرات داخلية عميقة داخل إسرائيل نفسها. كما أثّرت اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية في الإدراك الإسرائيلي لمصادر التهديد، إذ انتقلت بعض الدول من خانة العداء إلى خانة الشراكة، مما دفع بعض النخب الأمنية إلى المطالبة بإعادة تعريف الأولويات الإستراتيجية. غير أن هذه التحولات لم تُفضِ إلى تبنّي صيغة جديدة رسمية للعقيدة الأمنية، وبقيت كل الجهود في حدود المبادرات الفردية والمؤسساتية غير الملزمة.

" frameborder="0">

كانت المحاولة الأولى الجدية لإعادة صياغة العقيدة الأمنية في عام 1998 بمبادرة وزير الدفاع الأسبق إسحاق مردخاي، الذي أطلق ورشة عمل واسعة ضمّت شخصيات عسكرية وسياسية وأكاديمية رفيعة المستوى. وقد أُنجزت خلالها دراسة شاملة امتدت في خمس مجلدات تناولت أسس العقيدة الجديدة، إلا أن المشروع لم يُقَر رسميًّا من قبل الحكومة، وبقي حبيس الأدراج.

تكررت المحاولة الثانية في عام 2006، عقب حرب لبنان الثانية، حين شكّل وزير الدفاع الأسبق دان مريدور لجنة خاصة لتعديل العقيدة الأمنية، وقدّمت اللجنة تقريرها إلى رئيس الأركان آنذاك شاؤول موفاز. تضمّن التقرير مقترحات لتوسيع مفهوم الأمن القومي ليشمل الدفاع عن المدنيين من تهديد الصواريخ البعيدة المدى والهجمات السيبرانية. ومع ذلك، واجه التقرير مصيرًا مشابهًا لما سبقه، إذ لم يُقرّ من قبل الحكومة، وظلّ ضمن الإطار النظري غير المُلزم، مما عكس هشاشة الإرادة السياسية في تحويل النقاش الفكري إلى سياسة أمنية عملية.

وفي عام 2013، قدّم اللواء البروفيسور يتسحاق بن يسرائيل تصورًا محدثًا للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، رأى فيه أن الخطر الأساسي الذي يواجه الدولة لم يعد متمثلًا في الجيوش النظامية، بل في التنظيمات اللا-دولتية مثل حماس وحزب الله، التي تمتلك قدرات صاروخية وهجومية متطورة وتعمل بأسلوب الحروب اللامتماثلة. دعا بن يسرائيل إلى بناء عقيدة أمنية تكنولوجية تعتمد على التفوق السيبراني والاستخباري، لكن اقتراحه، بدوره، لم يتجاوز حدود النقاش الأكاديمي، ولم يتحول إلى وثيقة رسمية أو إستراتيجية دولة معتمدة.

في ضوء ذلك كله قدّم كلٌّ من أليكس مينتس وشاؤول شاي دراسة بحثية تتناول ضرورة إعادة تطوير مفهوم الأمن الإسرائيلي التقليدي من خلال إضافة مكوّن جديد هو التكيّف باعتباره عنصرًا إستراتيجيًّا مكمّلًا للمحاور الكلاسيكية للأمن القومي (الردع، الإنذار المبكر، الحسم، والدفاع).

يرى الباحثان أنّ المفهوم الأمني الإسرائيلي، الذي تأسّس منذ عقود على مبدأ الردع والتفوّق العسكري الثابت، لم يعُد كافيًا في ظل التحوّلات الديناميكية المتسارعة في البيئة الإقليمية والتكنولوجية والعملياتية، وأنّ الحاجة الملحّة اليوم تكمن في بناء قدرة مؤسسية مرنة قابلة للتكيّف مع المتغيرات الميدانية والسياسية بصورة مستدامة.

ويؤكد مينتس وشاي أنّ المقصود بالتكيّف ليس الجانب التكتيكي المحدود في إدارة المعارك، بل هو مفهوم إستراتيجي شامل يشمل آليات اتخاذ القرار الأمني وتطوير منظومة التفكير العسكري والاستخباري، بحيث تتمكّن الدولة من التعامل مع سيناريوهات غير متوقعة في بيئة صراعية متقلبة. ويرتبط هذا التوجه بما يسمّيه الباحثان المرونة الإستراتيجية التي تتطلّب من المنظومة الأمنية القدرة على التعلم المؤسسي وإعادة الضبط السريع لمسارات الفعل الميداني والسياسي.

وقد برزت أهمية هذا المكوّن بوضوح عقب هجوم السابع من أكتوبر 2023، حينما أظهرت إسرائيل تحوّلًا تكيفيًّا جوهريًّا في إدارة الصراع، تمثّل في الانتقال من صدمة الهجوم إلى خوض حرب طويلة الأمد امتدت قرابة عامين، اتّسمت بتبدّل الأهداف العملياتية وتغيير أساليب القتال والاستجابة للضغوط الداخلية والخارجية. هذا الأداء، وفق التحليل، يعكس تبلور ما يمكن تسميته بـالجيل الجديد من المفهوم الأمني الإسرائيلي القائم على التكيّف الإستراتيجي المستمر في مواجهة التهديدات غير التقليدية.

فشلت المبادرات المتعاقبة في التحول إلى سياسة أمنية رسمية مُلزمة، وظلت محاولات فكرية جزئية تعكس وعيًا بتبدّل التهديدات دون أن تنجح في بلورة رؤية مؤسساتية موحدة. ويُعزى ذلك إلى هيمنة المقاربة العسكرية التقليدية على التفكير الإسرائيلي، وإلى الانقسام السياسي الذي يمنع التوافق على تعريف جامع للأمن القومي في عصر تتشابك فيه الأبعاد العسكرية، والاجتماعية، والتكنولوجية، والاقتصادية. وبذلك، يبقى مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي في حالة مراجعة دائمة دون تجديد فعلي، رهينًا بتوازنات القوى الداخلية والخارجية التي تعيق بلورة عقيدة أمنية جديدة تواكب واقع التحديات المعاصرة.

هجوم 7 أكتوبر 2023: انهيار النموذج الأمني والعسكري الإسرائيلي

شكّل هجوم حركة حماس على المستوطنات والمواقع العسكرية الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة يوم السابع من أكتوبر 2023 نقطة تحوّل جذرية في المشهد الأمني الإسرائيلي، وأحدث زلزالًا إستراتيجيًّا بدّد ركائز النظرية الأمنية التي قامت عليها دولة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948.

إعلان

ففي ذلك اليوم، تحطّمت أربع ركائز أساسية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية: الردع، الإنذار، الحسم، ونقل المعركة إلى أرض العدو، لتُضاف إليها أزمة التكنولوجيا العسكرية التي شكّلت لعقود عنصر التفوق الإسرائيلي. هذا الحدث غير المسبوق أعاد تعريف مفاهيم الأمن، والاستخبارات، والسيطرة في البيئة الإسرائيلية.

لا يتعلق فشل الإسرائيليين وحلفائهم في التنبؤ بطوفان الأقصى بالمعلومات التي غابت عنهم، بل بقصور نظريتهم وأدواتهم عن فهم شعوبنا (الإعلام العسكري)
لا يتعلق فشل الإسرائيليين وحلفائهم في التنبؤ بطوفان الأقصى بالمعلومات التي غابت عنهم، بل بقصور نظريتهم وأدواتهم عن فهم شعوبنا (الإعلام العسكري)
 غياب الردع وانهيار الهيبة العسكرية

قامت العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ بن غوريون على مبدأ الردع الذي يفترض أن التفوق العسكري والتكنولوجي يردع الأعداء عن المبادرة بالهجوم. غير أن عملية طوفان الأقصى أظهرت فشل هذا المبدأ جذريًّا. فبعد خمس حروب متكررة مع غزة، ساد في المؤسسة الأمنية شعور زائف بأن حماس مردوعة ومهتمة بالحفاظ على الهدوء الاقتصادي، وهو ما وصفه معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بأنه وهم الردع. لقد كشفت العملية أن الردع لا يصمد أمام خصم غير تقليدي يمتلك منطلقًا عقائديًّا واستعدادًا للتضحية، وأن الاعتماد على الردع دون معالجة الجذور السياسية للصراع يولّد هشاشة أمنية قابلة للانهيار في لحظة واحدة.

المفاجأة وغياب الإنذار المبكر

انهارت الركيزة الثانية المتمثّلة في منظومة الإنذار المبكر. فرغم امتلاك إسرائيل لجهاز استخباري يُعدّ من بين الأكثر تطورًا في العالم، ويجمع بين قدرات الرصد الإلكتروني، والاستخبار البشري، والمراقبة عبر الأقمار الصناعية، فإن هذا الجهاز أخفق في توقّع الهجوم أو تفسير مؤشّراته التحذيرية. وقد أشار تقرير صادر عن معهد ويست بوينت الأميركي إلى أنّ الاستخبارات الإسرائيلية كانت قد رصدت تحركات وتدريبات مريبة في قطاع غزة، لكنها تجاهلتها نتيجة للمفهوم الذي ساد في الأوساط السياسية والعسكرية بأنّ حركة حماس ليست معنية بمواجهة عسكرية شاملة.

تُبرز الصدمة التي أصابت وحدات الجيش والاستخبارات الإسرائيلية صباح السابع من أكتوبر حجم التآكل الذي أصاب مبدأ اليقظة الدائمة. فالفشل في تشغيل منظومة الإنذار المبكر لا يُعدّ مجرد إخفاق عملياتي، بل انهيارًا بنيويًّا عميقًا في البنية الأمنية الإسرائيلية نفسها، التي طالما تباهت بقدرتها على معرفة نيات خصومها قبل أن يُدركوها هم. لقد كشفت تلك اللحظة عن عمق الغرور الأمني الذي حجب عن المؤسسة العسكرية رؤية الخطر الحقيقي الكامن خلف حدود غزة.

 الفشل في الحسم السريع

الركيزة الثالثة في النظرية الأمنية الإسرائيلية، المتمثّلة في مبدأ الحسم السريع، تعرّضت لانهيار كامل خلال أحداث السابع من أكتوبر أيضًا. فقد استمر القتال داخل المستوطنات الإسرائيلية ساعات طويلة من دون أن تتمكّن القوات النظامية من فرض السيطرة أو استعادة المبادرة. في تلك الساعات الحرجة، وجدت فرق التأهّب المحلية (مجموعات قتالية مكونة من المستوطنين المحللين) في بلدات مثل نير عام ونتيف هعسرا نفسها تقاتل وحدها من دون أي إسناد جوي أو بري فوري، في مشهدٍ عرّى حقيقة الفجوة بين الصورة الدعائية للجيش الإسرائيلي على أنه قوة عالية الجاهزية، وبين أدائه الفعلي في مواجهة مفاجئة.

لقد كشفت هذه المعركة أن الجيش الذي طالما قُدِّم بوصفه قادرًا على التعبئة السريعة والرد الحاسم خلال دقائق، يعاني من عجز بنيوي في الاستجابة الفورية عند وقوع صدمة ميدانية. ووفقًا لتقرير نشره موقع " War on the Rocks" الأميركي، فإن الخلل القيادي والتنظيمي في الساعات الأولى للهجوم شكّل حالة من الشلل العملياتي الشامل، مما أدى إلى إطالة أمد الاشتباكات ورفع حجم الخسائر، مؤكّدًا أن انهيار مبدأ الحسم السريع قد أصاب جوهر العقيدة العسكرية الإسرائيلية في الصميم.

انكسار معادلة الحرب خارج الحدود

إن هجوم السابع من أكتوبر نسف هذا المبدأ من جذوره، إذ اندلعت المعارك في عمق النقب الغربي ووصلت إلى قواعد عسكرية وبلدات مدنية داخل إسرائيل نفسها. لقد تحوّل الصراع من تخوم الحدود إلى الفضاء الداخلي الإسرائيلي، في مشهدٍ أحدث صدمة جماعية ونفسية عميقة لم يعرفها المجتمع الإسرائيلي منذ قيام الدولة عام 1948.

وقد وصفت صحيفة هآرتس هذا التحوّل بأنه أول حرب تُخاض في قلب إسرائيل منذ عام 1948، مؤكدة أنّ الدولة فشلت في أداء وظيفتها الأساسية المتمثّلة في ضمان أمن مواطنيها داخل حدودها المعترف بها. بهذا المعنى، لم يعد التفوّق العسكري الإسرائيلي كافيًا لردع العدو أو منعه من نقل الحرب إلى الداخل، الأمر الذي يفرض إعادة تعريف شاملة لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، بحيث لا يقوم على القوة وحدها، بل على معالجة الخلل البنيوي في منظومة الردع والحماية الداخلية.

 الفشل التقني والتكنولوجي

كشّف الهجوم بأنّ الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا كـدرعٍ أمنِي لم يعُد كافيًا لحماية العمق أو لردع عملية مفاجئة ومنسّقة. تعطّلت منظومات رصد ومراقبة في نقاط حدودية نتيجة هجمات وتفجيرات مركّزة، وجرى استهداف بنى الاتصالات مما أعاق الربط والتنسيق بين الوحدات الميدانية، كما أُطلقت موجات صواريخ هائلة دفعت دفاعات القبة الحديدية إلى حدود طاقتها وأظهرت أنّها يمكن أن تُشْغَل في حالات الهجوم المتزامن المكثّف.

" frameborder="0">

إلى ذلك، أظهر التحليل النقدي أنّ ثقة القيادة المفرطة في الحلول التقنية -أنظمة المراقبة الذكية، الذكاء الاصطناعي، الطائرات المسيّرة، والسياج الذكي- أضعفت الحسّ العملياتي والجاهزية البشرية على الأرض، فأصبح الاعتماد على الشاشات يقابل هشاشة في الاستجابة الميدانية، بينما نجح المهاجمون في فتح ثغرات فعلية في الحماية الحدودية باستخدام أساليب بسيطة نسبيًّا كالعبوات الناسفة، مما كشف فجوة بين قدرة التكنولوجيا في الظروف المثالية وبين واقع المواجهة على الأرض.

 الفشل الميداني وهروب الجنود من المواجهة

شكّل أداء الجيش الإسرائيلي في الساعات الأولى من الهجوم مشهدًا نادرًا من الانهيار القتالي والانضباطي. فمع اندلاع الاقتحامات المتزامنة في مستوطنات غلاف غزة، تأخرت القوات النظامية في الوصول إلى المناطق التي اخترقها مقاتلو حماس، و تُركت فرق التأهب المحلية تواجه وحدها موجات الهجوم بأسلحة خفيفة وذخيرة محدودة. مع امتداد الاشتباكات لساعات، نفدت ذخيرة بعض المقاتلين، واضطر آخرون إلى الانسحاب أو الاختباء في انتظار الإسناد الذي لم يصل في الوقت المناسب.

هذا التأخير كشف عن شلل عملياتي حاد في منظومة القيادة والسيطرة، وعجز في التنسيق بين الوحدات الجوية والبرية، مما جعل الميدان يفتقد إلى القيادة الموجِّهة خلال اللحظات الحرجة. ووفق تقارير ميدانية إسرائيلية، فقد شوهد عدد من الجنود وهم يفرّون من المواجهة أو يتخلّون عن مواقعهم في ظلّ غياب الأوامر والتعزيزات. لقد مثّلت هذه الوقائع تصدّعًا غير مسبوق في الروح القتالية للجيش الذي طالما قدّم نفسه على أنه قوة لا تُقهر، وكشفت أنّ المؤسسة العسكرية، رغم تفوقها التقني والاستخباري، عجزت عن إدارة صدمة ميدانية مباشرة بحجم هجوم السابع من أكتوبر.

تحوّلات بنيوية عميقة في الأداء العسكري الإسرائيلي

في ضوء حرب السابع من أكتوبر، يمكن رصد تحوّلات بنيوية عميقة في الأداء العسكري الإسرائيلي، عكست إعادة تشكّل العقيدة القتالية وطرائق التفكير الإستراتيجي داخل المؤسسة الأمنية والسياسية. هذه التغيّرات لا تعبّر فقط عن استجابة ظرفية لهجوم غير مسبوق، بل تكشف عن تحوّل في الثقافة العسكرية الإسرائيلية ذاتها، وفي طبيعة العلاقة بين الجيش والمجتمع والدين والسياسة.

برزت ملامح انتقال واضح نحو نموذج الحرب الطويلة الأمد، في قطيعة مع العقيدة التقليدية التي سادت منذ الخمسينيات والقائمة على الحسم السريع ونقل المعركة إلى أرض العدو. فالحرب على غزة تحوّلت إلى صراع استنزاف مفتوح، يتجاوز الأهداف الميدانية نحو إعادة تشكيل البيئة الإقليمية المحيطة بإسرائيل. هذا التبدّل فرض اعتماد أسلوب عملياتي يعتمد على المناورة المتقطعة، وإعادة التموضع المستمر، والسيطرة المؤقتة على المناطق.

كما شهد الجيش الإسرائيلي تصاعدًا لخطاب التضحية والفداء في صفوفه، وهو تحوّل نابع من البعد الديني والصهيوني المتجذّر في الخطاب العسكري والسياسي بعد أكتوبر. إذ لم تعد النجاعة العسكرية وحدها معيار البطولة، بل غدت المعاناة في سبيل المهمة القومية مكوّنًا مركزيًّا في الخطاب التعبوي. وقد ظهرت هذه النزعة بوضوح في خطابات القيادة العليا وفي أدبيات المعاهد التحضيرية العسكرية التي تربط بين الحرب والرسالة الإيمانية الصهيونية.

ويمكن ملاحظة تراجع مكانة الأسير في الوعي الإسرائيلي الجمعي والعسكري. فبينما كان المختطَف في العقود السابقة رمزًا وطنيًّا يوحّد الإسرائيليين حول قضية استعادته، أصبحت قضيته اليوم تُعامل ضمن حسابات سياسية وأمنية باردة، في ظلّ ضغط الرأي العام المؤيد لاستمرار الحرب حتى تحقيق النصر الكامل. هذا التحوّل يعكس تراجعًا في مركزية البعد الإنساني أمام تغوّل المنظور الأمني والعقائدي.

A woman holds a photo of Hadar Goldin, an Israeli soldier killed in 2014 whose body has been held in Gaza since then, during a rally calling for the return of the deceased hostages who are held by Hamas in the Gaza Strip, in Tel Aviv, Israel, Saturday, Nov. 8, 2025. (AP Photo/Mahmoud Illean)
امرأة تحمل صورة هدار جولدين، الجندي الإسرائيلي خلال مظاهرة تدعو إلى إعادة الأسرى  في تل أبيب (أسوشيتد برس)

لقد منح الدعم الأميركي غير المحدود سياسيًّا وعسكريًّا واستخباريًّا  الجيش الإسرائيلي ثقة مفرطة بالعمل دون خشية من المحاسبة الدولية. إذ وفّرت واشنطن غطاءً دبلوماسيًّا في المؤسسات الدولية، وإمدادات عسكرية مستمرة، مما أتاح لإسرائيل خوض معارك طويلة المدى بعمق ميداني أكبر وبحدود أدنى من القيود القانونية أو الأخلاقية.

كما برزت قدرة إسرائيل المتزايدة على العمل المتزامن في أكثر من جبهة، من غزة إلى الضفة الغربية، ومن الحدود الشمالية مع حزب الله إلى العمليات الجوية في سوريا والعراق. هذا النمط الجديد من الانتشار المتعدد الجبهات يعكس توجهًا إستراتيجيًّا يقوم على إدارة الحروب المتوازية، لا بهدف الحسم الفوري، بل لضبط الإيقاع الإقليمي واحتواء خصوم متعددين ضمن معادلة ردع مفتوحة.

وبذلك، تكشف الحرب الأخيرة عن أن إسرائيل لم تعد تخوض حروبًا تكتيكية محدودة، بل أصبحت تعيد صياغة مفهوم الحرب ذاته، في سياق تحوّل إستراتيجي من الردع الوقائي إلى الردع الوجودي، حيث تغدو المعركة مكوّنًا مستمرًّا من هوية الدولة وأجهزتها العسكرية والدينية معًا.

دعوات متسقة لإعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية

في أعقاب السابع من أكتوبر وإعادة النظر العميق التي شهدتها أروقة صنع القرار والمجتمع المدني في إسرائيل، تصاعدت دعوات متسقة لإعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية على نحو يجعلها أكثر تحصينًا أمام المفاجآت وأكثر قدرة على إدارة نزاعات طويلة الأمد ومتعدّدة الجبهات. هذه الدعوات لا تقتصر على مجرد تعديلات تكتيكية، بل تطالب بتحوّل إستراتيجي يتضمن ترسيخ مفاهيم دفاعية وتجهيزية قديمة مع إدخال عناصر عملية جديدة، وعلى رأسها مبدأ المبادرة الذي يجيز لإسرائيل استهداف تهديدٍ في مهده قبل أن يتبلور إلى خطر فعلي.

تتمحور الدعوات حول إعادة بناء منظومة دفاعية متكاملة تبدأ من خط الحدود وتصل إلى العمق، مع تعزيز بنية الردع بحيث تكون قادرة على ردع خصوم متعددين ومتزامنين. لا يكفي اليوم الاعتماد على شبكات رادار أو أنظمة اعتراض متفرقة؛ فالمطلوب توحيد عمل الشبكات، وزيادة كثافة نقاط المراقبة البشرية والميدانية، وربطها بإجراءات استباقية قادرة على تعطيل شبكات التموين والتصنيع المعادية قبل أن تعمل. هذه الرؤية تجد سندًا في تقارير تحليلية رأت أن مفهوم «الدفاع المتعدد الجبهات» يجب أن يصبح مبدأً ثابتًا في بناء القدرات والميزانيات.

ويدعو مؤيِّدو التغيير إلى اعتماد سياسة تقوم على مبدأ المبادرة المنتظمة والمحدّدة: استهداف مواقع تدريب، وخطوط إمداد، ومنشآت تسليح لدى الفواعل التي تُظهر مؤشرات واضحة للاستعداد لهجوم مستقبلي. لكنهم يؤكدون أن هذا المبدأ لا ينبغي أن يُفهم على أنه خيار ثانوي، بل أداة تتطلب معايير استخبارية صارمة، وآليات رقابية سياسية وسريعة، وإطارًا قانونيًّا يحدّد متى تُستخدم القوة استباقيًّا. في هذا الصدد، تشير التحليلات إلى أن الفاعلية المستدامة لمبدأ المبادرة مرهونة بتحسين دقة الاستخبارات ووجود قواعد واضحة للقرار.

لقد أظهرت الواقعة أن التفوق التكنولوجي وحده لا يكفي؛ فتعطّل منظومات مراقبة أو تشويش الاتصالات يمكن أن يلعن قدرة المنظومة على الرد. لذلك تُطالب توصيات الخبراء بإعادة توازن الاستثمار: لا تقليل للتكنولوجيا، بل تعديل لاستخدامها بحيث تصبح مضاعفةً للقدرة البشرية لا بديلًا عنها.

يتضمن ذلك رفع مستوى التدريب الميداني، وإعادة تأهيل وحدات المشاة والاحتياط، وتحسين الكفاءات القيادية والمرونة التكتيكية على الأرض. تنتقد دراسات أن ثقافة الاعتماد على «الشاشات» أضعفت الحسّ العملياتي، مما يستدعي عودة إلى تمارين وممارسات تُكرّس الاعتماد على القرار البشري تحت ضغط الميدان.

Israeli soldiers work on laptops as they take part in a cyber security training course, called a Hackathon, at iNT Institute of Technology and Innovation, at a high-tech park in Beersheba, southern Israel August 28, 2017. Picture taken August 28, 2017. REUTERS/Amir Cohen
جنود إسرائيليون يعملون على أجهزة الكمبيوتر المحمولة أثناء مشاركتهم في دورة تدريبية في مجال الأمن السيبراني (رويترز)

وفي صلب الإصلاحات المقترحة تأتي ضرورة تقوية القدرات البشرية الاستخبارية عبر تعليم اللغة العربية ودراسة التقاليد واللهجات والثقافة المحلية لكل من يتعامل مع الساحات الفلسطينية والعربية. تعلّم اللغة ليس رفاهية بل أداة استخبارية وإستراتيجية لتحسين التفاعل الميداني، وفهم الإشارات الثقافية، وتخفيض حالات التفسير الخاطئ للمعلومات. تقارير وإعلانات مؤسسات أمنية إسرائيلية أكدت مؤخرًا خطوات في هذا الاتجاه، معتبرة أن تحسين الكفاءات اللغوية والدينية مكمّل حاسم للاستخبارات التكنولوجية.

ويدعو المعلّقون إلى تطوير منصات ذكاء اصطناعي قادرة على تحليلات دقيقة للبيانات المتعدّدة -استخبارات إلكترونية، واتصالات، وصور فضائية، ومصادر مفتوحة- بشرط أن تُرفَق هذه الأدوات بضوابط شفافية، وتقييم خطأ، وإشراف بشري متواصل. التحقيقات الصحفية كشفت عن مشاريع عسكرية تسعى لبناء نماذج لغوية تستطيع فهم العربية اللهجية وتحليل أحجام هائلة من المحادثات، وهو ما يؤكد جدوى التوجّه لكنه يضع أيضًا تحديات أخلاقية وقانونية.

إن التفكك في منظومة القيادة والسيطرة والافتقار إلى تنسيق فوري بين القوات المركزية وفرق التأهب المحلية أدى إلى فترات حرجة من الفراغ الأمني. لذلك يوصي المختصون بآليات اتصال موحدة، لنظام إنذار مبكر داخلي يضمن وصول التعزيزات خلال دقائق، وبرامج تدريبية معيارية لفرق التأهب في المستوطنات بحيث تمتلك أدوات دفاعية مناسبة ومخزونات لوجستية تكفي المراحل الأولى من المواجهة. كما يجب دمج هذه الفرق في منظومة التخطيط القومي لا أن تُترك كقوة محلية معزولة.

أدّت الحاجة إلى استمرارية الإمدادات إلى مناشدات لزيادة الاكتفاء الذاتي في الإنتاج العسكري: ذخائر، وقطع غيار للطائرات المسيّرة، ومنظومات إلكترونيات، ومركبات مُحمّلة تجهيزًا خاصًّا. تبرز تقارير صناعية أن الحملة لتوسيع القاعدة الصناعية المحلية ضرورية لكنها تواجه حدودًا تقنية وسوقية؛ لذلك تقترح سياسات حكومية داعمة للاستثمار، وشراكات مع القطاع الخاص، وحوافز لصناعات النطاقين المتوسط والصغير. تحقيق استقلالية أكبر في التصنيع يُنظر إليه على أنه عامل محوري لتثبيت القدرة القتالية في زمن حرب مطوَّلة.

مقاربات نظرية

تُبرز المقاربات النظرية الحديثة حول إعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية حاجة الدولة إلى مراجعة شاملة لمبادئها الأساسية وتحديث أدواتها المفاهيمية والعملياتية في ضوء إخفاقات السنوات الأخيرة، وعلى رأسها فشل السابع من أكتوبر 2023.

يقدّم أفيتار متنيا رؤية تحليلية لتجديد عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، منطلِقًا من دراسة تطوّرها التاريخي منذ تسعينيات القرن العشرين، مبيّنًا نقاط قوتها وضعفها في مواجهة التحديات الأمنية الراهنة. ويستعيد متنيا ما يُعرف بـ"الأرجل الثلاث" التي شكّلت العمود الفقري للعقيدة منذ تأسيس الدولة -الردع، والإنذار المبكر، والحسم العسكري- مؤكّدًا أنّ جوهرها ظلّ قائمًا رغم التحولات السياسية والجيوسياسية، لكنّها بحاجة إلى إعادة مواءمة تكتيكية وتنظيمية لتتلاءم مع المتغيرات البنيوية في البيئة الإستراتيجية.

ويرى أن أحد التحولات المركزية تمثّل في تآكل مفهوم "المحيط العدائي" الذي كان يفترض مواجهة متزامنة مع جبهات عربية عدّة تمثل تهديدًا وجوديًّا، حيث صيغت العقيدة الأمنية في عهد بن غوريون لتكون دفاعية الطابع معتمدةً على الهجوم الاستباقي كوسيلة ردع. بيد أنّ التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية بعد التسعينيات ألغت فعالية هذا النموذج، إذ لم تعد التهديدات تنبع من دولٍ منظمة بل من فاعلين غير دولتيين كحماس وحزب الله، مما يفرض تطوير عقيدة أمنية مرنة تتعامل مع تهديدات غير متماثلة في فضاء معولم ومتغيّر.

ويخلص متنيا إلى أنّ القوة العسكرية لم تعد كافية لتحقيق نصرٍ حاسم في زمن الثورة الرقمية والاقتصاد العالمي؛ فالنصر أصبح وظيفة إدارةٍ ذكيةٍ للصراع ضمن أهداف محددة وأطر زمنية واضحة توازن بين الإنجاز العسكري واستدامة الاقتصاد والحفاظ على جاهزية الاحتياط. ومن هذا المنطلق، يدعو إلى بلورة عقيدة أمنية محدّثة ترتكز على سبع ركائز:

التكيّف المستمر مع التحولات الإقليمية والعالمية. بناء قوة إستراتيجية متوازنة تجمع بين التفوق التكنولوجي والجاهزية العملياتية. تعزيز الردع الوقائي وتكثيف الضربات الدقيقة الموجّهة. تحصين الجبهة الداخلية بوصفها مكوّنًا حيويًّا للأمن القومي. ترسيخ التحالف مع الولايات المتحدة ضمن مصالح إستراتيجية متبادلة. دمج الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية في تخطيط الأمن القومي. تطوير الدفاع السيبراني والمعلوماتي لمواجهة التهديدات غير التقليدية.

وفي خلاصة رؤيته، يشدّد متنيا على أنّ العقيدة الأمنية الجديدة ينبغي أن تحافظ على طابعها الدفاعي التاريخي، مع إعادة تعريف مفاهيم الردع، والمرونة العملياتية، والتكامل المدني العسكري بما يتناسب مع تحديات العقود المقبلة.

أما آري شافيت فيذهب إلى أن إسرائيل تحتاج إلى سياسة وطنية متكاملة تنبع من عقيدة أمنية محدَّثة ومُفعّلة ميدانيًّا، إذ لا يمكن مواجهة التحديات المتصاعدة من دون إعادة بناء الأساس الفكري الذي وضعه زئيف جابوتنسكي ودافيد بن غوريون، وتكييفه مع واقع القرن الحادي والعشرين. ويشدّد على البعد التربوي في إعادة ترسيخ ثقافة أمن قومي واعٍ يربط بين الهوية القومية والمسؤولية الإستراتيجية.

لكن غور ليش يقدّم قراءةً نقدية مغايرة، إذ يرى أن فشل السابع من أكتوبر لم يكن ناتجًا عن خلل بنيوي في العقيدة الأمنية ذاتها، بل عن تطبيقٍ خاطئ لمبادئها من قبل المستويين السياسي والعسكري. فالعقيدة بحد ذاتها، في رأيه، ما زالت صالحة لو أُحسن تنفيذها، لكنّ انعدام الانسجام بين القيادة السياسية والعسكرية هو ما أدى إلى إخفاقات ميدانية وتنظيمية جسيمة.

ويحذر ليش من وهم الحرب المفتوحة، معتبرًا أن خوض حرب طويلة دون إطار زمني واضح ودون تحديد أدواتها وغاياتها يُعدّ خطأً إستراتيجيًّا قاتلًا. فكل عملية عسكرية يجب أن تُقيّم وفق كلفتها وجدواها السياسية، لا بناءً على المكاسب العسكرية فحسب. كما يحمّل الجيش مسؤولية التحذير من تجاوز حدود القدرة التشغيلية والحفاظ على توازن الموارد والجاهزية، داعيًا إلى أن تكون العمليات العسكرية وسيلة لتحقيق غاية سياسية محددة وليست غايةً بحد ذاتها.

" frameborder="0">

ختامًا

تتكامل هذه الطروحات لتؤكد أنّ إعادة صياغة العقيدة الأمنية الإسرائيلية تمثّل ضرورة إستراتيجية ملحّة، ليس بهدف تبديل جوهرها التاريخي، بل من أجل تجديد منطقها الداخلي وإعادة تحقيق الانسجام بين مستوياتها الثلاثة النظرية، والإستراتيجية، وآليات التطبيق العملي بما يعيد للعقيدة قدرتها على التكيّف والفعل في بيئة إقليمية ودولية تتّسم بعدم اليقين والتغيّر البنيوي المتسارع.

وإلى جانب ذلك، تُعدّ إعادة الصياغة هذه إحدى الأدوات المركزية لتعزيز مكانة إسرائيل الإقليمية والدولية؛ إذ تسهم في ترسيخ صورتها كقوة مستقرة قادرة على الاستجابة الذكية للتحديات، وتُظهر قدرتها على الجمع بين الصلابة العسكرية والمرونة السياسية. كما تتيح لها توظيف تفوقها التكنولوجي والاستخباري في بناء ردع مستدام يحدّ من أخطار التهديدات غير التقليدية، ويعزّز من مكانتها كفاعلٍ محوريّ في منظومات الأمن الإقليمي والتحالفات الإستراتيجية العالمية.

بذلك، تصبح إعادة بناء العقيدة الأمنية الإسرائيلية ليست مجرّد مراجعة عسكرية أو فكرية، بل مشروع شامل لإعادة إنتاج القوة الإسرائيلية على المستويين المفاهيمي والعملي، بما يضمن استمرارية تفوقها الإستراتيجي وحفاظها على دورها القيادي ضمن توازنات الشرق الأوسط المتحوّلة.

أعدنا تشكيل وجه الشرق الأوسط، ومفهوم أمن دولة إسرائيل، وإستراتيجيتنا للدفاع والردع للسنوات القادمة

أيال زامير رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي

 

0 تعليق