في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، صوت سكان نيويورك لزهران ممداني- الشاب الأميركي ذي الجذور الأوغندية، الهندية، المسلمة- ليصبح عمدة المدينة التي تعد مختبرا سياسيا وثقافيا لأميركا كلها.
لكن ما حدث لم يكن مجرد فوز انتخابي غير مألوف، بل كان زلزالا رمزيا هز البنية العميقة للوعي الأميركي. فأن يصعد شاب من الهوامش الثقافية والاجتماعية إلى قمة السلطة في مركز الإمبراطورية الإعلامية والاقتصادية، يعني أن المعادلة القديمة التي قامت عليها أميركا بدأت تتصدع من الداخل.
هل نحن أمام لحظة استثنائية عابرة في التاريخ الأميركي، أم أمام تحول أجيالي يعيد تركيب بنية السلطة ذاتها؟ هل يمثل ممداني شخصا بملامحه الفردية، أم ظاهرة تعبر عن زمن جديد؟
لقد بدا المشهد وكأنه تصويت على أميركا مختلفة؛ أميركا لا تدار بعد اليوم باسم "الفرصة الفردية" وحدها، بل باسم "العدالة المشتركة".
فالأمة التي احتكرت نخبتها البيضاء إدارة القرار لعقود، تواجه الآن جيلا لم يكتفِ بالاحتجاج من الشوارع، بل قرر أن يعبر العتبة إلى الداخل، إلى مؤسسات الحكم، ليعيد تعريف معنى السلطة والمواطنة من جذورهما.
جيل جديد.. من الهامش إلى مركز الفعل السياسي
من هو هذا الجيل الذي يقف خلف زهران ممداني؟ أهو جيل بيولوجي فتي، أم جيل فكري خرج من رحم الانكسار؟ يبدو أن الأمر أعمق من مجرد فارق عمري. نحن أمام تحول في البنية الوجودية للوعي الأميركي.
جيل لم يتكون في زمن اليقين، بل في زمن الانكشاف. تربى على الشك أكثر مما تربى على الإيمان بالمؤسسات.
لقد صاغت الأزمات الكبرى وعيه: 11 سبتمبر/أيلول وما بعدها، حيث تعلم أن الخوف سلعة، وأن الأمن قد يستخدم لتبرير الحرب. ثم جاءت أزمة 2008 لتكشف أن "الحلم الأميركي" ليس وعدا للجميع، بل صفقة مغلقة بين رأس المال والسياسة. ثم العنف الشرطي ضد السود والمهاجرين، الذي فجر حركات مثل "حياة السود مهمة"، كاشفا أن المساواة القانونية لا تساوي المساواة الواقعية.
إعلان
وأخيرا، جاءت غزة- لحظة الانكشاف الأخلاقي الأشد وقعا- حين شهد الجيل الشاب، إلى جانب قطاعات أخرى من المجتمع، التناقض الفاضح بين خطاب الحرية الذي تروج له أميركا، وبين ممارسات القتل والإبادة التي تمارَس بدعم من النخب المسيطرة.
في هذا المختبر المتفجر بالصور الحية، تشكل "الضمير الرقمي"- وعي فوري لا يعترف بالوسائط، ولا ينتظر تفسيرا رسميا. لم يعد الشاب الأميركي يستهلك الأخبار؛ بل يختبرها بعينه، يحاكم الرواية السياسية بالمشهد المصور. وهكذا انهارت أمامه أسطورة "الاستثناء الأميركي". لم تعد أميركا بالنسبة له فكرة مقدسة، بل تجربة بشرية قابلة للنقد.
لكن المفارقة أن هذا النقد لا يصدر عن كراهية للوطن، بل عن رغبة في إنقاذه من وهمه. الوطنية هنا ليست ولاء للعلم، بل ولاء للعدالة.
من هنا يصبح ممداني أكثر من مجرد عمدة؛ يصبح تجسيدا لمواطن أميركي جديد: كوني الهوية، نقدي الانتماء، يرى في العدالة معيار الوطنية لا في الولاء الأعمى.
فهل انتُخب ممداني لأنه استثناء، أم لأنه نتيجة؟ لأن جيلا كاملا قرر أن السياسة لا يمكن أن تترك للمحترفين وحدهم؟
إن حملته القاعدية، بتمويلها الشعبي وتنظيمها الأفقي، لم تكن مجرد آلية انتخاب، بل هي تجريب سياسي لجيل يحاول تحويل أخلاق الاحتجاج إلى مؤسسات. لقد بدأت أميركا تنتقل، على نحو بطيء، من براغماتية المصلحة إلى أخلاقية الضمير.
يبدو أن أميركا لا تعاد كتابتها في الدساتير، بل في الميادين، حيث تصاغ السرديات الجديدة وتنبض الضمائر الحية
فلسطين كمرآة أخلاقية للأميركيين الجدد
ليس مصادفة أن يتزامن صعود ممداني مع الحرب على غزة. فذلك التواقت ليس تزامنا زمنيا بل تفاعلا تاريخيا بين جرحين: جرح الضمير الأميركي، وجرح الإنسانية في فلسطين.
لقد كشفت الحرب على غزة عن شق عميق وغير مسبوق في المجتمع الأميركي: من جهة، جيل مأسور بروايات التحالفات القديمة يبرر العنف باسم "الواقعية السياسية"، ومن جهة أخرى، جيل جديد يرى في الموقف من فلسطين امتحانا صريحا للضمير والأخلاق، ويطرح السؤال الجوهري: هل يمكن لأميركا أن تظل صادقة مع قيمها المعلنة إذا تجاهلت العدالة خارج حدودها؟
تحولت فلسطين إلى مرآة تعري الازدواجية: من يقف مع العدالة يقف مع الفلسطينيين، ومن يبرر القتل يخون الحرية التي يدعي الدفاع عنها.
ومع تدفق الصور الحية عبر المنصات الرقمية، انهار احتكار السرد الذي كانت تفرضه المؤسسة الرسمية. لم تعد واشنطن تملك رفاهية صياغة "الحقيقة" على هواها؛ فالصورة باتت تفعل ما كانت تفعله البيانات والبيانات المضادة: تفضح وتقاوم وتحرج الخطاب الرسمي أمام ضمائر الناس.
تحولت الشاشة إلى ميدان سياسي مفتوح، تتقاطع فيه الأخلاق بالإعلام، وتتنازع فيه الروايات على الشرعية. وهكذا بدأت معركة جديدة في قلب الوعي الأميركي: معركة الحقيقة ضد الهيمنة، والضمير ضد الرواية المصنعة.
وفي خضم هذه المعركة لم يكن زهران ممداني صوتا استثنائيا، بل ثمرة من ثمار هذا التحول الأخلاقي. فموقفه الصريح من القضية الفلسطينية لم يكن مجرد جرأة سياسية، بل فعْل كسر لحاجز الخوف الذي صنعته التابوهات الأميركية المزمنة، تلك التي رسختها عقود من الهيمنة الصهيونية في الوعي العام، وفي دوائر القرار والنخب الإعلامية.
إعلان
كان ممداني يقول، بفعله قبل قوله، إن زمن الصمت انتهى، وإن العدالة لا تعرف استثناءات في قلب نيويورك. إنها بداية انتقال في المعنى ذاته للسياسة الخارجية: من براغماتية المصالح إلى أخلاقية الانسجام مع القيم.
فهل تكون غزة لحظة مفصلية تعيد تعريف التحالفات الأميركية، وتفكك البنية الأخلاقية القديمة التي بُنيت عليها الإمبراطورية؟ أم أن النظام سيعيد إنتاج سرديته عبر تبريرات جديدة؟
مهما يكن، أصبح واضحا أن الموقف من فلسطين لم يعد مجرد قضية خارجية، بل صار معيارا للمواطنة الأخلاقية داخل الولايات المتحدة. فإما أن تلتزم أميركا بقيمها المعلنة، أو تستمر في الانفصام التاريخي بين خطابها وممارساتها.
وفي هذا الإطار، يتجلى دور مختلف القوى الحية في البلاد- من العمال والطلاب وأساتذة الجامعات والمهاجرين والطبقة الوسطى، وصولا إلى أطراف المجتمع المهمشة- في تعزيز هذا الوعي الجديد وتثبيته من خلال انخراط عضوي ومستمر، يصنع قاعدة أخلاقية متينة للسياسة الأميركية المستقبلية.
من الشارع إلى السلطة: كيف يعيد الجيل الجديد تعريف السياسة الأميركية
التحول الراهن لم يعد مجرد موجة احتجاج عابرة، بل عملية إعادة تركيب عميقة لبنية السلطة نفسها. فالجيل الشاب الذي يقود هذه الدينامية انتقل من ثقافة الصراخ في الشوارع، إلى ثقافة الفعل المباشر داخل المؤسسات.
لم يعد دوره مجرد المطالبة بالعدالة، بل إعادة تعريف معناها وممارستها من داخل البلديات والجامعات، وفي الإعلام البديل، وفي منظمات حقوق الإنسان والمناخ. وهكذا تتشكل تدريجيا سلطة موازية تتحدى الشرعية التقليدية، وتعيد رسم خريطة النفوذ السياسي والاجتماعي.
والمفارقة أن هذا التحول لا ينشأ داخل الحزبين التقليديين، بل من الهوامش التي طالما تجاهلها المركز. الائتلاف الذي حمل ممداني إلى المنصب لم يكن حزبيا، بل تحالفا قيميا بين نشطاء المناخ، والمدافعين عن المهاجرين، والطلاب المناصرين لفلسطين، والعمال الرافضين اقتصادَ الجشع. هؤلاء لا تجمعهم أيديولوجيا بل أخلاق جديدة للسياسة ترى العدالة شبكة متداخلة لا قضية منفصلة.
لكن الصراع لم يحسم بعد. فبين "أميركا القديمة" و"أميركا الجديدة" تتصارع شرعيتان: شرعية المال والإعلام، وشرعية الضمير والصدق.
الإعلام المهيمن والشركات الكبرى يقاومان هذا التحول بكل قوتهما، لكنهما يواجهان خصما جديدا لا يحارب بالسلاح نفسه: خصما لا يملك المال لكنه يملك المعنى.
فهل تستطيع الشرعية الرمزية أن تهز البنية السياسية؟ أم إن النظام سيعيد امتصاصها ضمن آلياته كما فعل مع الثورات السابقة؟ التاريخ يقول إن أميركا بارعة في الترويض، لكن هذا الجيل يبدو أكثر وعيا بلعبة الاحتواء، وأكثر إصرارا على تفكيكها من الداخل.
إنه تحولٌ قيمي قبل أن يكون سياسيا، شبيهٌ بالتحول الذي عرفته أميركا في ستينيات القرن الماضي، لكن بنسخة رقمية وعالمية. فجيل ممداني لا يرى العدالة شأنا محليا، بل شبكة كونية من الارتباطات.
لقد توسعت فكرة المواطنة من الانتماء إلى دولة، إلى الانتماء إلى مبدأ. لم يعد الانتماء يقاس بالجواز، بل بالالتزام بالضمير الإنساني.
هكذا يعيد هذا الجيل تعريف السلطة: من سلطة القوة إلى سلطة المصداقية، من إدارة المصالح إلى مساءلة القيم، من "من يملك القرار؟" إلى "أي عدالة ينتج القرار؟".
إنه لا يثور ليهدم، بل ليعيد تركيب المعنى نفسه.
استشراف: أي أميركا ستولد من رحم هذا التحول؟
أي مستقبل ينتظر دولة بدأت تشك في نفسها؟ هل نحن على أعتاب مسار طويل يعيد تعريف الولايات المتحدة كقوة أخلاقية تبنى على القيم والمبادئ، لا كإمبراطورية تتقاسم العالم بمبدأ القوة والسيطرة؟ أم إن النظام العميق، بخبرته الطويلة في امتصاص الصدمات وتحويل الثورات إلى زخارف إصلاحية، سيبتلع هذا الوعي الجديد، محولا إياه إلى واجهة بلا جوهر، مجرد عرض شكلي لا يغير شيئا في الجوهر؟
إعلان
الجواب لا يكتب بالحدث نفسه، بل بما سيصنعه العقد المقبل: صعود المزيد من الشباب، وانخراط فاعلي المجتمع – من عمال وطلاب وأساتذة ومهاجرين- في مواقع القرار، لتبدأ لغة المؤسسات تتغير من الداخل، ولتعيد السلطة والممارسة السياسية تعريفها وفق معايير جديدة للشرعية والمصداقية، ليستقيل معها الماضي من سلطته المطلقة.
في هذا الزمن الجديد، تتراجع نغمة "الاستثناء الأميركي" التي غذت مخيال الأمة لعقود، لتحل محلها فكرة "الإنسانية المشتركة". ومع تآكل أسطورة "الأمة المختارة"، يعاد بناء سردية أكثر تواضعا: أميركا لم تعد تقود العالم، بل تتعلم منه، وتدرك أن قوتها لا تقاس بالهيمنة بل بالقدرة على الإصغاء والاعتراف بالخطأ.
لكن، السؤال الأكبر لا يزال معلقا في الهواء: هل يمكن للضمير أن يصبح نظاما؟ هل تستطيع الأخلاق أن تتحول إلى حكم؟ هل يمكن للقيم أن تتخطى القوة وتصبح معيارا للقرار؟ لحظة ممداني ربما تكون الشرارة، لكنها ليست الجواب.
إنها فقط استدعاء لمستقبل يتطلب من الأميركيين أن يختاروا بين استمرار الانفصام التاريخي بين الخطاب والممارسة، أو الدخول في تجربة أخلاقية حقيقية، قد تعيد تعريف أميركا من الداخل قبل أن تعيد تعريف العالم.
خاتمة: لحظة ممداني كلحظة أميركية فاصلة
انتخاب زهران ممداني لم يكن حدثا سياسيا فحسب؛ بل كان مرآة للذات الأميركية في لحظة مواجهة مع نفسها. بين أميركا القوة وأميركا الضمير، بين الماضي الإمبراطوري والمستقبل الإنساني.
لقد أعلن الحدث ولادة ضمير شبابي جديد يرى الحرية بلا استثناء، والعدالة بلا جغرافيا، والمواطنة بلا لون أو دين.
وإذا كان القرن العشرون قرنَ القوة الأميركية، فإن القرن الحادي والعشرين يبدو مهيأ ليكون قرنَ الضمير الأميركي الجديد: ضمير أجيال لا تخاف من الحقيقة، حتى لو هزت أساس الأسطورة التي بُنيت عليها الإمبراطورية.
في النهاية، يبدو أن أميركا لا تعاد كتابتها في الدساتير، بل في الميادين، حيث تصاغ السرديات الجديدة وتنبض الضمائر الحية.
جيل ممداني لا ينتظر المستقبل؛ إنه يكتبه- حرفا بحرف، وقيمة بقيمة- ليقول للعالم: لن تكمن العظمة الأميركية في احتكار الطبقة البيضاء للسلطة، ولا في قوة المال والإعلام المدعوم من قوى خفية، بل في تموضع الأحرار من أبنائها، في الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين، ليبنوا في الفكر والممارسة، قدرة أميركا الجديدة على أن تكون عادلة، صادقة، وإنسانية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق