لا يشكل المسيحيون نسبة كبيرة في تركيا، لكن مع ذلك دأب من يتولون منصب بابا الكنيسة الكاثوليكية على زيارة تركيا. فقد قام البابا بنديكت السادس عشر بزيارة رسمية عام 2006، والبابا فرنسيس عام 2014.
غير أن أيا من تلك الزيارات لم يثر الجدل كما فعلت زيارة البابا ليون الرابع عشر الأخيرة.
الطقس الديني المهم على ضفاف بحيرة إزنيك
تحمل الأراضي التركية رموزا مهمة في تاريخ المسيحية. فكنيسة مريم العذراء في إزمير تعد مكانا ذا قيمة نصف حج.
أما آيا صوفيا، كونها واحدة من أقدم وكبرى الكنائس، فقد كانت لسنوات طويلة موقعا بالغ الأهمية بالنسبة للمسيحيين.
لكن مدينة إزنيك لها مكانة مختلفة وأعمق؛ لأنها الساحة التي رسمت فيها الخطوط العامة للإيمان المسيحي وكانت نقطة تحول كبرى.
قبل 1700 عام (325)، اجتمع رجال الدين في القاعة الكبرى للقصر الإمبراطوري في إزنيك (قصر نيقية) فيما يعرف بـ "مجمع نيقية الأول"، واتخذوا قرارات شكلت الدين المسيحي وتاريخه. ولذلك تذكر إزنيك دائما بشكل خاص.
البناء التاريخي الذي استضاف المجمع دمره زلزال عام 740، ثم غمرته مياه بحيرة إزنيك بعد ارتفاع منسوبها.
وفي عام 2014، مع انحسار المياه، ظهرت بقايا المبنى، وخلص العلماء إلى أن هذا هو الموقع الذي انعقد فيه المجمع الشهير.
على منصة أقيمت فوق هذه الآثار، أقام البابا ليون قداسا مشتركا مع بطريرك الأرثوذكس بارثولوميوس. وللمرة الأولى منذ 1700 عام، يقيم مذهبان مختلفان من المسيحية طقسا مشتركا في إزنيك، موجهين رسالة مهمة إلى العالم.
وقد أسعد هذا البعض، وأثار قلق آخرين.
المسيحيون يتوحدون ضد من؟
يثير مفهوم "السلطة المسكونية" (الإكومينيزم) الجدل في تركيا منذ سنوات طويلة. فبطريرك الأرثوذكس في إسطنبول، بارثولوميوس، ينتقد كثيرا لاستخدامه صفة "الزعيم الديني المسكوني" أو "العام".
عندما أقام البابا ليون وبطريرك الأرثوذكس قداسا مشتركا في إزنيك، اشتد الجدل حول هذا المفهوم.
فالبعض اعتقد أن المسيحيين على الأراضي التركية يعلنون وحدتهم، ورأى آخرون ذلك ـ لسبب ما ـ تهديدا موجها إلى تركيا.
إعلان
هل يمثل اتحاد العالم المسيحي تهديدا لتركيا؟ هذا أمر قابل للنقاش.
وهل يمثل تهديدا للعالم الإسلامي؟ في رأيي هذا أيضا قابل للنقاش.
فربما يخلط البعض بين تأثير السلطات الدينية المسيحية اليوم وبين تأثيرها في زمن الحروب الصليبية.
ولو كانت دولة الفاتيكان المسكونية تملك نفوذا حقيقيا على الدول، لكانت أوقفت الحروب بين المسيحيين أنفسهم، ومنعت انتشار العلمانية بهذا الشكل الواسع، وهي التي تعارضه.
ومن لا يستطيع تحقيق كل هذا، من غير الواقعي توقع أنه سيتحد في إزنيك ثم يعلن حملة صليبية ضد المسلمين. هذا أمر مبالغ فيه جدا في نظري.
لماذا أثارت زيارة البابا كل هذا الجدل؟
التوتر العالي بين المعارضة والسلطة في تركيا ينعكس على المواقف تجاه كل حدث أو تطور.
فهناك فئة في تركيا تعارض كل خطوة تتخذها الحكومة بشكل تلقائي. ولم تجد صعوبة في انتقاد زيارة البابا بالطريقة نفسها.
انتُقد كل شيء، من شعار الزيارة، إلى الملابس التي ارتداها خلال القداس، إلى الأماكن التي زارها، وحتى سيارته.
وهناك من قال إن الزيارة، بصفته رئيس دولة وزعيما دينيا، تضعف علمانية البلاد.
كما شارك قوميون متأثرون بالشعبوية في الجدل أيضا.
فمنهم من اعتبر إقامة قداس مشترك بين الكاثوليك والأرثوذكس تهديدا لسيادتنا الوطنية، ومنهم من قال إنه يوقظ "العقلية الصليبية".
أما الذين يعانون من صعوبات اقتصادية، أو يشعرون بالغضب بسبب الأوضاع القضائية والمعيشية، فقد استغلوا الزيارة لانتقاد الحكومة.
لكن هناك فئة متعقلة ترى أن اختيار البابا تركيا كأول محطة لزيارته، وإقامة طقس ديني على بقايا موقع تاريخي في إزنيك، يمثلان دعاية إيجابية ووجها مشرفا للبلاد.
كما أن إشادته المتكررة بدور تركيا في جهود الوساطة والسلام والحوار تمنح البلاد مكانة مهمة فعلا.
الحوار بين الأديان وقضية فلسطين
كان خطاب البابا ذا بعد فكري قوي.
فقد شدد على أن العالم ينجرف نحو حرب، ودعا إلى مزيد من الحوار وجهود السلام من أجل منع ذلك.
ولفت الانتباه أيضا إلى أهمية مؤسسة الأسرة، وهو موضوع أكد عليه الرئيس أردوغان في كلمات مشابهة.
أما أقوى أجزاء المؤتمر الصحفي المشترك فكانت إشارات البابا إلى قضية فلسطين والإبادة الجارية في غزة.
الحوار بين الأديان كان مشروعا قادته تركيا وإسبانيا، لكنه فقد زخمه في تركيا بعد استغلاله من قبل تنظيم فتح الله غولن (FETÖ)، فتحول الاهتمام به إلى رفض ونفور.
كما أن الإبادة الإسرائيلية في غزة باتت ترى مرتبطة بالديانة اليهودية، مما يجعل قبول فكرة الحوار بين الأديان صعبا في الظرف الراهن، برأيي.
أثناء وجوده في تركيا، لفت انتباهي أن البابا لم يتناول موضوع فلسطين مباشرة.
لكن عندما غادر إلى لبنان، صرح للصحفيين على متن الطائرة بأن "حل الدولتين هو الطريق الوحيد للسلام، وأن إسرائيل لا تقبل به".
وعند هبوطه في لبنان، البلد الذي يتعرض باستمرار لقصف واعتداءات إسرائيلية، تصدرت كلماته عناوين الصحف بشكل طبيعي.
الفاتيكان يدافع عن هذا الموقف منذ سنوات طويلة، وتكرار البابا الجديد له يزعج إسرائيل.
وإذا اعتبرنا أن القدس مدينة مقدسة للديانات الثلاث، فإن المسيحيين أيضا يعانون بشدة بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
إعلان
مع ذلك، أرى شخصيا أن التعاون مع الفاتيكان ضمن خطة مشتركة قد يكون مفيدا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق