نوفمبر/تشرين الثاني 2025-شمال الكاريبي
تشقّ حاملة الطائرات الأميركية USS Gerald R. Ford طريقها عبر مياه الكاريبي الزرقاء. تسبقها مدمرات وفرقاطات، وتغطيها طائرات القنص B-52s التي تحوم على بعد 30 كيلومترا فقط من الساحل الفنزويلي. فتحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، حشدت الولايات المتحدة ما يقرب من عُشر قوتها البحرية العالمية في منطقة واحدة، تسمّى الآن منطقة "عمليات الرمح الجنوبي".
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listيقول ترامب ووزير الحرب بيت هيغسيث عن هذه العملية بأنها حملة ضد تنظيم "الإرهاب والمخدرات"، لكن الفنزويليين، والعالم، وأنا وأنت على الأرجح، نعلم أنها محاولة أخرى لإسقاط نيكولاس مادورو وحكومته، بعد أن حاولت الولايات المتحدة فعل ذلك لسنوات بشتى الطرق.
وعلى بُعد مئات الكيلومترات في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، يقف رجل قصير القامة ممتلئ البنية نسبيا، في قصر "ميرافلوريس" الرئاسي، كان نيكولاس مادورو يراقب الأفق. بالنسبة لخصومه في البيت الأبيض، هو "دكتاتور مارق" و"رئيس عصابة مخدرات" يجب اقتلاعه لحماية الأمن القومي الأميركي. لكن بالنسبة لحلفائه في موسكو وبكين وحتى طهران وللنواة الصلبة من أتباع هوغو تشافيز الذين لا يزالون يهتفون باسمه، هو سائق الانتصارات، "مادورو الناجي" الذي عجزت الانقلابات، والعقوبات، ومؤامرات الاغتيال بالطائرات المسيرة عن زحزحته قيد أنملة.
هذا المشهد، الذي يقف فيه سائق الحافلة السابق الذي حملته الثورة البوليفارية إلى قمة السلطة في فنزويلا، ليواجه أضخم حاملة طائرات في التاريخ، مشهد يختزل قصة مادورو كلها.
فهو رجل عادي أصبح رئيس دولة في لحظة مربكة من صعود إمبراطوريات واضمحلال أخرى، وهو وريث ثورة عسكرية شعبية توفي قائدها هوغو تشافيز عندما بدأت العقوبات الأميركية والحصار الاقتصادي يخنقان اقتصاد البلاد، وليستخلف قبل رحيله مادورو، الذي يوصف بأنه آخر جدار قائم للثورة التي تريد أن تنقضّ.
إعلان
" frameborder="0">
طفولة في الهامش
غالبا ما تبدأ السيرة الذاتية المختزلة التي تقدمها الصحافة الأميركية لنيكولاس مادورو من محطة قيادته للحافلة، وهي سردية يستخدمها خصومه للحط من تعليمه المتواضع، ويستخدمها هو لتأكيد انتمائه للطبقة العاملة. لكن الحكاية أعقد من ذلك.
فقد وُلد نيكولاس مادورو موروس في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1962 في حي "إل فايي"، أحد أحياء الطبقة العاملة الأكثر صخبًا في كاراكاس. لم يخرج من الأكاديميات العسكرية التي صاغت شخصية سلفه ومعلمه هوغو تشافيز، ولا وُلد لأبوين من النخبة الأكاديمية اليسارية. تشكل وعيه السياسي في السبعينيات، في خضم فورة النفط الفنزويلية التي خلقت ثراءً فاحشا لقلة من المواطنين وفقرا مدقعا للأغلبية.
لا تتحدث السيرة الذاتية الرسمية لمادورو عن الفقر بصراحة، لكن من يزر الحي الذي وُلد فيه يعرف، فلا تزال بيوت الصفيح على السفوح، والأزقة صاعدة ضيقة، والناس بعضهم فوق بعض من التكدس والازدحام. لكن بيت مادورو كان مختلفا، فقد كان والده نقابيا فتح عيني ابنه على النقاشات السياسية، وكانت والدته معلمة ما عنى أن الثقافة كانت حاضرة في العائلة، لكن بلا أي قدر من الرفاهية.
في المدرسة الثانوية "خوسيه أفالوس"، لم يكن مادورو تلميذا فائقا بالمعنى الأكاديمي. لكنه انجذب مبكرا إلى تنظيمات يسارية. انضمّ في مراهقته إلى "الرابطة الاشتراكية"، التنظيم الشيوعي الماوي الذي رفض صناديق الاقتراع وآمن بالتغلغل الصبور في أوساط البروليتاريا. بالتوازي كان مادورو عازف غيثار في فرقة روك صغيرة أطلقت على نفسها اسم "إينيغما". هذه الازدواجية بين الفنون والسياسة ستبقى جزءا من سرديته حتى بعد أن أصبح رئيسا.
لم يكمل مادورو الجامعة. اختار الشارع. في الثمانينيات، قاد السائق الشاب حافلات شركة مترو كاراكاس. كان هناك، في عنابر الاستراحة ومواقف الحافلات، حيث يرى الحياة تمضي والناس يختلفون حول العمل والملل والسخط الصامت من سوء الأجور والتجاهل الحكومي لمطالبهم. هناك تعلّم أهم ما يحسنه حتى اليوم، الإصغاء، واستقبال الشكاوى، وإدارة الخلافات دون تصادم مباشر.
صعد الشاب العشريني سريعا في صفوف نقابة عمال المترو (SITRAME)، التي أسسها في البداية بشكل مواز للنقابات الرسمية، مما عكس فهمه المبكر لقوة البنى التنظيمية الحقيقية على الأرض. كان التنظيم يتطلبُ تحدي الإطار المؤسسي والعملَ بطرق غير تقليدية لتأسيس النقابة خارجَ نطاق الشركةِ الرسمية. أكسبته هذه التجربة التنظيمية مهارات أصبحتْ رصيدَهُ الأهم عندَ لقائِهِ لاحقًا بقائده هوغو تشافيز.
كان أداؤه النقابي مختبرا مبكرا لقدراته على التفاوض والشد والجذب، وعلى بناء ولاءات تعتمد على العلاقات الشخصية والشبكات التنظيمية المحكمة، لا الوعود والكلام المعسول. من هذه الشبكات، اقترب تدريجيا من مجموعة صغيرة من الضباط الشبان الذين كانوا يخططون في ثكناتهم لما سيعرف لاحقا "الحركة البوليفارية الثورية"، تشافيز ورفاقه.
السائق والضابط .. الثورة والسجن
في فبراير/شباط عام 1992، هزّت محاولة انقلاب ضد الرئيس كارلوس أندريس بيريز السياسة الفنزويلية. قاد المحاولة ضابط مظلي أسمر يُدعى هوغو تشافيز. فشل الانقلاب وسُجن تشافيز. لكن في خطاب تلفزيوني قصير قبل دخوله السجن، طالب الضابط الشاب حلفاءه بتسليم السلاح، ونطق بعبارة حفرت اسمه في قلوب الفنزويليين حين قال إنه ورفاقه الثوار لم ينتصروا "حتى الآن" Por ahora. كانت رسالته لمواطنيه أن الثورة لم تمت، لقد تأجلت فحسب.
إعلان
نقطة التحول الكبرى كانت في سجن "ياري". فبعد فشل انقلاب هوغو تشافيز العسكري كان مادورو واحدا من المدنيين القلائل الذين سُمح لهم بزيارة "الكومندانتي" في زنزانته. لا تذكر المصادر الرسمية تفاصيل دقيقة عن تلك اللقاءات، لكن رفاق تشافيز الأوائل يشهدون أن مادورو كان من أول المدنيين الذين راهن عليهم الضابط السجين لبناء "الجمهورية الخامسة".
عمل مادورو كساعي بريد سري، ينقل الرسائل بين الضابط السجين والحركات الشعبية في الخارج. هناك، توثقت عرى ولاء مطلق، وتعرف مادورو على شريكة حياته ورفيقة حربه، المحامية الشرسة "سيليا فلوريس" التي كانت تقود فريق الدفاع عن تشافيز. هذا الثنائي (مادورو وسيليا) سيصبح لاحقا النواة المدنية الصلبة للنظام، العقل المدبر الذي يحمي ظهر العسكر.
بعد إطلاق سراح تشافيز والعفو عنه، تأسس حزب "حركة الجمهورية الخامسة" (MVR) الذي سيقوده إلى الرئاسة عام 1998. لقدْ أصبحَ مادورو من مؤسسيِ حركةِ الجمهوريةِ الخامسةِ مُرسِّخا موقِعَهُ بكونه النائبَ الأول والرجلَ الأكثرَ ثقة لتشافيز، مُتجاوِزا في الولاء والصلاحيات الكثير من قدامى العسكريين. ومن موقعه كنقابي صاعد، دخل مادورو عالم السياسة البرلمانية، فانتُخب نائبا في الجمعية الوطنية عام 2000، ثم أصبح رئيسا لها لفترة وجيزة بين 2005 و2006. في هذه الفترة تزوج من سيليا فلوريس، التي ستصبح بدورها شريكة مركزية في دائرة القرار.
هذا التقاطع والخيوط بين النقابة والحزب والأسرة ستصنع قلب شبكة مادورو السياسية. فهو رجل مدني متواضع القدرات الخطابية مقارنة بتشافيز، لكنه شديد الإيمان وعميق الجذور في البنية التنظيمية للنظام. يرتبط مباشرة بعائلة الزعيم، ويستطيع وصل الجيش بالطبقة العاملة، والحزب بالدولة، بل وحتى فنزويلا بكوبا والعالم من ورائها.
وزير خارجية بنكهة الثورة
في أغسطس 2006، اختار تشافيز مادورو وزيرا للخارجية. في تلك المرحلة، كانت الثورة البوليفارية في ذروتها، إذ كانت أسعار النفط فوق المئة دولار للبرميل، وكانت هناك برامج اجتماعية واسعة يستفيد منها الناس، وتحدٍّ فظّ وعلني لواشنطن على لسان زعيم الثورة.
بصفته وزير خارجية، صار مادورو مهندس محور مضاد للهيمنة الأميركية. فعمّق التحالف مع كوبا، وشارك في تأسيس تحالف ألبا (ALBA) لشعوب المنطقة، وطوّر آلية "بتروكاريبي" (Petrocaribe) التي توفّر النفط بأسعار تفضيلية لدول الكاريبي وأميركا الوسطى. بهذه الآليات، بنى شبكة علاقات من الدول المدينة سياسيا لكاراكاس. وعمّق العلاقات مع إيران وروسيا والصين عبر اتفاقات في مجالات الطاقة والدفاع والبنى التحتية.
في المحافل الدولية، قدّم نفسه كصوت مناهض للحرب على العراق وأفغانستان، وضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وفي 2009، لعب دورا محوريا في قرار كاراكاس قطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب احتجاجا على حرب غزة التي بدأت في نهاية 2008. وبعد أشهر، استقبل وزير الخارجية الفلسطيني وأعلن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. هذه الخطوات لم تكن رمزية فقط، كانت مرتبطة بالتحول الأساسي في لغة الثورة.
إن فترة مادورو كوزير للخارجية (2006-2012) هي المفتاح لفهم علاقته مع الولايات المتحدة لاحقا. ففي هذا الدور لم يكتف مادورو بإدارة الدبلوماسية التقليدية، بل كان منفذا وفيا لسياسة تشافيز الإستراتيجية القائمة على العداء المعلن للولايات المتحدة ومقاومة هيمنتها في أميركا اللاتينية.
وخلال هذه السنوات الست، صقل مادورو عقيدة الصراع مع الإمبريالية مما جعله الأجدر بحمل راية السيادة بعد تشافيز. وقد كان يُنظر إليه داخل الحزب على أنه الأقرب إلى الكوبيين والأخوين كاسترو مقارنة بغيره من القادة، وهو ما يشير إلى اعتماده على المحور الكوبي كضمانة لاستمرارية النظام في مواجهة الضغط الأميركي المتوقع. حينها أضحت كلمة "الإمبريالية" مفهومة كنظرية وتطبيق، ففضلا عن استغلال الإمبراطورية لمقدرات الدول الأضعف، هي أيضًا شبكة من القواعد العسكرية الأميركية، وصندوق النقد الدولي، وسيطرة على الأسواق المالية والنفطية، وأنظمة عقوبات.
إعلان
في تلك الفترة اكتمل تشكّل "عقيدة مادورو"، والتي فيها أن الإمبراطورية الأميركية ليست مجرد خصم، بل أصل كلّ تشوّه في النظام العالمي، ومهمة الثورة البوليفارية هي الدفاع عن سيادة الفقراء في وجهها، ولو كلف ذلك عزلة دولية. بالنسبة لمادورو فالولايات المتحدة ليست مجرد دولة، إنها نظام عالمي، ومواجهتها ليست خيارا إنما قدر بلد يريد الاحتفاظ بثروته النفطية وهيبته.
الوريث المدني للثورة العسكرية
في ديسمبر/كانون الأول 2012، ظهر تشافيز على شاشة التلفزيون، بوجهٍ منهك من العلاج ضد السرطان، ليُلقي خطاب الوداع الذي أعلن فيه أنه سيسافر للعلاج في كوبا. في هذا الخطاب، وفي رجاء لا يخفى، طلب تشافيز من أنصاره، إن حدث له مكروه، أن ينتخبوا نيكولاس مادورو رئيسا. بهذه الجملة القصيرة، حسم صراع الخلافة داخل معسكره لصالح الجناح المدني على حساب ضباط أقوياء مثل ديوسدادو كابيلو.
توفي تشافيز في مارس/آذار 2013. وفورًا تولى مادورو الرئاسة بالإنابة ثم فاز في انتخابات مبكرة في أبريل/نيسان 2013 بفارق أدق من حد الشفرة. كان الفارق بينه وبين منافسه قريبًا إلى حد أن اعترضت المعارضة على نتائج الانتخابات، وطالبت بإعادتها، غير أن القضاء حكم لصالح مادورو ليتولى السلطة خلفًا لمعلمه وقائد الثورة.
منذ اليوم الأول، أدرك مادورو أنّه لا يملك كاريزما تشافيز ولا حضوره الأسطوري. فخطاباته أقل حماسة، وصورته التلفزيونية أقل جاذبية. لكنه ورث آلة حزبية هائلة، ومؤسسة عسكرية يحكم قبضته عليها بشبكات الولاء، ونظاما سياسيا صيغت قوانينه على مقاس الثورة وقادتها. والأهم، أنه ورث مشروعا يصفه بأنه ثورة الفقراء التي لا يجوز التراجع عنها مهما كان الثمن. لكن الثمن كان غاليًا!
في السنوات التي تلت رحيل تشافيز، بدأ الكابوس الاقتصادي يأخذ شكله الكامل. انهيار أسعار النفط مع الاعتماد المفرط على عائدات شركة النفط الوطنية، كان قاتلا للاقتصاد الفنزويلي. لكن قرارات الحكومة الاقتصادية والضوابط التي فرضتها على سعر صرف العملة وانتشار الفساد وتراجع الإنتاج المحلي أدى إلى انهيار كامل وغير مسبوق. بين 2014 و2021 انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3 أرباع حجمه، في واحدة من أعمق الانهيارات الاقتصادية خارج سياقات الحرب أو تفكّك الدولة في التاريخ الحديث.
ترافق ذلك مع تضخم مفرط بلغ مستويات فلكية عامي 2018 و2019، قبل أن تنجح الحكومة في كبحه جزئيا عبر تعويم غير معلن، وفتح المجال للدولار الأميركي في المعاملات اليومية. لكن بالنسبة لملايين الفنزويليين كان ذلك يعني واقعًا شديد السوء، بلا أجور ذات قيمة، وبلا أدوية تستوردها البلاد، ومع طوابير طويلة أمام محطات الوقود في البلد الذي يمتلك أكبر احتياطات نفطية في العالم.
بحسب تقرير من مركز البحوث الاقتصادية والسياسية بواشنطن، أسفرت العقوبات عن وفيات مُقدّرة بـ40 ألف شخص بين 2017 و2018 وحدها.
الانهيار السريع والخروج الكبير
لم يرث مادورو كرسي الرئاسة فحسب، بل ورث كذلك مسؤولية مواصلة المشروع الاقتصادي والسياسي لتشافيز، وهو مشروع يرتكز على الصراع المطلق ضد النفوذ الأميركي. لقد أصبح الصراع مع واشنطن، الذي بدأه تشافيز، الركن الأيديولوجي الأخير الذي يستند إليه النظام في ظل الانهيار الاقتصادي. وتفاقم هذا الصراع ليتحول إلى حرب اقتصادية شاملة، إذ فرضت الولايات المتحدة، التي وصفت مادورو بأنه “دكتاتور استبدادي” متورط في الفساد وتهريب المخدرات، عقوبات قاسية تستهدف شل القطاعين النفطي والمالي منذ عام 2017.
يرفض مادورو بشكل قاطع الرواية الأميركية. ففي خطاباته يؤكد أن فنزويلا “دولة ذات مؤسسات ودستور وانتخابات”، وأنه وصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع لا عبر الانقلابات، ويتهم واشنطن باستغلال شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لتبرير حصار اقتصادي وعقوبات جماعية ضد الشعب الفنزويلي لا ضد حكومته.
أما الاتهامات المتعلقة بتهريب المخدرات والفساد وشبكات "كارتل الشموس"، فيصفها بأنها "ملف ملفّق سياسي" صاغته وزارة العدل والخارجية الأميركية لخدمة أجندة تغيير النظام، ويذكّر بأن بلاده لا تملك سجلا إنتاجيا كبيرا للكوكايين مقارنة بدول الجوار، وأن تصنيف مسؤولين فنزويليين كـ”ناركو-إرهابيين” ليس سوى محاولة لشرعنة التهديد العسكري والضغط على الجيش والنخبة الحاكمة للانقلاب على السلطة الشرعية.
إعلان
ورغم أن التحقيقات المستقلة الصادرة عن وكالات الاستخبارات الأميركية نفسها دحضت رواية ترامب إلى حد كبير باعتبارها مبالغًا فيها أو لا أساس لها من الصحة، فإن هذه الرواية وفرت لإدارته مبررًا للانتشار العسكري قرب فنزويلا.
الأهم من ذلك أن الخبراء المختصين أشاروا إلى أن معظم الكوكايين المهرَّب إلى الولايات المتحدة يأتي عبر المحيط الهادي وليس عبر الكاريبي. يشير تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لعام 2023، استنادا إلى بيانات وكالة مكافحة المخدرات الأميركية، إلى أن المسار الأكبر لتهريب الكوكايين إلى الشمال يمر عبر المحيط الهادي بنسبة تقارب 74% وأن المهربين يستخدمون الطائرات لإرسال بعض الشحنات عبر الكاريبي. في السياق ذاته، أشار تقرير لبي بي سي إلى أن فنزويلا لا تُنتج كمياتٍ كبيرة من الكوكايين، إذ تُعدّ كولومبيا وبيرو وبوليفيا المصادر الرئيسية لإنتاجه في المنطقة.
ووفقًا لتقرير إدارة مكافحة المخدرات الأميركية لعام 2025، فإن 84% من الكوكايين المصادَر في الولايات المتحدة يأتي من كولومبيا، مع الإشارة إلى دولٍ أخرى مشاركة في النقل والعبور، من دون أن تُذكر فنزويلا تحديدا ضمن القسم المخصّص للكوكايين في هذا التقرير.
لكن الحقيقة لا تبدو مهمة كثيرًا للإدارة الأميركية. فقد ابتدأت العقوبات بشكل تدريجي من 2015، لكنها تسارعت بعد 2017 عندما استهدفت واشنطن سندات الدَّين الفنزويلية. في 2019، فرضت عقوبات مباشرة على شركة النفط الوطنية تمنع بيع النفط في السوق الأميركية، قبل أن تُجمد حسابات مصرفية بمليارات الدولارات.
في هذه السنوات، بدأ يظهر أيضا الوجه الأقسى في نظام مادورو. فقد قُمعت احتجاجات 2014 و2017 بشدة ووقع عشرات القتلى، واتهمته المنظمات الحقوقية الدولية بممارسة التعذيب والاعتقال التعسفي على نطاق واسع، وحينما كانت الولايات المتحدة تدعم المحكمة الجنائية الدولية قبل التفاتها لجرائم إسرائيل في فلسطين، فتحت المحكمة تحقيقًا في جرائم نظام مادورو ضد الإنسانية.
خلال هذه الفترة، تحوّلت الهجرة الجماعية إلى سمة اللحظة الفنزويلية. تقدّر الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية عدد من غادروا البلاد بنحو 7.9 ملايين فنزويلي، يتوزعون بين دول الجوار مثل كولومبيا وبيرو والإكوادور والبرازيل، وبين الولايات المتحدة وأوروبا.
" frameborder="0">
يرى الأميركيون والمعارضة والخصوم الإقليميون في هذه الأرقام استفتاءً صامتا على فشل النظام، إذ كيف يمكن لثورة ادّعت أنها جاءت باسم الفقراء أن تدفع ثلث شعبها تقريبا إلى الهجرة في ظروف خطيرة غالبا؟ أما الأنصار فيردّون بأن الحصار الخارجي والعقوبات الأميركية هي التي كسرت الاقتصاد، وأنّ جزءا كبيرا من النزيف مرتبط ببحث الناس عن فرص في سوق عالمي غير عادل، لا بعدم شرعية النظام نفسه.
ففي 2021، زارت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالآثار السلبية للتدابير القسرية الأحادية، ألينا دوهان، فنزويلا، وقدّمت تقريرا يؤكد أن العقوبات الأميركية والأوروبية فاقمت بشكلٍ كبير الأزمة الإنسانية، وعرقلت استيراد الغذاء والدواء وقطع الغيار، وأدّت إلى تراجع حاد في إيرادات الدولة، بشكلٍ يؤثر على الفقراء والنساء أكثر من غيرهم.
في المقابل، تؤكد تقارير أخرى من المؤسسات التابعة للنظام الدولي مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومراكز بحثية إقليمية أن جذور الانهيار تعود أيضا إلى سوء الإدارة والفساد وإضعاف المؤسسات والاستقلالية النقدية، وأن العقوبات جاءت لتزيد النار اشتعالا، لا لتشعلها من الصفر.
مادورو نفسه يميل إلى الرواية الأولى لأسباب مفهومة. ففي خطاباته، فنزويلا محاصَرة على طريقة كوبا، تتعرّض لـ“حصار اقتصادي ومالي” يهدف إلى إسقاط النظام عقابا له على خروجه عن الطاعة. يستخدم مصطلح “التدابير القسرية الأحادية” بكثافة، ويكرّر أن العقوبات ليست على الحكومة بل على الشعب.
ويجد هذا الخطاب صدى في قطاعات واسعة من سكان بلدان الجنوب، خاصة حين تقارَن أرقام العقوبات وما تسببه من حرمانٍ جماعي بأرقام أرباح البنوك والشركات التي تستفيد من الفوضى التي تخلقها هذه العقوبات.
لكن واقع الحياة اليومية في كاراكاس، كما تصفه تقارير الصحافة الدولية، حتى تلك التي لا تعادي مادورو، يكشف أيضا عن تعايش غريب بين اقتصادٍ منهك ومظاهر ثراء فاحش للنخب الجديدة، ويظهر أحياء شعبية تعيش على الحصص الغذائية المدعومة، على مرمى حجر من مراكز تجارية فخمة تقبل الدفع بالدولار فقط. في هذا السياق، تبدو العقوبات كعامل محفز أو عنصرٍ إضافي في معادلة غير متكافئة أساسا، لا ذريعة كافية لتبرير كل شيء.
نظام محصّن ضد الانقلاب
في صباحٍ حار من يناير/كانون الثاني 2019، خرج اسم "خوان غوايدو" إلى نشرات الأخبار فجأة وبلا سابق إنذار. شاب في منتصف الثلاثينيات، نائب في البرلمان لا يعرفه معظم الفنزويليين خارج دائرته، يقف على منصة مرتجلة في ساحة كاراكاس، يرفع يده اليمنى ويعلن نفسه "رئيسا انتقاليا" للجمهورية. في تلك اللحظة، كان الشارع أمامه ممتلئا بمعارضي مادورو، علم الفاتيكان يرفرف إلى جانب العلم الفنزويلي، والسفير الأميركي يغرد اعترافا بالرئيس الجديد قبل أن يحفظ كثيرون اسمه جيدا.
قصة غوايدو بدأت قبل ذلك بسنوات، داخل حزب "إرادة شعبية" المعارض، كأحد وجوه الجيل الشاب الذي تربّى على سردية الانتقال الديمقراطي وعلى قناعة بأن الضغط الخارجي والعقوبات يمكن أن يدفعا النظام إلى التفاوض أو حتى الانهيار.
لكن لحظته الذهبية جاءت حين وجد نفسه، بحكم الترتيب الدوري لرئاسة البرلمان، في موقع يتيح له استخدام مادة في الدستور تتحدث عن شغور منصب الرئاسة. وفورًا تحوّل الشاب المغمور إلى رمز للمعارضة في عيون الإعلام الغربي، بدعم مباشر من واشنطن وعواصم أوروبية وأميركية لاتينية، وإلى حصان تراهن عليه إدارة ترامب لإسقاط مادورو من دون رصاصة واحدة.
على الأرض، بدت المعادلة أكثر تعقيدا. استطاع غوايدو حشد مئات الآلاف في الشوارع، وأثار أمل شريحة واسعة من الفنزويليين سئمت الانهيار الاقتصادي والقمع السياسي. لكن الجيش، الذي شكّل العمود الفقري لحكم تشافيز ثم مادورو، لم يلتحق بالرواية الجديدة. محاولات كسر الولاء داخل المؤسسة العسكرية، والانشقاقات المحدودة التي رافقت دعواته للعصيان، لم تكن كافية لقلب موازين القوة.
ومع مرور الأشهر، بدأ زخم الشارع يتراجع، وتسلّل التعب والانقسام إلى صفوف المعارضة نفسها، وسط اتهامات لسفير الحكومة الانتقالية في كولومبيا بالفساد وإدارة أموال مجمّدة، وانتقادات لرهان غوايدو المفرط على الخارج.
هكذا، تحوّلت قصة غوايدو من رواية صعود سريع لرئيس بديل إلى مثال على محدودية سياسة تغيير الأنظمة من الخارج وضعف السياسة الأميركية أمام نظام له أركان دعم محلية. ظلّت صورة غوايدو معلّقة في الكثير من العواصم الغربية كرمز لـ”فنزويلا الديمقراطية”، لكن في كاراكاس ومدن الداخل صار حضوره يتضاءل، قبل أن يغادر البلاد بهدوء إلى المنفى. بالنسبة لأنصار مادورو، غدت تجربته دليلا على فشل المشروع الأميركي وعجز المعارضة التابعة عن قراءة الشارع أو فهم ما يريده الناس.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف صمد نظام مادورو رغم الانهيار الاقتصادي والضغوط الدولية ومحاولة الانقلاب الناعمة التي قادها زعيم المعارضة؟
بالفعل، حين اعتلى خوان غوايدو المنصة وأعلن نفسه رئيسا انتقاليا، بدا المشهد للوهلة الأولى وكأن نظام مادورو على وشك الانهيار. كان الحديث المتصاعد عن أيام معدودة تفصل مادورو عن الرحيل. لكن خلف الأحاديث، كان نظام الحكم في كاراكاس قد أمضى سنوات في بناء ما يشبه شبكة أمان ضد هذا النوع من الانقلابات الناعمة.
الركن الأهم في تحصين النظام كان الجيش. فمنذ عهد تشافيز، أعيد تشكيل المؤسسة العسكرية عبر ترقية الضباط الموالين، وربط قطاعات واسعة من القيادات بمصالح اقتصادية مباشرة: حقائب وزارية، إدارة موانئ وشركات عامة، وإشراف على قطاعات مربحة كالتعدين وتوزيع الوقود.
في ظل هذه الضغوط وجد مادورو نفسه قريبا أكثر من المؤسسة العسكرية، القوة الصلبة، التي يراهن عليها في أي نزاع داخلي أو تهديد خارجي. وهو يفهم أن الأيديولوجيا وحدها لن تفلح في صف عشرات الأجنحة والقيادات تحت لوائه، حيث تم توجيه الخدمات والامتيازات لصالح النخب العسكرية لتشديد وتعميق معاني الارتباط بالنظام، وهو أمر معتاد في الدول ذات المنزع الشمولي، حيث يعتبر ولاء العسكريين ركيزة في استتباب النظام.
وقد نجح مادورو أن يجعل من التحصن حول النظام هو وسيلتهم لاستمرار نفوذهم ومزاياهم مع سياق خطابي لاهب للأعصاب والمشاعر مواجه لحلف الشر الذي يريد إماتة واحة الاشتراكية الأهم في الكاريبي.
لذلك ففي 2019، لم يكن على الجنرال العسكري الذي تخاطبه واشنطن، والذي يشاهد غوايدو على شاشة التلفزيون أن يحسم خيارا أيديولوجيا فقط، بل أن يقرر ما إذا كان مستعدا للتخلي عن امتيازاته وشبكات النفوذ التي بناها داخل الدولة. الأغلبية اختارت البقاء حيث هي، خصوصا أن الرسائل القادمة من موسكو وهافانا طمأنت نواة النظام بأن محاولة التغيير السريع من الخارج لن تمر بسهولة.
ومنذ سنواته الأولى في الرئاسة، عمل مادورو على توسيع دور الجيش في الاقتصاد. فقد منح كبار الضباط السيطرة على قطاعات مربحة: من التصدير والاستيراد إلى المناجم والذهب والتعدين غير القانوني. سمح بتكوين ما يسمّيه خصومه "كارتل الشموس" (Cartel de los Soles)، وهي حسب زعم الأميركيين شبكة من قادة عسكريين تتهمهم واشنطن بالمشاركة في تهريب المخدرات وغسل الأموال.
وبالإضافة إلى العقوبات، ضخت وزارة الخارجية الأميركية مبالغ كبيرة في شكل مكافآت للقبض على مادورو. فبعد أن عرضت مكافأة تصل إلى 15 مليون دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله أو إدانته عام 2020، ضاعفت الوزارة العرض في 10 يناير/كانون الثاني 2025 ليصل إلى 25 مليون دولار. وفي 7 أغسطس/آب 2025 رُفعت المكافأة مرة أخرى لتصل إلى 50 مليون دولار، بعد أن صنفت وزارة الخزانة الأميركية “كارتل الشموس” منظمة إرهابية عالمية، وهي المنظمة التي يتهم نظام ترامب مادورو بقيادتها.
وصحيح أن العقوبات أضعفت الدولة وأرهقت المجتمع، لكنها منحت مادورو أيضا رواية جاهزة للحشد والتعبئة، إذ يمكنه أن يقدّم الأزمة الاقتصادية باعتبارها نتيجة حصار خارجي.
ولهذه السياسة ثمن واضح وأكيد، فهي تشجع على المزيد من التجاوزات، وهو ما قد يضعف الدولة من خلال تفكيك مقدراتها (مثل شركة النفط الوطنية) لصالح دولة عميقة تتكون من كبار الجنرالات ورجال الأعمال. لكن هذه العقوبات والسياسة توفر أيضًا للنظام طبقة من الحماية، وأتباعًا مخلصين يدركون أن سقوط مادورو قد يعرضهم لملاحقات دولية، وهذا ما جعل العداء لأميركا، حتى بما تحمله من تهديدات بالعقوبات والملاحقات، جزءًا من الغراء الذي يحافظ على تماسك النخبة الحاكمة في فنزويلا.
وتجدر الإشارة إلى أن مادورو ليس الرئيس الوحيد في أميركا اللاتينية الذي تتهمه إدارة ترامب بالتعاون مع تجارة المخدرات، فقد وجهت الاتهام نفسه للرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، وعلى إثر ذلك أُدرج اسمه في “قائمة كلينتون” بعد شهور من التوتر بين الرئيسين الكولومبي والأميركي.
وإلى جانب الجيش، بنى مادورو شبكة موازية من الحرس المدني، هي مليشيات "الدفاع الشعبي" واللجان المجتمعية، التي يعاد تشكيلها مع كل موجة تهديد خارجي. في خطاب في أغسطس/آب 2025، أعلن أنه مستعد لـ"تعبئة 4.5 ملايين من المليشيا للدفاع عن الوطن ضد أي عدوان".
هذه المليشيات ليست أيديولوجية فحسب، لكنها تستفيد من برامج الدعم الاجتماعي التي تقدمها الحكومة منذ عهد تشافيز. فقد قدمت الحكومة الفنزويلية ملايين المنازل للمواطنين الذين عاشوا في أكواخ الصفيح طيلة حياتهم. هذا إنجاز حقيقي لن تعرضه الصحافة الأميركية، لكن في سياق أميركا اللاتينية التي يعيش فيها عشرات الملايين في أحياء عشوائية بلا مياه جارية أو أسقف حقيقية، سيكون هذا كفيلا ببناء شبكات من المؤيدين الذين لا يهتمون كثيرًا بالسياسة.
في نظر خصوم مادورو، هذا كله لا يعني سوى ترسيخ دكتاتورية مدعومة بعصابات مسلّحة وامتيازات اقتصادية، لكن في نظر أنصاره، هو تحويل للثورة من حالة زعيمٍ كاريزمي إلى بنيةٍ متداخلة من الحزب والجيش واللجان الشعبية، بهدف أن يبقى المشروع بوليفاريا حتى لو سقط رأسه. ويبدو أن رهان أنصاره ناجع حتى الآن.
انتخابات 2024 ونقطة التحول العالمية
في 28 يوليو/تموز 2024، توجّه الفنزويليون إلى صناديق الاقتراع. كانت انتخابات رئاسية افترض الكثيرون أنها ستكون مفصلية، إما انتصار حاسم للثورة ونظام مادورو وإما نهاية لهما.
كانت المعارضة منقسمة لسنوات. لكنها نجحت هذه المرة على الورق في توحيد قطاع واسع من قواعدها خلف مرشح واحد: إدموندو غونزاليس، دبلوماسي متقاعد، بعد أن استبعدت من السباق المعارضة الشرسة ماريا كورينا ماتشادو، التي حصلت لاحقًا على جائزة نوبل للسلام وأهدتها لدونالد ترامب.
لكن بعد إغلاق الصناديق، أعلنت السلطة الانتخابية فوز مادورو بولاية ثالثة. في المقابل أعلنت المعارضة نتائج موازية متهمة الحكومة بتزوير واسع.
على الصعيد الدبلوماسي، لم تعترف الولايات المتحدة وعدد من دول أوروبا وأميركا اللاتينية بنتائج الانتخابات، ورأت فيها امتدادا لولاية غير شرعية بدأت مع انتخابات 2018.
في المقابل، سارع حلفاء كاراكاس التقليديون ـ كوبا ونيكاراغوا وإيران وروسيا والصين ـ إلى تهنئة مادورو، مؤكدين أنه انتصار لمشروعٍ يواجه حربا بقيادة واشنطن. وإزاء الاختلافات الدائرة حول نتائج الانتخابات المعلنة، اجتمع رؤساء البرازيل والمكسيك وكولومبيا ووزراء خارجيتهم ليتداولوا مواقف بلادهم، وأتبعوا الاجتماع بنشر بيان مشترك من البلدان الثلاثة، طالبوا فيها لجنة الانتخابات بنشر نتائج موائد الاقتراع، كما طالبوا كل الفاعلين السياسيين والمجتمعيين بضبط النفس أثناء تظاهرات تلك الفترة حفاظا على الأمن العام وتجنبًا للانزلاق نحو موجات من العنف. لكن الضربة جاءت من الجارة البرازيل حين أعلن الرئيس لولا دا سيلفا في قمة بريكس بقازان أنه يعترض على عضوية فنزويلا في البريكس، ربطا بنزاهة الانتخابات.
على مستوى الشرعية، يقف مادورو اليوم على أرض مهزوزة داخليا وخارجيا. فبدلا من الاستجابة لهذه التحديات، اختار مادورو طريق القطيعة الدبلوماسية، فعمد إلى قطع العلاقات مع 10 دول في محيطه الحيوي ليجد نفسه أكثر فأكثر على رأس نظام محاصر في قارته قبل أن يكون محاصَرا من الولايات المتحدة وأوروبا.
بالحديث عن الجيران، يجب القول إنه في خطابات 2024 و2025، يكثر مادورو من استخدام كلمة الفاشية للإشارة إلى خصومه في الداخل والخارج. وعندما وصل خافيير ميلي إلى الحكم في الأرجنتين، وصفه مادورو بـ"الفاشي الجديد الذي يريد تحويل بلده إلى محمية للأسواق"، ولم يتردد في ادعاء أن المعارضة الفنزويلية مرتبطة عضويا بـ"محورٍ فاشي" يمتد من واشنطن إلى بوينس آيرس مرورا بمدريد.
في المقابل، ترى قطاعات واسعة من اليمين والوسط في أميركا اللاتينية والغرب أن مادورو نفسه يمثّل شكلا من "الاستبداد الشعبوي" الذي يستخدم لغة اليسار لإخفاء حكم الأقلية، وأن الحديث عن الفاشية ليس سوى محاولة لإعادة إنتاج سردية الحرب الباردة في عالم تغيرت خرائطه.
لكن ما يهمّ مادورو في هذه المواجهة ليس فقط توصيفه لخصومه، بل موقعه في خريطة عالمٍ يعيد الاصطفاف. فهذا هو وقت صعود اليمين المتطرّف في أوروبا (فرنسا، إيطاليا، ألمانيا)، وعودة ترامب إلى البيت الأبيض، وبروز حكومات يمينية في أميركا اللاتينية تتماهى مع السياسات الإسرائيلية في فلسطين ومع العقوبات على كوبا وفنزويلا.
في هذا السياق، يقدم مادورو نفسه ـومعه كوبا وبوليفيا وبعض التيارات في البرازيل وكولومبياـ كجزءٍ من جبهةٍ مضادة، هي حركة عالمية مناهضة للفاشية، تنظم مهرجانات ومؤتمرات وتطلق بيانات مشتركة عن النضال ضد العنصرية والصهيونية والإمبريالية.
هذه اللغة تجد صداها في جزءٍ من اليسار العربي أيضا، الذي يرى في مادورو استمرارا لخطابات جمال عبد الناصر وحركات التحرر في الستينيات، ولكن بملامح القرن الـ21. بالنسبة لهؤلاء، ليس مهما فقط إن كان مادورو ديمقراطيا بالمعايير الليبرالية، بل أن يكون في معسكرٍ يعادي الإمبراطورية ويتضامن مع فلسطين ويقف في وجه اليمين المتطرف.
يراهن مادورو على عالم متعدد الأقطاب، لكن الأقطاب مشغولون عن فنزويلا. قدّمت روسيا الدعم الدبلوماسي عبر مجلس الأمن. وأرسلت الوقود والقمح والمعدات العسكرية، وتحدث المسؤولون الروس عن مادورو "الذي صمد ضد حرب اقتصادية لا إنسانية". لكن العلاقة معقدة. روسيا مشغولة بأوكرانيا، ولا يبدو اهتمامها بفنزويلا استثمارًا مناسبًا للحظة الحالية.
أما الصين، فهي أعمق التزاما. فقد موّلت بكين مشاريع بنى تحتية، وتكنولوجيا اتصالات، ومشاريع نفطية. وهي كذلك تشتري 77% من صادرات النفط الفنزويلي. ودوليا، تبدو إيران حليفة، أو شقيقة في المعاناة. كلاهما تحت عقوبات أميركية وكلاهما يرى في التحالف البديل سبيلا للبقاء.
المهم أن مادورو لا يرى في هذه التحالفات إنقاذا لنظامه بل أكسجينا وهواء لدولته كي تتنفس. فإذا كان بإمكانه بيع النفط للهند والصين بدل الولايات المتحدة، وإذا كان بإمكانه الحصول على تمويل من دول أخرى بدل صندوق النقد الدولي، إذا كان بإمكانه تطوير تكنولوجيا بالشراكة مع الشرق بدل الاعتماد على الغرب، فإن قدرة الولايات المتحدة على خنقه تتقلص إلى أن تختفي أو تكاد. هذا هو رهانه.
" frameborder="0">
رهان واشنطن الأخير
أمام نظام محصن بشبكات مصالح وأجهزة أمنية فعالة، مدعومة بالخبرة الكوبية والروسية لردع محاولات الانقلاب والاختراق من الداخل، اتبعت واشنطن مقاربة جديدة تتجنب مخاطر الغزو الشامل. هذه الإستراتيجية، كما حللها عدد من الخبراء، تتبنى نموذج الخيار الوسط المركّز على التدمير المنهجي لـ”عقد القوة والتمويل” التابعة للنظام. وقد أشار ترامب إلى هذا التحول حين قال إن الولايات المتحدة تنظر إلى البر الآن بعد تأمين السيطرة على البحر.
تتضمن عناصر رهان واشنطن أو إستراتيجية الانهيار التي تتبعها 3 أبعاد رئيسية. يتمثل البعد الأول في الضغط العسكري المنضبط من خلال استخدام صواريخ موجهة بدقة تُطلق من مسافات آمنة لاستهداف المواقع الاستخباراتية والعسكرية والمنشآت المرتبطة بشبكات تهريب المخدرات والتعدين غير القانوني التي تشكّل العمود المالي للنظام، والهدف هنا ليس التدمير الكامل، بل خلق شعور بالخطر الداهم داخل الدائرة الضيقة.
البعد الثاني هو العمليات السيبرانية والاستخباراتية، إذ يُعتبر الإذن الممنوح لوكالة المخابرات المركزية بتنفيذ عمليات أكثر قوة سلاحا حاسما، فالعمليات السيبرانية يمكن أن تشل حركة كبار الضباط عبر تعطيل مدفوعاتهم الشهرية، أو استخدام الحرب المعلوماتية لإقناع المؤسسة العسكرية بحتمية التخلي عن مادورو، والتذكير بأن التدخل الأميركي في دول مثل بنما وهايتي أدى إلى حل جيوش تلك الدول بالكامل.
أما البعد الثالث فهو الرهان على الانشقاق العسكري، حيث تفترض الإستراتيجية أن التهديد الخارجي سيجبر الجنرالات، الذين يخشون خسارة نفوذهم وثرواتهم، على التضحية بمادورو حفاظا على بقاء المؤسسة وتجنب تفكيكها.
في كاراكاس، أثار هذا التصعيد حالة ارتباك ملحوظة داخل قيادة النظام. فقد أشارت تقارير صحفية، من بينها تقرير لصحيفة “إلباييس” الإسبانية، إلى صمت مطبق خيّم على قمة القيادة التشافيزية، حيث امتنع كبار المسؤولين، ومن بينهم ديوسدادو كابيلو، عن إصدار تصريحات قوية، بما يوحي باستنفاد أدوات الرد المعتادة واللجوء إلى حالة من الترقب الحذر.
وأكدت تقارير أخرى أن النظام انتقل إلى تكتيك التخندق، في إشارة إلى حالة الاستعداد القصوى والدفاعية التي اعتمدها بدلا من التهديد بالهجوم. هذا الصمت، في نظر كثير من المحللين، يكشف عن قلق حقيقي داخل الجيش، الذي يدرك أن بقاءه مرهون بقدرته على عبور هذه المرحلة دون تفكيك.
في ظل هذا التكتيك الدفاعي، أصبح الخطاب العام الأداة الرئيسية لمادورو لحشد الجماهير وتوحيد الصفوف. ففي خطابه في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، قدّم مادورو نفسه وصراعه الراهن مع الرئيس الأميركي بوصفه صراع داود ضد جالوت، مؤكدا أن داود انتصر دائما في التاريخ، وأنه اليوم مدعوم بشعب الله، أي الشعب الفنزويلي. ثم شرح تكتيك "السلام في الشوارع"، داعيا إلى تأسيس "اللجان البوليفارية القاعدية المتكاملة" الموكلة إليها مهمة الدفاع الشامل عن المجتمع تحت شعار "السلام، السلام، السلام"، وكرر الشعار بالإنجليزية. الهدف من هذا التكتيك نقل الصراع من دائرة العسكريين إلى دائرة المواطنين، بما يصعّب مهمة أي تدخل خارجي أو انقلاب داخلي.
في المحصلة، تبدو الاستراتيجية التي تتبناها الولايات المتحدة ورهان ترامب على سقوط النظام مقامرة عالية الأخطار، لكنها تبقى حلا وسطا بين الغزو الشامل (الذي لن تستطيعه الولايات المتحدة في ظل التهديدات العالمية المتصاعدة)، والعزلة الكاملة والتي لا يمكن أن تستمر للأبد في ظل ادعاءات الأميركيين المستمرة عن ارتباط الإرهاب بالمخدرات بالقيادة السياسية والعسكرية في فنزويلا وتأثيرهما على الداخل الأميركي.
أما مادورو، فيبقى متمسكا بالبقاء، ملخصا المشهد في قسَمه الأخير في خطاب نوفمبر/تشرين الثاني الماضي: "لن نكون أبدا مستعمرات وعبيدا، بل أحرار ومستقلون وذوو سيادة إلى الأبد، الأبد، الأبد".
هل ينهار مادورو أم ينهار العالم من حوله؟
نعود إلى اللحظة التي بدأنا منها، نوفمبر/تشرين الثاني 2025 أعلنت إدارة ترامب عن عملية الرمح الجنوبي وشنت ضربات على قوارب تدّعي أنها تحمل مخدرات. تعلن واشنطن أنها في نزاع مسلح غير دولي مع عصابات مخدرات إرهابية، وتتجهز لضرب الداخل الفنزويلي، الذي يعد في المقابل بتحويل البلاد إلى فيتنام جديدة إن تدخلت الولايات المتحدة.
الوضع معقد بالتأكيد، فمن جهة، الاقتصاد في أزمة جديدة مع عودة التضخم للارتفاع وعودة العملة للتهاوي واستمرار المواطنين في الهجرة. من جهة أخرى، يبدو النظام متماسكا أكثر من أي وقت مضى، بفضل تحصيناته الداخلية والدعم الجيوسياسي من روسيا والصين وإيران، وبفضل استثمار ذكي في خطاب الدفاع عن السيادة في مواجهة تهديد عسكري خارجي حقيقي.
لكن ماذا عن مادورو من جديد، هل هو إرهابي وتاجر مخدرات منتخب؟ أم أنه مناضل ثوري أممي لن يهدأ حتى ينتصر أو يموت. الحقيقة أنه لا يناسب أيًا من هذه السرديات تماما. فالرجل سائق حافلة ثوري مثقف اكتسب قوة فجأة في لحظة تاريخية مربكة. وورث ثورة عندما كان اقتصاد البلاد على وشك الانكسار، ولم يكن لديه الخيال لإعادة هيكلة الاقتصاد قبل الانهيار. ولم يكن لديه المؤسسات الديمقراطية الكافية لإدارة الأزمة دون الاستقواء بالأجهزة الأمنية والعسكرية. لكنه امتلك الذكاء السياسي.
يعرف مادورو كيف ينسج التحالفات، خاصة تلك التي اضطرته سياسة واشنطن إليها، من هافانا إلى موسكو وبكين وطهران. ويعرف كيف يستخدم لغة المقاومة ضد الإمبراطورية لتثبيت شرعيته في الداخل والخارج. إنه يعرف كيف يحافظ على قاعدة من الأنصار عبر بناء المنازل وبرامج الدعم الاجتماعية حتى في قلب الفوضى.
في نفسه الوقت نفسه، هو رئيس يقف على رأس دولة تتهمها المنظمات المستقلة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ويقود نظاما اقتصاديا هجينا بين الاشتراكية والشعبوية والزبائنية والسوق السوداء. نظام أنتج أكبر موجة هجرة في تاريخ البلد وواحد من أكبر الانهيارات الاقتصادية في العالم. إنه يرأس نظامًا ينخر فيه الفساد، وتغيب عنه المحاسبة، وتقيد فيه الحريات.
ما يجعل مادورو مهما للقارئ العربي ليس فقط أنه "ضد أميركا" أو "مع فلسطين" (على أهمية هذا الموقف ومركزيته)، لكن لأنه يتحرك في المفترق الذي نعرفه جيدا في منطقتنا. مفترق بين مقاومة إمبراطورية متغوّلة وبين بناء نظام داخلي عادل وديمقراطي، أو بين خطاب التحرر وممارسة الحكم السلطوي، أو بين الدفاع عن السيادة واحتكار السياسة.
في هذه اللحظة، يبدو مادورو كشخصية تراجيدية، فهو رجل لا يملك ترف التراجع، يواجه إمبراطورية لا تملك ترف الخسارة.

0 تعليق