اللامركزية المجهَضة في تونس - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

شهدت تونس بعد ثورة 2011 أحد أكثر المسارات طموحا في العالم العربي نحو إرساء اللامركزية. فقد خصص دستور 2014 بابا كاملا للسلطة المحلية، ومنح الجماعات المحلية، أي البلديات والجهات والأقاليم، الشخصية القانونية والاستقلال الإداري والمالي، وأقر مبدأ "التدبير الحر".

كان هذا المشروع يمثل ركيزة في مسار الانتقال الديمقراطي، ورافعة لإصلاح الإدارة وتحقيق التنمية المتوازنة، عبر تقريب القرار من المواطن وإشراكه في إدارة الشأن العام.

لكن المسار الذي بدأ بحماس وانفتاح انتهى إلى التراجع والانغلاق، حين التقت الشعبوية السياسية والمقاومة البيروقراطية في هدف واحد: استعادة الدولة من المجتمع ومن السياسيين، وإعادتها إلى منطق المركز.

التشرذم السياسي واختلال بوصلة الأحزاب الوطنية تجاه الحكم المحلي كانا عاملين حاسمين في إضعاف التجربة. فالأحزاب انشغلت بصراعاتها المركزية، وتجاهلت دور البلديات في بناء قاعدة ديمقراطية جديدة

الإجهاض المتعمد للتجربة الوليدة

انطلقت التجربة فعليا مع انتخابات مايو/أيار 2018، التي أفرزت أول مجالس بلدية منتخبة ديمقراطيا، بعد سنوات من التسيير المؤقت المتعثر للنيابات الخصوصية المعينة، والتي سبقتها عقود من المجالس المفروضة والانتخابات الصورية التي كانت تدار تحت إشراف وزارة الداخلية قبل الثورة.

لكن منذ بدايتها، واجهت التجربة عراقيل هيكلية عميقة. فقد ولدت البلديات بميزانيات محدودة وكفاءات إدارية غير مؤهلة، ودون دعم فعلي من الوزارات المركزية. تأخرت الحكومة في إصدار الأوامر التطبيقية لمجلة الجماعات المحلية، ولم تفعّل مؤسسات الدعم والمرافقة كالمجلس الأعلى للجماعات المحلية.

وزاد القانون الانتخابي الطين بلة، إذ ساهم نظام الاقتراع المعتمد في تفتيت المشهد البلدي وتوليد مجالس غير مستقرة، ما جعل التسيير المحلي رهين التوافقات الهشة والتحالفات الظرفية بدل البرامج والرؤى الواضحة.

ثم جاءت نقطة التحول الكبرى بعد 25 يوليو/تموز 2021. فالسلطة الجديدة اعتبرت اللامركزية امتدادا للنظام السياسي الذي ترفضه، وربطتها بالفوضى والفساد وسوء التسيير. دستور 2022 قلص الإطار الدستوري للامركزية واستبدل مصطلح "السلطة المحلية" بعبارة "الجماعات المحلية والجهوية"، في إشارة إلى تراجع مكانة هذا المستوى من الحكم.

إعلان

وفي 8 مارس/آذار 2023 صدر المرسوم عدد 9 لسنة 2023، الذي قضى بحل جميع المجالس البلدية المنتخبة وتعويضها بنيابات خصوصية تحت إشراف الولاة، منهيا عمليا تجربة دامت خمس سنوات.

هذا القرار يعكس المقاربة "الإصلاحية" المعهودة لنظام قيس سعيد: كل مؤسسة تواجه إشكاليات تلغى كليا عوض إصلاح مكامن الخلل فيها. هكذا تحول الهدم إلى خيار سياسي دائم، يبرر العجز عن التعامل مع الوضعيات المعقدة ويفضل الطريق الأسهل على البناء المؤسسي التدريجي.

تجربة 2018-2023: صعود بطيء وسقوط سريع للديمقراطية المحلية

رغم صعوباتها، كانت تجربة البلديات بين 2018 و2023 مرحلة تأسيسية ضرورية كان يمكن تطويرها لو توفرت الإرادة السياسية والمساندة الإدارية.

غير أن السنوات الخمس التي أعقبت الانتخابات البلدية الأولى كشفت عن هشاشة الإطار السياسي الذي أحاط بهذه التجربة. فقد دخلت المجالس المنتخبة في أجواء من التنازع الحزبي والتموقعات الشخصية، فانعكست الخلافات الوطنية داخلها وأثرت على سير العمل اليومي.

في عدد من البلديات، تحولت الخلافات حول التعيينات أو الصفقات أو خيارات التسيير إلى نزاعات علنية بين رؤساء المجالس والأعضاء، مما أدى إلى تعطيل مشاريع وخسارة الوقت والموارد، وأضعف ثقة المواطنين في الفكرة ذاتها.

التشرذم السياسي واختلال بوصلة الأحزاب الوطنية تجاه الحكم المحلي كانا عاملين حاسمين في إضعاف التجربة. فالأحزاب انشغلت بصراعاتها المركزية، وتجاهلت دور البلديات في بناء قاعدة ديمقراطية جديدة، وترك العديد منها المنتخبين المحليين دون تأطير أو دعم سياسي أو قانوني.

بهذا الغياب، فقدت البلديات الغطاء السياسي الذي كان يمكن أن يحميها من ضغوط المركز، فوجدت السلطة التنفيذية في ضعفها الميداني ذريعة جاهزة للتدخل واستعادة السيطرة. كانت تلك معضلة حقيقية جعلت اللامركزية تتقدم إداريا وتتراجع سياسيا في الوقت نفسه.

كما كشفت التجربة ضعف التأهيل والتكوين لدى جزء من المنتخبين، خصوصا في الجوانب التقنية والمالية والقانونية، مما أدى إلى ارتباك في تطبيق مجلة الجماعات المحلية وتباطؤ في اتخاذ القرارات.

ورغم أن هذه النقائص لا تنتقص من أهمية التجربة ولا من بعدها الإصلاحي، فإنها وفرت للسلطة المركزية وللخطاب الشعبوي أرضية مناسبة لتبرير إلغاء المنظومة بأكملها بدل إصلاحها.

واليوم، يقبع نحو عشرة رؤساء بلديات منتخبين في السجن دون ضمانات لمحاكمة عادلة أو دفاع سياسي أو نقابي عنهم، في ظل صمت تام من "الجامعة الوطنية للجماعات التونسية"، التي تحولت إلى أداة تابعة لوزارة الداخلية، بعدما كانت في السابق فضاء مستقلا للدفاع عن المنتخبين المحليين ومصالح الجماعات المحلية.

كلفة حل المجالس البلدية: دولة بلا أطراف ورقابة غائبة

حل المجالس البلدية خلق فراغا مؤسسيا واسعا، ترك أثرا مباشرا في حياة الناس.

النيابات الخصوصية التي تسير البلديات اليوم تعمل بمنطق تصريف الأعمال، دون شرعية انتخابية أو عمق شعبي أو صلاحيات تقريرية حقيقية. يترأس أغلبها كتّاب عامون يفتقرون في الغالب إلى التكوين في مجالات التخطيط المحلي والسياسات العامة، ويخضعون لرقابة الولاة الذين يفتقد عدد منهم بدورهم إلى الخبرة في إدارة الشأن المحلي. يحدث ذلك في ظل غياب شبه تام للرقابة الشعبية، وتراجع آليات المحاسبة والمشاركة التي كانت تمثل جوهر التجربة الديمقراطية المحلية.

إعلان

انعكست هذه الوضعية على مختلف المجالات الحيوية:

في النظافة والبيئة: اضطربت منظومات جمع النفايات في العديد من البلديات، وتحول عديد المساحات الخضراء إلى مصبات عشوائية، مما أدى إلى تراكم الفضلات، وتزايد المخاطر الصحية، وتدهور المشهد الحضري.

في البنية التحتية: توقفت أغلب مشاريع التهيئة والصيانة، فامتلأت الأحياء بالحفر والمياه الراكدة، خاصة في المناطق الداخلية والأحياء الفقيرة حول العاصمة والمدن الساحلية.

في التنوير العمومي: غابت الصيانة الدورية فانقطعت الإضاءة في مناطق واسعة، وارتفعت المخاطر الأمنية.

في العمران والسكن: توسع البناء العشوائي مع غياب اللجان المنتخبة، وضعف الرقابة الميدانية.

في الشفافية والحوكمة: توقفت الجلسات العلنية، وتراجعت الرقابة المالية والإدارية، ولم تعد الميزانيات تناقش أو تنشر كما كان معمولا به سابقا.

تعطلت كذلك مصالح المواطنين في مجالات إجرائية أساسية، من بينها إبرام عقود الزواج التي كانت تتم تحت إشراف رؤساء البلديات وأصبحت اليوم تتطلب حضور عدول إشهاد مدفوعي الأجر، ما أضاف عبئا ماليا وإداريا على العائلات.
في الوقت نفسه، تعاني بلديات كثيرة من شغورات في مناصب الكتاب العامين والإطارات الفنية والإدارية، مما زاد من بطء الأداء وشلل المرفق البلدي.

غياب المنتخبين أنهى حلقة المساءلة المحلية، وأضعف التواصل بين المواطن ومؤسسته الأقرب إليه، فاختفى الشعور بالمشاركة وتراجعت الثقة في قدرة الدولة على الإصغاء والتفاعل.

النتيجة المباشرة كانت تدهور جودة الحياة في المدن والقرى، وتآكل الثقة العامة، وترسخ الانطباع بأن مؤسسات الدولة أصبحت بعيدة عن الواقع اليومي للناس.

المقاومة البيروقراطية ضد اللامركزية

تجربة اللامركزية اصطدمت منذ بدايتها بما يمكن تسميته بـ"المقاومة الهادئة" من داخل أجهزة الدولة. فالإدارة الممركزة التي راكمت لعقود سلطة القرار لم تتقبل بسهولة فكرة أن تصبح البلديات مركزا موازيا للتأثير.

كثير من المصالح الجهوية وموظفي الوزارات تعاملوا مع البلديات المنتخبة كخصم إداري لا كشريك. تأخرت المصادقات، وتعطلت التمويلات، وازداد التعقيد الإجرائي في علاقة البلديات بالمركز.

هذه المقاومة لم تكن مجرد دفاع عن مصالح قطاعية، بل كانت جزءا من مقاومة أوسع داخل أجهزة الدولة ضد منطق الديمقراطية ذاته. فالذين قاوموا اللامركزية هم أنفسهم الذين رأوا في المؤسسات المنتخبة خطرا على "هيبة الدولة" وعلى تسلسل السلطة.

وفي النهاية، التقت هذه المقاومة الإدارية مع النزعة الشعبوية السياسية في هدف واحد: استعادة الدولة من السياسيين، أي من ممثلي الشعب المنتخبين، في كل المستويات، من البرلمان إلى البلديات.

اللبس بين اللامركزية واللامحورية

جزء كبير من الالتباس في التجربة التونسية يعود إلى الخلط بين اللامركزية واللامحورية. الأولى تقوم على نقل السلطة إلى هيئات منتخبة تمثل السكان وتتمتع بالاستقلال المالي والإداري. أما الثانية فتعني تفويض بعض صلاحيات الوزارات المركزية إلى ممثليها المعينين كالولاة والمعتمدين.

حين تتغول اللامحورية على اللامركزية، تفقد هذه الأخيرة معناها الإصلاحي، لأن القرار يعود عمليا إلى الممثلين الإداريين للدولة.

تونس عاشت هذا التداخل بصورة حادة: فبعد حل المجالس المنتخبة، أصبحت النيابات الخصوصية تعمل تحت إشراف الولاة، أي أن كل القرار المحلي أصبح يدار من الأعلى، مما ألغى أي استقلال فعلي للجماعات المحلية وأعاد البلاد إلى النظام الإداري القديم.

مقاربة قيس سعيد البديلة للحكم المحلي

في هذا السياق، قدم النظام الحالي ما يعرف بـ"البناء القاعدي"، بوصفه مقاربة جديدة للحكم المحلي، ترفَع شعاراتها على قاعدة "إعادة السلطة إلى الشعب من الأسفل إلى الأعلى". غير أن الممارسة كشفت مسارا مغايرا، إذ تحول المشروع إلى إعادة هندسة للفضاء العام على نحو يحد من التمثيل والمبادرة.

إعلان

تم إقصاء القوى الوسيطة التي شكلت عبر التاريخ ركيزة التوازن بين الدولة والمجتمع. وأعيد رسم المجال المحلي ضمن شبكة مجالس ترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية، دون استقلال فعلي في القرار أو في التمويل.

بهذا الترتيب الهرمي الجديد، غابت روح المشاركة وحلت محلها علاقة مراقبة متبادلة بين المواطنين والإدارة، فتراجع الأفق التشاركي الذي قامت عليه فلسفة اللامركزية، وحلت مكانه صيغة تمارس القرب دون أن تمنح الحرية، وتستحضر الشعب دون أن تشركه فعلا في القرار.

تبدت من خلالها دولة تستعيد حضورها من الأسفل، لا لتقوي المجتمع، بل لتحكم السيطرة على حركته، فتغلق بذلك إحدى آخر نوافذ التجربة الديمقراطية التي نص عليها دستور 2014.

تجربة رائدة تحولت إلى درس مؤلم

رغم النهاية المأساوية، كانت تجربة البلديات المنتخبة في تونس من أكثر التجارب طموحا في المنطقة العربية. فقد بلغ عدد أعضاء المجالس المنتخبة نحو سبعة آلاف عضو من بين ما يقارب أربعة وخمسين ألف مترشح، نصفهم من النساء وأكثر من النصف من الشباب دون الخامسة والعشرين.

هذا التنوع أفرز تمثيلا واسعا للطاقات الجديدة، إذ بلغت نسبة الشابات المنتخبات نحو 37% من إجمالي الأعضاء، فيما تجاوزت نسبة النساء في المجالس البلدية 47% بفضل نظام التناصف العمودي والأفقي الذي مثل سابقة في العالم العربي.

أطلقت هذه المجالس دينامية محلية جديدة في مجالات الحوكمة والشفافية والمشاركة، من خلال تنظيم مئات الجلسات العلنية المفتوحة، وإطلاق فضاءات رقمية للتفاعل مع المواطنين في أكثر من ثلاثين بلدية.

كما حظيت التجربة بدعم دولي واسع من مؤسسات مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا، الذين مولوا برامج لتكوين الإطارات وتعزيز القدرات المحلية بقيمة تجاوزت 200 مليون دينار تونسي.

ورغم ما راكمته التجربة من مكاسب أولية وتجارب ميدانية واعدة، توقفت دون تقييم رسمي أو مراجعة مؤسسية. تحول المشروع من نموذج إصلاحي واعد إلى درس مؤلم في كيف يمكن أن تجهض المسارات الديمقراطية حين تفقد الدولة ثقتها بمواطنيها، وحين تترك المؤسسات الناشئة دون حماية سياسية أو دعم إداري يضمن استمرارها ونضجها.

خاتمة: استعادة اللامركزية لاستعادة الدولة

كلفة غياب البلديات تجاوزت حدود الخدمات المتراجعة والمشاريع المعطلة، لتطال العلاقة العميقة بين الدولة ومواطنيها. فحين تنزَع الصلاحيات من المستويات المحلية، تتراجع الثقة وينكفئ القرار إلى مركز مثقل بالمهام، يعجز عن الإحاطة بالحاجات المتنوعة في الجهات والأحياء.

ومع مرور الوقت، تفقد الدولة حضورها الحي في تفاصيل الحياة اليومية، وتتحول إلى إدارة بعيدة تحكم أكثر مما تدبر. فالحكم يمارس من موقع السيطرة، أما التدبر فينطلق من فهم الواقع والسعي إلى خدمته.

تونس تحتاج اليوم إلى رؤية متوازنة للامركزية، تنقل الصلاحيات تدريجيا وفق منطق النجاعة والمسؤولية. هذه الرؤية تقوم على توزيع واضح للسلطات بين المركز والجهات، وتأمين موارد مالية مستقرة تمنح على أساس الأداء، مع بناء منظومة كفاءات محلية قادرة على التخطيط والتنفيذ والمساءلة.

ويتطلب المسار أيضا إصلاح العلاقة بين الإدارة المركزية وممثليها في الجهات، بما يضمن التكامل بين اللامركزية واللامحورية، بدل أن تتحول الثانية إلى أداة سيطرة.

تجارب دول قريبة أثبتت أن إصلاح الدولة يبدأ من قاعدتها. فقد اعتمد المغرب منذ عقد مسار "الجهوية المتقدمة" لإعادة توزيع القرار والموارد، بينما استطاعت البرتغال بعد أزمة 2008 تحقيق توازن جديد بين الدولة والبلديات عبر تمكين الجماعات المحلية من صلاحيات فعلية في الاستثمار والخدمات الاجتماعية. هذه النماذج أظهرت أن الحكم المحلي عندما يدعم بالثقة والإمكانات يصبح عنصر استقرار ونمو، لا مصدر عبء أو تشتت.

إعادة الاعتبار للامركزية تمثل خطوة لإحياء روح الدولة الحديثة القائمة على المشاركة والمساءلة والمسؤولية المشتركة. فعندما تمتلك البلديات القدرة على المبادرة وتتحمل نتائج قراراتها أمام المواطنين، تستعيد الدولة معناها الحقيقي كإطار جامع يسعى لتحقيق المصلحة العامة، ويعمل جنبا إلى جنب مع المجتمع.

بهذه المقاربة يمكن لتونس أن تبني من جديد جسور الثقة بين الإدارة والناس، وأن تجعل من الحكم المحلي نواة صلبة لإصلاح الدولة وتجديد مشروعها الوطني.

ولكن دعونا نعود إلى الأرض بعد أن حلقنا في فضاء الحلول المستقبلية. فاستعادة اللامركزية تظل مرتبطة باستعادة الديمقراطية نفسها، وأوّلية الأولويات اليوم هي أن نعيد إلى السياسة معناها، وإلى الدولة روحها، وإلى الناس حقهم في المشاركة من جديد.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق