بغداد – تتزايد تعقيدات تشكيل الحكومة العراقية يوما بعد آخر في ظل وضع إقليمي مضطرب وحال داخلي ليس في أفضل أحواله، وكل ذلك في ظل استمرار واشنطن بإرسال رسائل تحذيرية لبغداد من مغبة اختيار حكومة موالية لإيران، فضلا عن إبلاغها بضرورة إنهاء ملف سلاح الفصائل وضبط تهريب الدولار ودعم الاقتصاد الإيراني.
وبعد الانتخابات التشريعية التي أجريت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأفرزت حصول الفصائل المسلحة على أكثر من 90 مقعدا في البرلمان من مجموع 329 مقعدا، يبدو أن الإطار التنسيقي، الذي يُعد المظلة السياسية للقوى السياسية الشيعية، يعيش في أحلك الظروف لتسمية الحكومة الجديدة، التي يُعتبر تشكيلها الأصعب منذ الغزو الأميركي عام 2003.
" frameborder="0">
ضغوط خارجية
وتكتنف ملف تشكيل الحكومة الجديدة تعقيدات كثيرة، زادت حدة بعد الاستهداف الأخير لحقل "كورمور" النفطي في محافظة السليمانية قبل أيام.
وما لبثت أن هدأت عاصفة هذا الحدث الأمني، حتى أتت عاصفة سياسية أخرى تمثّلت بما نشرته جريدة الوقائع العراقية الرسمية التي صنفت حزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله (الحوثيين) وتنظيمات أخرى كجماعات "إرهابية" مع تجميد أموالهم في المصارف العراقية، وهو ما أشعل توترا سياسيا داخل الإطار التنسيقي وسط سيل من الاتهامات بين مختلف الجهات.
وفي هذه الأثناء، يشير الباحث السياسي المقرب من الإطار التنسيقي علي فضل الله إلى وجود ضغوط أميركية كبيرة من أجل تقديم شخصية لمنصب رئاسة الوزراء بعيدة إلى حد ما عن إيران وقريبة من واشنطن في الوقت ذاته.
وقال فضل الله للجزيرة نت: "لن يتحقق هذا الأمر قطعا بالنسبة التي تطمح إليها الولايات المتحدة، فقوى الإطار التنسيقي ترفض هذه الضغوط والتدخلات، لكنها ستراعي التأثيرات السيئة حال تقديم شخصية قريبة من الحشد الشعبي وفصائل المقاومة الإسلامية، بما لا يستفز الأميركيين، مراعاة للوضع العراقي وعدم استعداء أميركا".
وبالمقابل، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل الدكتور فراس إلياس إن الضغوط الأميركية واضحة في هذه المرحلة وفق تصريحات المبعوث الأميركي إلى العراق مارك سافايا، وعبر زيارة المسؤولين الأميركيين لبغداد، مبينا أن واشنطن تريد تسمية رئيس وزراء يديم النهج الإستراتيجي الذي اعتمدته حكومة محمد شياع السوداني، مع عدم وجود تمثيل للفصائل المسلحة في الحكومة القادمة.
إعلان
ويعتقد إلياس -خلال حديثه للجزيرة نت- أن الضغوط الأميركية ستنجح بتسمية رئيس حكومة يراعي رغباتها، بيد أنها قد تفشل في استبعاد الفصائل المسلحة عن المواقع المؤثرة في الحكومة القادمة.
وبالتالي -برأيه- هناك شد وجذب بين واشنطن التي ترغب في إبعاد الحكومة العراقية عن التأثير الإيراني، بينما تسعى طهران لتشكيل حكومة عراقية غير متماهية بشكل أو بآخر مع الرغبات الأميركية فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية وملفات الطاقة بين بغداد وطهران.
ويخلص إلياس إلى أن الضغوط الأميركية ليس هدفها تشكيل واقع سياسي عراقي غير خاضع لإيران بقدر ما تسعى لإقامة حكومة عراقية لديها مسافة أمان عن إيران، بما يعكس نجاح إدارة دونالد ترامب بتحقيق نصر سياسي في الداخل العراقي، مشيرا إلى أن الموقف الإيراني بات يتسم بالهدوء النسبي مقارنة مع تحركات طهران التي أعقبت جميع الانتخابات العراقية السابقة.
محطات الوجود العسكري الأمريكي في العراق من 2003 إلى اليوم
حلقة #للقصة_بقية على شاشة #الجزيرة ومنصاتها الرقمية#شاهد | https://t.co/9PSlcU1Zrq pic.twitter.com/9EcHYS9YQV— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 3, 2025
خلافات متداخلة
وقد لا تكون الضغوط الخارجية وحدها العائق أمام تشكيل الحكومة الجديدة، إذ باتت الخلافات السياسية الداخلية بين مختلف الكتل السياسية الشيعية والسنية والكردية واضحة ومتداخلة مع بعضها.
ويعلّق فراس إلياس على ذلك بقوله إن ما يجري داخل الإطار التنسيقي يمكن وصفه بـ"عملية قيصرية" تجري على قدم وساق للإسراع بتشكيل الحكومة مع وجود خلاف عميق بشأن تسمية رئيس الوزراء من بين مرشحين محتملين، أبرزهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي والحالي محمد شياع السوداني، وآخرين كرئيس "هيئة المساءلة والمعادلة" باسم البدري ورئيس جهاز المخابرات حميد الشطري، وفق قوله.
من جانبه، ينفي الباحث علي فضل الله وجود خلافات كبيرة بين أجنحة الإطار التنسيقي، مؤكدا أنها اختلافات في وجهات النظر وليست خلافات، وأن الإطار سيسمي قريبا قائمة مرشحين لمنصب رئيس الوزراء، وذلك بعد تصديق المحكمة الاتحادية على النتائج النهائية للانتخابات.
وكانت المتحدثة باسم مفوضية الانتخابات جمانة الغلاي قد أكدت للجزيرة نت أن المفوضية حسمت 800 طعن في نتائج الانتخابات كانت قد تقدمت بها الكتل السياسية، ولم يتبقَّ سوى 75 طعنا سيحسم ملفها مطلع الأسبوع القادم، ومن ثم سترسل النتائج النهائية إلى المحكمة الاتحادية العليا للمصادقة النهائية عليها، بما سيسمح للكتل السياسية في دخول المرحلة الفعلية لتشكيل الحكومة.
وفيما يتعلق بمنصب رئيس البرلمان القادم الذي جرى العرف السياسي في العراق أن يكون سنيا، يقول المتحدث الرسمي باسم تحالف السيادة محمد الطائي، إن المجلس السياسي الوطني الذي يشكّل الغطاء السياسي للقوى السنية يعمل حاليا على وضع الشروط لاختيار رئيس البرلمان، دون الكشف عن أسماء المرشحين المحتملين للمنصب.
وفي تعليقه على ما نشرته وسائل الإعلام المحلية حول وجود "فيتو" على شخصية رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، في تولي المنصب مجددا، أكد الطائي أنه لا فيتو سني على الحلبوسي، بيد أن هناك إشارات من الإطار التنسيقي تفيد بعدم رغبتها في ترشح الأخير للمنصب، دون وجود موقف رسمي واضح بهذا الشأن.
إعلان
وأشار إلى أن المجلس السياسي الوطني -الذي كان تحالف السيادة عرّاب تشكيله- يرفض قطعا مبدأ الفيتو والإملاءات بهذا الشأن، وأن القرار يجب أن يبقى محصورا داخل المجلس السياسي الوطني.
ويتفق الباحث فضل الله مع ما تحدث به الطائي حول ترشح الحلبوسي لمنصب رئاسة البرلمان قائلا: "أعتقد أن الإطار التنسيقي قد أوصل رسالة للحلبوسي بعدم تقدمه لمنصب رئاسة البرلمان مع تقديم شخصية تسوية أو من يُمثّله في المرحلة القادمة".
وفي الوقت الذي يبدو فيه تحالف السيادة أقرب إلى اختيار محمد الحلبوسي للمنصب، كما أكد المتحدث محمد الطائي، قال الباحث السياسي نبيل العزاوي المقرب من تحالف العزم السني، في تصريحات صحفية، إن التحالف الأخير قد يكون الأقرب لتولي منصب رئاسة البرلمان، بما يعكس خلافات كبيرة كذلك داخل البيت السني.
وبالانتقال إلى عقدة منصب رئاسة الجمهورية، حيث الخلافات لا تزال كبيرة بين الأحزاب الكردية حول مرشحهم لمنصب رئيس الجمهورية.
فبعد أن جرى العرف السياسي أن يكون الرئيس مرشحا عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه بافل طالباني نجل الرئيس الأسبق جلال طالباني، تتصاعد مطالب الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني بالمنصب، بعد أن حقق نتائج كبيرة في الانتخابات الأخيرة وبفارق مريح عن الاتحاد الوطني، أقرب منافسيه.
وحول ذلك، يقول الباحث فضل الله إن ثمة خلافات كبيرة بين الأحزاب الكردية الرئيسية حول منصب الرئيس، وأن تأخر تشكيل حكومة الإقليم بعد أكثر من عام ونصف على انتخابات الإقليم يبيّن مدى الخلاف، مشيرا إلى أن تسمية رئيس الجمهورية ستكون ضمن حزمة حل الخلافات بين الأحزاب الكردية، وأن عدم حل هذه الخلافات قد يعصف بالوجود الكردي ضمن أروقة الحكومة، حسب قوله.
ويتفق ما تحدث به الأكاديمي فراس إلياس مع هذا الطرح، إذ يرى أن الحزب الديمقراطي يسعى للحصول على منصب الرئيس بما يتوافق مع رغبة قوى إقليمية مثل تركيا، إلا أن الخلافات الداخلية الكردية حول المنصب لا تزال على حالها دون بوادر حقيقية لحلها.
ورغم محاولات مراسل الجزيرة نت الحصول على تعليق من قِبل الحزب الديمقراطي الكردستاني حول هذا الموضوع، فإن المسؤولين الأكراد فضّلوا عدم الإفصاح عن التفاصيل ريثما تصل الأحزاب الكردية لتفاهمات حول الموضوع.
" frameborder="0">
عامل الوقت
وفي ظل المعطيات الحالية، يبدو أن أمام الكتل السياسية مخاضا عسيرا لتشكيل الحكومة لا يقل عن 3 أشهر على أقل تقدير، وفق الباحث علي فضل الله، الذي يرى أن حسم ملف الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومة القادمة قد لا يرى النور قبل نهاية شهر مارس/آذار القادم.
من جانبه، يعتقد الأكاديمي فراس إلياس أن الخلافات بين المكونات الشيعية والسنية والكردية وداخلها قد يربك المشهد بصورة عامة، فضلا عن الغموض الذي لا يزال يكتنف موقف التيار الصدري الذي قد يتحرك ويوتر الوضع في حال وصول شخصية لا ترضيه لمنصب رئاسة الوزراء، فضلا عن احتمالية كبيرة لتأثر الوضع السياسي بالظرف الإقليمي والتصعيد غير المحسوم بين إسرائيل وإيران.
وعلى النقيض من هذه القراءة، يعتقد المتحدث باسم تحالف السيادة محمد الطائي أن وصول المبعوث الأميركي مارك سافايا للبلاد قريبا، قد يحرك الوضع الحالي، مشيرا إلى أن العامل الخارجي سيحدد الخطوات الرئيسية القادمة في تشكيل الحكومة العراقية.

0 تعليق