تشير معظم الدراسات التي تناولت الأثر النفسي لطوفان الأقصى، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى أن الحدث أفرز نموذجا معاصرا لاضطراب ما بعد الصدمة، وهو اضطراب نفسي يظهر إثر التعرض لحدث مرهق أو مرعب وغير متوقع، وتنعكس آثاره بوضوح على كل من الفرد والمجتمع.
وفي ورقته العلمية التي نشرها مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، يرى الخبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية الدكتور وليد عبد الحي أن ظاهرة الانتحار تعد إحدى أبرز النتائج المحتملة لهذا الاضطراب، إذ شكلت محور اهتمام لدى علماء النفس والاجتماع والأطباء.
وتكشف البيانات عن تصاعد معدلات الانتحار بين عناصر الجيش الإسرائيلي بعد طوفان الأقصى، ما يفرض ضرورة دراسة هذه الظاهرة في ضوء النظريات النفسية والاجتماعية، خاصة أن إسرائيل تتصدر دول الشرق الأوسط في معدلات الانتحار.
ويرى الكاتب أن نظرية "اضطراب ما بعد الصدمة" تُشكل المدخل الأنسب، لفهم انعكاسات طوفان الأقصى على المجتمع الإسرائيلي، خصوصا بين العسكريين، مع توظيف بعض المؤشرات في نظريات علماء النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس السياسي.
الانتحار في إسرائيل
بالعودة إلى التقارير الدولية، بما فيها بيانات منظمة الصحة العالمية، والدراسات الأكاديمية والمراكز البحثية المتخصصة، يتضح أن إسرائيل تحتل المرتبة الأولى في معدلات الانتحار بين دول الشرق الأوسط التي تتفاعل معها منذ نحو 75 عاماً.
فخلال الفترة ما بين عامي 2000 و2021، تراوح معدل الانتحار في إسرائيل بين 4.4 إلى 6.8 حالة لكل مئة ألف نسمة، وهي نسبة تفوق أكثر من ضعف متوسط المعدلات المسجّلة في بقية دول الإقليم، والتي لا تتجاوز 2.35 حالة لكل مئة ألف نسمة.
وتلفت المقارنة مع المجتمع الفلسطيني الأنظار إلى فارق هائل، إذ يبلغ معدل الانتحار في المجتمع الفلسطيني 0.78 فقط لكل مئة ألف نسمة، أي ما يقارب 15% من المعدل الإسرائيلي، رغم ما يتعرض له الفلسطينيون من ضغوط اجتماعية وسياسية واقتصادية قاسية على مدار عقود، بل إن الأغرب أن فلسطين تسجل أقل مجتمع في العالم في نسبة الانتحار طبقا لمنظمة الصحة العالمية.
إعلان
وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أنّ نحو 73% من حالات الانتحار تحدث في الدول متوسطة ومتدنية معدلات الدخل، بينما تُعدّ إسرائيل من الدول ذات الدخل المرتفع نفسها، مما يعني أنّ معامل الارتباط بين ارتفاع معدل الانتحار في إسرائيل ومعدل الدخل الفردي ضعيف ولا يصلح لتفسير الظاهرة.

من جانب آخر، فإن معدل الديمقراطية في إسرائيل عام 2024 هو 7.8 من 10، بينما معدلها في دول الشرق الأوسط هو 3.12، لكنّ معدلات الانتحار أيضاً في دول الشرق الأوسط أقل كثيراً من إسرائيل، مما يعني أنّ نمط النظام السياسي لا يبرّر الفارق بين معدلات الانتحار بين الطرفين.
الجانب الآخر هو معدل العسكرة، والذي تحتل فيه "إسرائيل" المرتبة الثانية عالميا بعد أوكرانيا، وكانت تحتل المرتبة الأولى قبل عام 2022، واللافت للنظر في هذا المؤشر أنّ إسرائيل تحتل المرتبة الثانية (بعد أرمينيا) في نسبة المنخرطين في السلك العسكري (في الخدمة أو الاحتياط) إلى مجموع السكان، وبمعدل يصل إلى 1.77، وهي نسبة عالية.
ولما كانت نسبة الانتحار بين العسكريين أعلى من نسبتها بين المدنيين في أغلب دول العالم، فإن الأمر يزداد حدّة في إسرائيل.
وبمقارنة نتائج الدراسات المختلفة في مجتمعات أخرى، التي تُبيّن أنّ الانتحار بين الرجال في أغلب دول العالم أعلى منه بين النساء، كما أنه بين العسكريين أعلى منه بين المدنيين، إضافة إلى أنه بين الشباب أعلى منه بين كبار السن.
ويتضح أن إسرائيل تسجّل معدلات انتحار أعلى، فهي بين الرجال 8.36 مقابل 1.97 بين النساء، أي أن معدل الانتحار بين الرجال يبلغ 4.24 أضعاف معدل النساء.
كما أنّ الهرم السكاني في إسرائيل يشير إلى غلبة شريحة الشباب على الكهول، وهذا يُعزّز تفسير ارتفاع ظاهرة الانتحار في إسرائيل مقارنة ببقية دول المنطقة.
وبمقارنتها مع الفلسطينيين يتبيّن أنّ الانتحار بين الذكور هو 1.24، وبين الإناث 0.31، وهو ما يدلّ على فارق واضح بين المجتمعين، مما يعزّز الاستنتاج السابق.
" frameborder="0">
تأثير طوفان الأقصى
من المهم التوقف عند مؤشرات اجتماعية ونفسية ضاغطة لفهم أسباب ارتفاع معدلات الانتحار في إسرائيل بعد معركة الطوفان، خاصة بين العسكريين، كما تظهر في الإحصائيات في الجدول التالي، وتتمثل هذه المؤشرات في:
1. لم تتوقع أي جهة علمية أو سياسية إسرائيلية استمرار معركة الطوفان لهذه الفترة الطويلة، مما جعل العسكري الإسرائيلي يعيش حالة دائمة من التوتر والشعور بالإحباط مع استمرار المواجهة وصعوبة التنبؤ بنهايتها. 2. يتزايد الإحباط بين العسكريين بسبب قدرة المقاومة على الصمود لفترة غير مسبوقة، خلافًا لتجارب إسرائيل السابقة التي كانت حروبًا قصيرة مع جيوش عربية أو تنظيمات فلسطينية، مما أدى إلى تصاعد حالة القلق واليأس لغياب النصر السريع. 3. لم تعرف إسرائيل في تاريخها منذ عام 1947 إلى الآن هذا القدر من الاضطراب الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، يتجلّى مظاهرات شبه يومية، وتشكيك في القيادة، والصراعات بين السياسيين والعسكريين مع تبادل الاتهامات غير المألوفة، ما عمّق اضطراب الفرد الإسرائيلي، خاصة العسكريين، ورفع من حالات الانتكاس النفسي واضطراب ما بعد الصدمة. 4. تراجعت صورة إسرائيل دوليًا بفعل المظاهرات في العالم الغربي ومواقف النخب العالمية والإدانات المتكررة من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، وشهادات المحاكم حول الإبادة الجماعية، ما أدى إلى تراجع شعور التفوق الإسرائيلي وظهور مشاعر دونية عبر عنها حتى بعض النخب الإسرائيلية. 5. مطالبة الحكومة الإسرائيلية بوقف عروض المقاومة أثناء تسليم الأسرى كشفت عن اختراق نفسي حقيقي أحدثته المقاومة داخل المجتمع الإسرائيلي والعالمي، ولم يعد بالإمكان تجاهله، فقد كانت تلك العروض منظمة ومهيبة بدرجة جعلت العديد من الخبراء الإسرائيليين يؤكدون الاختراق النفسي الذي قامت به المقاومة في المجتمع الإسرائيلي والعالمي على حد سواء. 6. يعيش الإسرائيليون شعورا بأن الشرق الأوسط هو المنطقة الأكثر اضطرابا عالميا، حيث تصنف إسرائيل في مرتبة متدنية على مؤشر السلام العالمي، وتواجه صراعات وحروبا أو انتفاضات مستمرة، ما يجعل المجتمع يعاني من اضطراب نفسي واجتماعي دائم، وتترجم هذه الحالة بارتفاع معدلات الانتحار لتحتل إسرائيل المرتبة الأولى إقليميا و138 عالميا.
قبل طوفان الأقصى وبعده
تشير البيانات الكمية في الجدول إلى تصاعد معدلات الانتحار في إسرائيل خلال سنوات الحرب 2023-2025، ما يعكس أثر معركة الطوفان مع حالة الاضطراب الدائم في البيئة الإقليمية، خاصة بعد الضربات الإيرانية في يونيو/حزيران 2025، فقد تراجعت إسرائيل إلى المرتبة 173 عالميا في الاستقرار، أي بانخفاض 44 مرتبة منذ ما قبل الطوفان.
إعلان
وأكد الجيش الإسرائيلي وجود ارتفاع حاد في حالات الانتحار بين الجنود منذ بدء الحرب على غزة، مع توقف آلاف الجنود عن الخدمة القتالية بسبب الضغوط النفسية، وأعلن أن 28 جنديا انتحروا منذ بداية الحرب حتى نهاية 2024، وهو أعلى رقم منذ 13 عاما، مع وجود حالات انتحار "مشتبه بها" قيد التحقيق حتى الآن.
وفي عام 2024، سجّل الجيش 21 حالة انتحار (منها 10 قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول و7 في أول 3 أشهر من الحرب)، مقابل 17 حالة في 2023، و14 في 2022، و11 في 2021، وأكثر من نصف حالات 2024 كانت في صفوف جنود الاحتياط، بسبب استدعاء أعداد ضخمة منهم.
استجابة لذلك، اتخذ الجيش إجراءات جديدة تدابير وقائية جديدة بعد 15 شهرا من الحرب واستنفار مئات الآلاف من جنود الاحتياط، مثل تعزيز خدمات الصحة النفسية وافتتاح عيادة جديدة وتكثيف المتابعة للجنود المسرّحين، ورغم أن الجيش أعلن في 2021 نجاحه بخفض معدلات الانتحار بنسبة 75% عبر برامج وقائية، إلا أن هذه الأرقام أُعيد التشكيك فيها بعد طوفان الأقصى.
بعد ارتفاع غير مسبوق في عدد حالات الانتحار بين جنوده.. الجيش الإسرائيلي يصدر قرارًا جديدًا للحد من الأزمة، فما هو؟#حرب_غزة pic.twitter.com/TBVa2PeQ2d
— قناة الجزيرة (@AJArabic) August 6, 2025
وأعلن العميد أمير فادماني عن إجراءات جديدة لدعم الصحة النفسية، منها تعزيز توافر الضباط المختصين وافتتاح عيادة خاصة، إضافة إلى رعاية شاملة للجنود المسرّحين.
ورغم إعلان الجيش عام 2021 عن خفض حالات الانتحار بنسبة 75% عبر برامج وقائية، إلا أن بعض التقارير شككت في دقة الأرقام، وأعاد طوفان الأقصى معدلات الانتحار إلى الارتفاع الحاد.
ويتبيّن من استطلاع للرأي أجراه معهد إسرائيلي أنّ ثقة الجمهور في تقارير الجيش الإسرائيلي عن حالات الانتحار انخفضت من 46% في عام 2020 إلى 38% في عام 2021.
تُظهر الدراسات تركز نسب الانتحار الأعلى بين العسكريين الشباب (18-21 عامًا)، وأكدت دراسة للفترة (1974–1984) تزايد هذه النسبة في هذه الشريحة، وأشارت دراسة أخرى بين (1974–2001) أن 60% من 830 حالة انتحار في الجيش كانت بين الشباب الذكور، وأن معدلات الانتحار بين الإناث أقل بسبب قصر فترة الخدمة وقلة مشاركتهن في القتال.
ويمكن إضافة لما سبق تراجع في ثقة الإسرائيليين، وخاصة الشباب، في صدقية تقارير الجيش حول الانتحار، حيث انخفضت نسبة الثقة العامة من 46% في 2020 إلى 38% في 2021، وكان انعدام الثقة واضحا بشكل خاص بين الإسرائيليين الأصغر سنّا، إذ أعرب 29% فقط ممّن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً عن ثقتهم بـالجيش الإسرائيلي في هذه القضيّة، مقارنة بـ 44% ممن تبلغ أعمارهم 55 عاماً فأكثر.
" frameborder="0">
نماذج للمقارنة
تدل المقارنة الكمية على أنّ معدل الانتحار في المجتمع الإسرائيلي يعادل، عند مقارنته بمعدل الانتحار في المجتمع الفلسطيني (داخل فلسطين)، ما يساوي نحو 6 أضعاف معدله بين الفلسطينيين. فإذا قارنا بين الذكور في المجتمعَين، نجد أنّ الفارق هو ذاته تقريباً (8.3 في إسرائيل مقابل 1.24 في المجتمع الفلسطيني).
ما يعني أنّ المجتمع الفلسطيني أكثر قدرة على التوازن النفسي في مواجهة اضطرابات ما بعد الصدمة، على الرغم من سلسلة الصدمات التي يواجهها.
وفي دراسةٍ للمؤسسة العسكرية البريطانية لفترة تمتدّ لأكثر من قرن، تبين أن معدل الانتحار في المجتمع المدني أعلى من معدل الانتحار في المجتمع العسكري، بينما دلت دراسة أميركية تغطي قرابة قرنين (1819–2017)، أنّ الانتحار في فترات الحرب في الجيش الأميركي كان أقلّ من معدله في الأوضاع العادية، لكن ذلك تغيّر في حالات مثل الحرب الفيتنامية والحرب في العراق، وتراوحت نسبته بين 20.2% و29.7%.
إعلان
وتربط هذه الدراسة، استنادا إلى الحروب الفيتنامية والأفغانية والعراقية، بين متغيرين هما طول مدّة الحرب وارتفاع معدل الانتحار، وهو ما يعزز الاعتقاد بأن طول المواجهة في طوفان الأقصى قد يصلح لتفسير ارتفاع معدلات الانتحار في الجيش الإسرائيلي، إلى جانب أن الحروب الهجومية الخارجية أقل أخلاقية من الحروب الدفاعية الداخلية.
" frameborder="0">
الخلاصة
إن ارتفاع مؤشر العسكرة في إسرائيل، وطول فترات الصراع منذ أكثر من 75 عاما، وتتابع الحروب أو عمليات العنف العسكري هجوما ودفاعا بمعدل مرة كل 4 أعوام، تعززت كلها بعد الطوفان، إلى جانب أنه أسهم في إعادة تشكيل صورة إسرائيل في المجتمع الدولي، فبدت دولة مارقة وصاحبة أعلى معدل إدانات من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، بما فيها أهم المحاكم الدولية، وهو أمر سيكون له -من وجهة نظر النخبة الفكرية الإسرائيلية- تداعياته على المدى الطويل.
وتعد المجتمعات الإسبرطية، كما هو حال إسرائيل، هي مجتمعات عُصابية ومجتمعات تسودها المخاوف والقلق الجماعي، وتميل للتعصُّب والعنف المفرط، قد تتمكن من تحقيق نتائج ميدانية لفترات معيّنة وضمن ظروف معينة، لكنها تبقى مهددة بالتوتر الداخلي نتيجة البنية السيكولوجية العُصابية التي تقوم عليها.
وتقتضي الضرورة من الجانب الفلسطيني إيلاء الأبعاد والبنية النفسية للمجتمع الإسرائيلي اهتماماً أكبر، وتحري ثغرات هذه البنية النفسية وكيفية استغلالها في الصراع والتفاوض والحروب الإعلامية.
إنّ ظاهرة الانتحار التي عززها طوفان الأقصى في المجتمع الإسرائيلي ليست منفصلة عن البنية العُصابية، والنزعة الإسبرطية، والإحساس بتصدع النموذج المزعوم وتنامي الإحساس بمظاهر اضطراب ما بعد الصدمة.
وتنفرد إسرائيل مع تايوان بين دول العالم بـ"ضغوط هاجس الزوال"، فكلما واجهت إسرائيل مأزقا حادا، أو انتكاسة ميدانية، استيقظ هاجس الزوال في العقل الجمعي الإسرائيلي، وهو ما يضيف إلى اضطراب ما بعد الصدمة بُعدا آخر، فتتعزز النزعة العُصابية، كما تدل الدراسات الإسرائيلية للموضوع، وتتجلّى في ظاهرة تنامي الانتحار بين العسكريين الذين أوكل المجتمع إليهم مهمة منع الزوال.
فأغلب دول العالم تتحدث عن أزمات سياسية، أو تغيّر النظام، أو أزمات اقتصادية، أو حروب..إلخ، لكن إسرائيل هي الدولة الأكثر تكرارا لهاجس "زوال الكيان"، خصوصا مع تتابع الحروب بمعدل عال.
وهو ما يُكرس البنية العُصابية لمجتمعٍ إمّا ينتحر أو يفرغ عصابيته في الأطفال والنساء والجوعى، كما يجري في قطاع غزة حاليا، أو يمارس تحايلا معرفيا، طبقاً لنظرية ليون فيستنجر، بصناعة رواية للأحداث تتسق في مضمونها مع الأوهام المسيطرة على المنظومة المعرفية للمجتمع الصهيوني، مما يزيد البنية العُصابية تعقيدا.
لذلك، لا يجوز أن يرتهن تحليل الانتحار للبُعد الفردي في المجتمعات الإسبرطية، فهو تعبير عن عُصابية مجتمعية، حيث ترتبط النزعة العدوانية في المجتمع بالتكوين النفسي العصابي، كما أظهرت الدراسات الميدانية.
0 تعليق