في خمسينيات القرن الماضي، برز اسم جميلة بوحيرد كوجه نسائي يقاوم الاستعمار الفرنسي بالجزائر، حيث كانت شابة عشرينية حين التحقت بصفوف جبهة التحرير الوطني، و اعتُقلت وعذبت في سجون الاحتلال الفرنسي.
وعرضت حلقة (2025/09/18) من برنامج "محاكمات" السيرة الذاتية للمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي مثلت جزءا من تاريخ تحرر الجزائر من الاحتلال الفرنسي، حيث التحقت في سن مبكرة بجبهة التحرير الوطني الجزائرية وجناحها العسكري المعروف بـجيش التحرير الوطني.
ولعبت بوحيرد دورًا بارزا في تنفيذ العمليات الفدائية داخل العاصمة الجزائرية ضمن ما عُرف بـ "معركة الجزائر"، وكانت تعمل تحت إشراف القائد ياسف سعدي، الذي تولى قيادة المنطقة المستقلة للعاصمة.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listواشتهرت بوحيرد بجرأتها في حمل الرسائل السرية والمشاركة المباشرة في التخطيط والتنفيذ للعمليات، قبل أن تعتقل عام 1957 وتعذب تعذيبا وحشيا في سجون الاحتلال الفرنسي، لتتحول لاحقًا إلى رمز عالمي للمقاومة والتحرر الوطني.
وعن نشأة بوحيرد، يحكي المؤرخ والأكاديمي الجزائري محمد رزيق، إنها ترعرعت في كنف والديها اللذين عانيا الأمرّين من الاضطهاد والذل الذي كان يمارسه الاحتلال الفرنسي ضد جيل كامل من الجزائريين الرافضين لوجودهم، بالإضافة لتربيتها في مدينة القصبة التي تحمل تاريخا ثقافيا واسعا، الأمر الذي رسخ بذور الحرية والانتقام من الاحتلال في أعماق بوحيرد.
وذكرت المؤرخة والباحثة في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي سيلفي ثينولت، أن جميلة كانت محاطة بكثير من الشابات اللاتي تأثرن بحركة النضال وشاركن فيها لاستعادة حريتهم وأراضي بلادهم.
وكان للمرأة دور هام متسق مع دور الرجال في عمليات النضال ضد الاحتلال، بل إن النساء شكلن قوات "كوماندوس" عسكرية، والتحقن بالجيش الذي شكلته قوات حركة التحرر تحت قيادة ياسف سعدي، وفق المحامية وباحثة القانون والتاريخ فاطمة براهم.
ووفق الباحثة بالمركز الوطني الفرنسي، فإن سعدي كان يحمل منصب نائب قائد الحركة (العربي بن مهدي) قبل أن يعتقل الجيش الفرنسي الأخير ويقتله تعذيبا، الأمر الذي اضطر فيه ياسف سعدي لتحمل كافة المسؤوليات النضالية بعام 1957.
إعلان
وعن ظروف ومتطلبات العمليات الفدائية التي كانت تتم بالجزائر آنذاك ضد الاحتلال الفرنسي، يوضح المؤرخ الفرنسي المتخصص في تاريخ الجزائر بنيامين ستورا، أن الملامح الأوروبية بالإضافة إلى تحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، كانا عاملين أساسيين لتجنيد الفتيات الجزائريات لعمليات تسلل داخل مناطق تجمع الفرنسيين، إذ لم يكن بإمكان المسلمين الجزائريين الدخول بحرية في أحياء الأوروبيين.
وكانت جميلة بوحيرد قد تميزت بهاتين الصفتين، الأمر الذي مكنها وكذلك العديد من الشابات الجزائريات من التماهي والتسلسل بين الفرنسيين بتنفيذ عمليات فدائية في مناطق تعج بالفرنسيين دون إحداث أي شك، لذا قرر قادة الحركة زرع المتفجرات داخل مقاهي يرتادها الفرنسيون دوريا.
القبض عليها؟
في ليلة التاسع من أبريل/نيسان بمدينة القصبة عام 1957، قبض جنود الاحتلال الفرنسي على بوحيرد وسعدي، وأصيبت خلال العميلة بالرصاص فأدخلت المستشفى العسكري أسبوعين قبل أن تدخل السجن لأول مرة.
وأثناء وجودها في المعتقل، حقق معها ضباط الاحتلال واستجوبوها وحاولوا إجبارها على الإدلاء بكل المعلومات والإفصاح بأسماء القادة والمشاركين في حركة التحرر الوطني، إلا أنها التزمت الصمت ولم يكسر التعذيب إرادتها.
وأجج اعتقال بوحيرد الرأي العام الذي خرج في احتجاجات دفاعا عنها، وبحسب المحامية الجزائرية فإن 80 ألف جزائري اختفوا قسريا وعذبهم الاحتلال الفرنسي.
وبعد نحو أسبوعين، مثُلت جميلة بوحيدر لدى المحكمة التي ترأسها ضباط وعسكريون فرنسيون، لتعترف في أول جلساتها بأنها نفذت عملية فدائية ضد الفرنسيين، الذين أصدروا ضدها حكما بالإعدام، وكان عدة محامين جزائريين تابعين لجبهة التحرير الوطني شاركوا في الدفاع عنها، بالرغم من من التهديد الذي قد يطالهم بالاعتقال في معسكرات فرنسية كما كان يحدث مع أخرين.
إلا أن المحامي الفرنسي جاك فيرجيس الذي شارك في الدفاع عن جميلة، استخدم إستراتيجية ناجحة عرفت إعلاميا بـ"روح الإرهاب" والتي أصبحت في ما بعد تدرس في علوم المحاماة والدفاع؛ إذ أبطل التهمة عن بوحيدر بوصف اعترافها تم تحت التعذيب، ما أدى لاحقا إلى تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، وفق رواية المختصين.
ونجح المحامي الفرنسي، بإخراج قضية جميلة من الجزائر لتكون قضية عالمية بنشر قصتها في كتب رواة وكتاب أجانب أمثال جورج أورنو و فرانسوا مورياك.
وكان للمخرج المصري يوسف شاهين دور في نقل قصة جميلة بوحيرد للشاشة العربية في عام 1958، إذ صنع فيلما يحمل اسم جميلة بوحيرد يسرد حكايتها ويستفيض في طرح التعذيب الذي نالته بسرد الواقع بالجزائر آنذاك، الأمر الذي ساعد في جعل بوحيدر رمزا للاستقلال ليس عربيا فقط بل وعالميا.
وخرجت جميلة من المعتقل بعد استقلال الجزائر عام 1962، بموجب اتفاقيات إيفيان التي مهدت الطريق لاستقلال الجزائر، وظلت بوحيدر، حتى الآن، رمزاً لبطولة المرأة العربية التي كسرت صورة "الضعف" وأثبتت قدرتها على حمل السلاح ومواجهة المحتل، كما تولت رئاسة اتحاد المرأة الجزائرية، لكنها اعتزلت العمل السياسي بعد فترة قصيرة.
إعلان
وتزوجت من محاميها جاك فيرجيس الذي أعلن إسلامه وغيّر اسمه إلى "منصور"، وحتى اليوم، تبقى جميلة بوحيرد شاهداً حياً على أن الحرية لم تكن منحة، بل ثمرة تضحيات وآلام جيل كامل آمن بأن الوطن يستحق الحياة.
Published On 19/9/202519/9/2025
|آخر تحديث: 00:38 (توقيت مكة)آخر تحديث: 00:38 (توقيت مكة)
0 تعليق