غزة والجزائر والكاريبي.. فرانز فانون ينبعث سينمائيا في مئويته رغم التغييب الفرنسي - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حين طُرح فيلم "فانون" للمخرج الفرنسي جان كلود بارني في الصالات الفرنسية أواخر أبريل/نيسان الماضي، اقتصر حضوره على عدد محدود من دور السينما، في حين غاب عن غالبية الصالات ولا سيما سلسلة قاعات سينما "إم كيه 2" (mk2) التي تُعد من أبرز الشبكات وأكثرها انتشارًا في فرنسا.

وقد أثار هذا الغياب نقاشًا على وسائل التواصل الاجتماعي وفي لقاءات وبرامج تناولت الفيلم، وانتقد البعض السياسات الانتقائية والرقابة المقنّعة لتلك الصالات، بينما رأى آخرون أن الأمر لا يتجاوز حدود الاختيارات البرمجية العادية أو يعود إلى ما اعتبروه ضعفًا في البنية الفنية للفيلم.

" frameborder="0">

فرانز فانون، الطبيب النفسي المارتينيكي الفرنسي وأحد أبرز منظّري مناهضة الاستعمار، لم يكن يومًا أيقونة يسهل استيعابها في الفضاء الفرنسي. فلا هو بشخصية يمكن أن تضع صورتها على ملصق وتبيعها لمحبي السينما، ولا فكره مما يمكن هضمه بلا صدام.

ولئن كان فيلم بارني عن فانون بعيدًا عن المنطق التجاري، لكن معاداة فانون في فرنسا لم تبدأ اليوم. ففي عام 2019، حين اقترح مجلس بلدية بوردو إطلاق اسمه على أحد شوارع حي "جينكو"، اندلعت عاصفة من الاعتراض انتهت بتجميد القرار، وقد رافق ذلك رسالة احتجاجية وصفت فكر فانون بأنه "تسويغ للإرهاب"، وحذّرت من أن أتباعه "سوف يصبحون قتلة بدم بارد".

واستخدمت الرسالة الاحتجاجية كلمات فانون نفسها لإدانته، مستشهدة بجملته الشهيرة "بالنسبة للمستعمَر، لا يمكن للحياة أن تولد إلا من جثة المستعمِر المتحللة"، واعتبرت كتابه "مُعذّبو الأرض" -الذي أنجزه في أيامه الأخيرة وهو يصارع سرطان اللوكيميا (ابيضاض الدم) ونُشر قُبيل رحيله- نصًا بالغ الخطورة.

وقد حاربت فرنسا الكتاب منذ صدوره عام 1961 عن دار ماسبيرو في باريس، في ذروة الثورة الجزائرية، حتى عُدّ اقتناؤه سببًا كافيًا للاعتقال، غير أن المنع لم يزدْه إلا انتشارًا، فتحوّل إلى بيان عالمي لحركات التحرّر الوطني في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، واكتسب هالة النص "المحرَّم" الذي لا بدّ من قراءته.

Frantz Fanon. Wikimedia Commons
الطبيب النفسي "فرانز فانون" أحد أبرز منظري مناهضة الاستعمار (مواقع التواصل)

يعود بارني في فيلمه إلى تلك الحقبة عينها، حين خطّ فانون كتابه أثناء عمله في مستشفى البليدة جوانفيل (الذي يحمل اسمه اليوم) على مشارف العاصمة الجزائرية، حيث أدار قسم الطب النفسي 3 سنوات في منتصف الخمسينيات.

إعلان

ومن هذه التجربة ينسج الفيلم خطابه، قارئًا مقاطع من الكتاب بصوت يوازي الصورة، في عمل أُنجز بشقّ الأنفس وبميزانية متواضعة، لكنه يجد في الذكرى المئوية لميلاد فانون (1925-1961) فرصة لإعادة طرح أسئلته أمام جمهور جديد.

ويقول بارني للجزيرة نت "لطالما رغبت، في أعماقي، أن أنجز فيلماً يكون فيه فانون حاضراً حضوراً مؤثراً، لم أكن أعرف أي شكل سأمنحه، هل سيكون محوراً صريحاً أو حضوراً قوياً في الهامش؟ لكنني، في معظم أعمالي السابقة، كنت أتهيأ للقاء فانون وأكتب عنه على نحو غير مباشر".

"لطالما رغبت، في أعماقي، أن أنجز فيلماً يكون فيه فانون حاضراً حضوراً مؤثراً. لم أكن أعرف أي شكل سأمنحه: هل سيكون محوراً صريحاً أم حضوراً قوياً في الهامش؟ لكنني، في معظم أعمالي السابقة، كنت أتهيأ للقاء فانون وأكتب عنه على نحو غير مباشر"
المخرج جان كلود بارني

ليست هذه المرة الأولى التي يحضر فيها صاحب "الكولونيالية المحتضرة" على الشاشة، سواء كشخصية أو عبر كتبه التي ظلّت مصدر إلهام وجدل، البداية كانت عام 1968 مع المخرج الإيطالي فالنتينو أروسيني وفيلمه "معذّبو الأرض"، الذي يُعدّ اليوم مثالًا بارزًا على تلاقي "سينما التدخل" الأوروبية مع نضالات بلدان الجنوب في ستينيات القرن الماضي.

كتاب فانون معذبو الأرض
اعتبر هذا الكتاب نصا بالغ الخطورة وعُدّ اقتناؤه سببا كافيا للاعتقال (الجزيرة)

ثم جاء الوثائقي "بشرة سوداء، قناع أبيض" (عام 1996) لإسحاق جوليان ومارك ناش، ليسلّط الضوء على حياة فانون وكتاباته النفسية التي طالها الإهمال. وفي 2014 قدّم السويدي غوران أولسون فيلمه الوثائقي "بخصوص العنف"، في محاولة لربط فكر فانون بحركات التحرر الأفريقية في السبعينيات، والوثائقي مستوحى من عنوان كتاب فانون "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء".

أمّا المخرج الجزائري عبد النور زحزاح فقد خصّص أكثر من عمل لفانون، من بينها "فرانز فانون ذاكرة منفى" (عام 2002)، وفيلمه الأحدث "وقائع حقيقية حدثت في القرن الماضي بمستشفى الطب النفسي بالبليدة" (عام 2024). وإلى جانب هذه الأعمال، هناك العديد من المحاولات السينمائية الأخرى التي يصعب حصرها هنا.

وعن تقديم فيلم آخر حول فانون، يصرح جان كلود بارني -للجزيرة نت- مشيرًا إلى فيلم زحزاح، فيقول "إن من القوي والدالّ أن يظهر فيلمان عن فانون في مئويته، ومن منظورين مختلفين حول الحقبة نفسها، أعتقد أن فيلمينا يكملان بعضهما، وسينجحان في ملامسة جماهير مختلفة، ومن المهم أن يرى الجمهور أننا جميعاً نختلف حتى ونحن نتناول الموضوع ذاته، وأن أمامه حرية الاختيار بين اقتراحات سينمائية متعددة".

ومنذ ستينيات القرن الماضي، نظر السينمائيون اليساريون وصنّاع الفن السابع إلى فانون بوصفه أبًا روحيًا لسينما "العالم الثالث"، خصوصًا في سياق النقاش حول "جماليات التحرير"، ففي كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" -أحد النصوص المؤسسة لفكر ما بعد الاستعمار- تناول فانون مفهوم "النظرة البيضاء" إلى السود، واللحظة التي يردّ فيها السود تلك النظرة ويفككونها، بالنسبة إليه، يشكّل الفضاء السينمائي موقعًا لإخضاع المشاهد لقصف معقّد من الصور والنظرات والأيديولوجيات التي تربك الهوية السوداء المستقلة وتشوّشها.

بشرة سوداء، أقنعة بيضاء
هذا المؤلَف أحد النصوص المؤسسة لفكر ما بعد الاستعمار (الجزيرة)

الطب النفسي من غرفة العلاج إلى الثورة

ولكن لماذا فانون بالذات؟ نسأل بارني، ابن جزر الأنتيل (الكاريبية التابعة لفرنسا)، فيجيب "لطالما رغبت، في أعماقي، أن أصنع فيلمًا يكون فيه فانون حاضرًا حضورًا مؤثرًا، لم أكن أعرف أي شكل سأمنحه: هل سيكون محورًا صريحًا أو حضورًا قويًا في الهامش؟ لكنني، في معظم أعمالي السابقة، كنت أتهيأ للقاء فانون وأكتب عنه بطريقة غير مباشرة، بالنسبة إليّ لم يكن الأمر مجرد استعادة تاريخية، بل ضرورة إنسانية وتجربة عضوية في مساري الشخصي، حاولت أن أروي بصدق تجربتي وثقافتي الأنتيلية، وما تركته قراءاته في داخلي منذ أن كنت في الـ16".

إعلان

ويتتبع فيلم بارني فترة عمل فانون في مستشفى البليدة، حيث يلامس المخرج علاقة الطبيب المارتينيكي بالثوار الجزائريين، ويظهر فانون (ألكسندر بوير) عبر صلته بحسين (مهدي سنوسي)، العامل الجزائري في المستشفى، الذي يقوده إلى الثورة من خلال القائد المحلي رمضان (سالم كالي). ومع ذلك لا يصرّح بارني بأن فانون كان عضوًا في جبهة التحرير الوطني، آنذاك كان فانون يؤوي الثوار في المستشفى ويقدّم لهم الرعاية الطبية، بل وحين طرده الفرنسيون من الجزائر إلى تونس، كان يعرّف بنفسه كجزائري.

وفي البليدة، لم يعد فانون قادرًا على الفصل بين الطب والسياسة، بين المريض والمستعمَر، وهناك كتب عبارته الشهيرة، "الاستعمار مرض يصيب الوعي"، ويعرض بارني هذا التحوّل بعيدًا عن التبسيط والتمجيد، فانون عنده ليس أيقونة مكتملة، بل هو إنسان تتناسل داخله التناقضات كلما غاص أعمق في التجربة الجزائرية.

وثمة مشاهد توحي بأن التزامه بالعنف الثوري لم يكن خاليًا من التردّد، نراه مثلًا أمام المرآة يحاول أن يكتب جملة عن الحرية، ثم يتوقف فجأة، كما لو أن الكلمات خانته، ويعلّق بارني "لم أرد أن يكون فانون متأكدًا من كل شيء، أردته متردّدًا مرتبكًا وأحيانًا عاجزًا عن التعبير، لأن الحقيقة أن العبقرية ليست وضوحًا دائمًا، بل صراع مع الغموض".

وفي الفيلم، يتحاور فكر فانون وكتابته مع حياته: الطبيب، المريض، المحاضر، والمنغمس في الثورة، وفي مثل هذا السياق كان على بارني أن ينتقي، أن يبرز جانبًا ويستبعد آخر، وهو يوضح "حين تصنع فيلمًا روائيًا عن شخصية فكرية بالغة التعقيد مثل فانون، فأنت مضطر إلى القيام باختيارات صارمة، لذلك استبعدت كل ما لا يخدم غايتي الأساسية أن أروي العلاقة الحميمة التي ربطتني بفكره، وأن أُظهر أثره في مساري، ولهذا جاء الفيلم بطابع شخصي واضح".

 

فانون معاصرنا: غزة في المرآة

لا يمكن النظر إلى الفيلم بعيداً عن السياق الأوسع الذي يعيد فانون اليوم إلى واجهة النقاش، لا فقط كشخصية تاريخية، بل كصوت حاضر في مواجهة المأساة الفلسطينية. وفي زمن غزة، تُستعاد أسئلته حول الاستعمار والعنف والتحرر، وكأنها ما زالت مطروحة رغم مرور أكثر من نصف قرن، وثمة من يعترض على المقارنات فيقول إن إسرائيل ليست فرنسا، وغزة ليست الجزائر، وإن 2025 ليس 1962. ومع ذلك، تعود كلماته إلى التداول "لا يمكن محو الاستعمار إلا بالعنف".

ويظل سؤال صلة فانون بالراهن معقداً. فهناك من يخشى أن يُستدعى بوصفه رمزاً معزولاً عن سياقه، بعيداً عن المارتينيك أو حرب الجزائر التي شكّلت فكره، واستعادته على هذا النحو قد تعني تكراره أكثر مما تعني إعادة التفكير فيه.

ولكن بعد قرن على مولده، ما زال فانون نصاً مفتوحاً ومرجعاً مقلقاً، وكتاباته تُقرأ في المظاهرات والمقالات وقاعات الدرس، لا كأثر مؤرشف بل أداة حيّة لتأطير كارثة غزة، وما يجعل حضوره مستمراً ليس وصفاته الجاهزة بل قوة تشخيصه.

يقول بارني "نحن بحاجة إلى فانون لأنه شخّص بوضوح موضع الخلل، وأظهر كيف أن مشروع السيطرة والإلغاء المنهجي لشعوب بأكملها يهدد إنسانية الإنسان ذاته، قد تبدو كلماته اليوم أقرب إلى التجريد، لكن ما يجري في العالم، ولا سيما في فلسطين، يعيد تذكيرنا براهنيتها، فشهادته لم تنل الانتشار الذي تستحقه، ومحاولات تهميشه لم تنجح، لأنه ببساطة ضروري لإعادة التوازن النفسي وبناء الذات الإنسانية في عالم تُنتهك فيه أبسط القوانين الأخلاقية، وهنا تكمن قوة فكره أنه ما زال حجر زاوية في بناء سيكولوجيا تقاوم الاستلاب الاستعماري".

وهنا يكمن ثقل الفيلم أيضاً فهو لا يقدّم فانون كجواب جاهز، بل كإطار مفتوح للأسئلة. يقول بارني "لم أكن أريد أن أقدّم درساً في التاريخ، بل أن أفتح نافذة يتسلّل منها الحاضر".

ويضيف "نحن بحاجة إلى فانون لأنه شخّص بوضوح موضع الخلل، وأظهر كيف أن مشروع السيطرة والإلغاء المنهجي لشعوب بأكملها يهدد إنسانية الإنسان ذاته، وقد تبدو كلماته اليوم أقرب إلى التجريد، لكن ما يجري في العالم، ولا سيما في فلسطين، يعيد تذكيرنا براهنيتها. فشهادته لم تنل الانتشار الذي تستحقه، ومحاولات تهميشه لم تنجح، لأنه ببساطة ضروري لإعادة التوازن النفسي وبناء الذات الإنسانية في عالم تُنتهك فيه أبسط القوانين الأخلاقية، وهنا تكمن قوة فكره أنه ما زال حجر زاوية في بناء سيكولوجيا تقاوم الاستلاب الاستعماري".

المخرج الفرنسي "جان كلود بارني" خلال الدورة الـ21 من مهرجان مراكش الدولي للفيلم في 2 ديسمبر/كانون الأول 2024 (الفرنسية)

سينما وعنصرية وموروثات استعمارية

يأتي بارني (عام 1965) من جزر الأنتيل، من تاريخ يصفه بأنه "مثقل بجراح العبودي"، ويكمل "علينا أن نؤسس لعمل يواجه النسيان، بعيداً عن الارتهان لفرنسا التي لم تعترف بثقافتنا الأفروكاريبية يوماً، أنا شديد الحساسية تجاه جذوري، وهي بوصلة لا أحيد عنها، أؤمن بالإنسانية، لكنني لا أستطيع أن أغفر لمن يدمّرون وينهبون ويضحّون بشعوب كاملة، هذا في نظري جريمة بلا نقاش، كل ذلك حاولت أن أجسّده في الفيلم".

"علينا أن نؤسس لعمل يواجه النسيان، بعيداً عن الارتهان لفرنسا التي لم تعترف بثقافتنا الأفروكاريبية يوماً. أنا شديد الحساسية تجاه جذوري، وهي بوصلة لا أحيد عنها. أؤمن بالإنسانية، لكنني لا أستطيع أن أغفر لمن يدمّرون وينهبون ويضحّون بشعوب كاملة. هذا في نظري جريمة بلا نقاش. كل ذلك حاولت أن أجسّده في الفيلم"

وكانت أكبر العقبات التي واجهت صُنّاع الفيلم هي مسألة التمويل، والعثور على جهة مستعدة لدعم فيلم ليس تقليديًا عن فانون، ويعلّق بارني "استطعنا في النهاية توفير ميزانية تتيح إنجاز العمل بكرامة، صحيح أن بعض الأطراف حاولت تهميشنا، لكنني كنت مدركاً لندرة الأعمال التي تفتح أفق التفكير والشعور، أردت أن أصنع فيلماً معاصراً وقوياً بصرياً وتفاعلياً، يثير الدهشة ويطرح الأسئلة، على نحو ينسجم مع ما دعا إليه فانون: بناء إنسان جديد".

إعلان

ويكشف هذا التحدي -في جانب منه- عن سؤال أوسع حول تأثير العنصرية البنيوية والموروثات الاستعمارية في عالم السينما اليوم، سواء في إنجاز الأفلام أو في تمويلها أو عرضها ومن ثم تلقيها، ويجيب بارني "بلا شك، أعتقد أن السينما ما تزال أحد المواقع التي تتجذر فيها العنصرية البنيوية، فهي الوسيط الذي رسّخ الكليشيهات والأحكام المسبقة طوال عقود، وربما كان هذا أحد أسباب إصراري على العمل في هذا الحقل، ألا نترك لهم الساحة خالية".

ويختم بارني "منذ بداياتي وُضعت في خانة المخرج من الدرجة الثانية، هذا تمييز واضح، لكنه كان أيضاً دافعاً لأبذل الأفضل كل مرة، اليوم هناك جيل جديد تحرر بالكامل، يصنع أعماله من دون انتظار أحد، وهنا تبدأ المواجهة الحقيقية. أفلامي، منذ أكثر من 25 عاماً، تشكّل مساراً متواصلاً، وفانون متشابك فيها منذ البداية وحتى الآن، وكثير من المشاهدين اكتشفوا مساري من خلال هذا الفيلم، وهذا أسعدني كثيراً لأنه أثبت أن الحاجة إلى فانون ما تزال ملحّة، وأننا استطعنا تقديم فكره بطريقة تمس الحاضر وتفتح أفق المستقبل".

0 تعليق