في ظلّ غياب الرقابة وارتفاع تكاليف المعيشة، يشهد سوق الإيجارات السكنية والتجارية في الأردن قفزات غير مسبوقة، دفعت العديد من المواطنين إلى البحث عن مساكن أقل كلفة، في وقتٍ يشكو فيه أصحاب المحال التجارية من تراجع الأرباح وركود الحركة، لتتحوّل الإيجارات إلى عبءٍ يومي يثقل كاهل المواطن والتاجر على حدّ سواء.
في هذا التحقيق الميداني، نستمع إلى أطراف المعادلة الأربعة: المستأجر، ومالك العقار، والوسيط العقاري، والجهة التنظيمية الممثلة بنقابة أصحاب المكاتب العقارية، لنرسم صورة واضحة لأزمة باتت حديث الشارع.
صوت المستأجر: "الإيجار يلتهم نصف الراتب"
المشهد الأكثر قتامة يظهر في شهادات المستأجرين. "أحمد"، وهو موظف في القطاع الخاص، يروي قصته: "أسكن في هذه الشقة منذ أربع سنوات. بدأت بإيجار 300 دينار. اليوم، يطالبني المالك بـ 450 دينارًا، بزيادة 50% دفعة واحدة. هذا جنون!".
تتكرر هذه القصة مع "سارة"، التي تقول إن إيجار شقتها ارتفع هذا العام بنسبة تقارب 30%. وتضيف: "عندما سألت المالك عن السبب، كان جوابه بسيطًا: 'هذا سعر السوق'. حاولت الانتقال لمكان أرخص، لكن الأسعار في كل المناطق ارتفعت بشكل لا يصدق. أصبح الإيجار يأخذ الحصة الأكبر من ميزانية الأسرة على حساب التعليم والصحة".
يتفق معظم المستأجرين على أن السبب الرئيسي هو "غياب الرقابة" و"طمع" بعض المالكين. ويطالبون بتدخل حكومي فوري، حيث يقول أحمد: "يجب أن يكون هناك قانون يحدد سقفًا للإيجارات. تحديد نسبة زيادة سنوية معينة، ولتكن 5% أو مرتبطة بالتضخم، هو الحل العادل للطرفين".
الوسيط العقاري: "العرض والطلب هو الحكم"
في الميدان، يؤكد أصحاب المكاتب العقارية (السماسرة) هذا الواقع. يقول "أبو رامي"، وهو صاحب مكتب عقاري في عمان الغربية: "نعم، هناك ارتفاع واضح جدًا خلال الأشهر الستة الماضية. الطلب زاد بشكل كبير، خصوصًا على الشقق الصغيرة والمتوسطة، بينما المعروض قليل".
ويشير إلى أن مناطق مثل شمال وغرب عمان شهدت الارتفاع الأكبر. وحول الأسباب، يوضح: "ليست قصة أن المالك يريد الرفع فقط، بل السوق هو الذي يفرض. المالك الذي أخلى شقته، يتلقى عشرات الاتصالات في اليوم الواحد، ويعرض عليه المستأجرون الجدد سعرًا أعلى. إنها معادلة عرض وطلب بحتة".
وعن شكاوى الزبائن، يقول: "نحن في الواجهة، ونسمع الشكوى يوميًا، لكن لا نملك حلاً. نتوقع أن تستمر الأسعار بالارتفاع ما لم يزد المعروض من الشقق".
المالك يبرر: "التكاليف ارتفعت علينا أيضًا"
على الطرف الآخر، يمتلك الملاك مبرراتهم. "الحاج محمود"، وهو مالك لعدة شقق سكنية، يدافع عن موقفه: "المستأجر يرى فقط الزيادة، ولا يرى ارتفاع التكاليف علينا. الصيانة الدورية، وأسعار مواد البناء، وضرائب المسقفات، وفواتير الخدمات للمبنى، كلها ارتفعت بشكل كبير".
ويضيف: "هل الزيادة عادلة؟ نعم، هي تغطي جزءًا من التضخم. أنا أرفع الإيجار بنسبة معقولة للمستأجر القديم، لكن عندما يخرج المستأجر، لا أستطيع تأجيرها بالسعر القديم في ظل الأسعار الحالية. حدث أن ترك مستأجرون الشقة بسبب السعر، لكن تم تأجيرها في نفس الأسبوع بسعر أعلى".
يرفض "الحاج محمود" فكرة وضع سقف قانوني للإيجارات، معتبرًا أنها "تتدخل في ملكية خاصة"، لكنه يوافق على أن "التفاهم" بين المالك والمستأجر هو الحل الأفضل لتجنب النزاعات.
نقابة العقارات: "القانون بحاجة لتعديل والسوق يحتاج تنظيمًا"
في اللقاء مع نقيب أصحاب المكاتب العقارية والوسطاء العقاريين، كان التقييم الرسمي واضحًا. أكد النقيب أن النقابة ترصد بالفعل "ارتفاعًا ملحوظًا" في قيم الإيجارات السكنية تحديدًا خلال عام 2025.
وعن الأسباب، أرجعها إلى "الارتفاع العالمي في تكاليف مواد البناء، مما قلل من بناء شقق جديدة بأسعار معقولة، وزاد الطلب على الشقق المستعملة". وأضاف: "هناك طلب متزايد مقابل عرض ثابت، وهذا طبيعي أن يرفع الأسعار".
وحول الجانب القانوني، أوضح النقيب: "القانون الحالي (قانون المالكين والمستأجرين) لا يحدد نسبة زيادة سنوية بعد انتهاء مدة العقد المتفق عليها. يصبح الأمر خاضعًا لاتفاق الطرفين، أو لـ 'أجر المثل' الذي تقرره المحكمة، وهو ما يتماشى مع أسعار السوق الحالية المرتفعة".
وأكد أن السوق بحاجة إلى "تنظيم أكثر" وليس "تسعير إجباري"، مقترحًا "تعديلات تشريعية توازن بين حق المالك في الاستثمار وحق المواطن في السكن، كربط نسبة الزيادة بالتضخم السنوي المعلن من البنك المركزي".
بين مطرقة ارتفاع تكاليف المعيشة وسندان "العرض والطلب"، يقف المستأجر في مواجهة مباشرة مع أزمة سكنية تزداد تعقيدًا.
وفيما يطالب المواطنون بقانون يضبط "فوضى" الإيجارات، يرى الملاك والوسطاء أن الحل يكمن في زيادة المعروض السكني.

0 تعليق