عاجل

عطر الأثرياء الذي لا يشيخ.. رحلة الباتشولي من طارد للحشرات إلى ملابس النبلاء - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

من رائحة أرضية دافئة تحمل عبق الغابات الرطبة، انطلقت رحلة الباتشولي (Patchouli)، تلك النبتة التي تحولت من أوراق تُخفى بين طيّات الأقمشة إلى قاعدة أساسية في العطور الفاخرة.

يُعرف اسمها في اللغة التاميلية بـ"باتشاي إيلاي" أي "الورقة الخضراء"، وهي بالفعل ورقة غيّرت تاريخ الرائحة في العالم. من أسواق الهند القديمة إلى صالونات النبلاء في باريس، ومن رمزية الحرية في الستينيات إلى عودة الفخامة في القرن الحادي والعشرين، ظل الباتشولي رمزا للغموض والجاذبية التي لا تزول.

الطريق إلى أوروبا

ينتمي نبات الباتشولي إلى عائلة النعناع، ويحمل الاسم العلمي بوغوستيمون كابلين. ووفقا لما أورده موقع بريتانيكا، فإن موطنه الأصلي يقع في جنوب شرق آسيا، ولا سيما في الهند والصين وماليزيا، حيث استخدمه شعب التاميل منذ القدم في الطب الشعبي وتحضير الشاي العشبي وطرد الحشرات.

وكانت أوراق الباتشولي المجففة تُوضع بين طيّات الأقمشة الفاخرة مثل الحرير والكشمير لحمايتها من العثّ، ومع مرور الوقت اكتسبت تلك الأقمشة عبيرا مميزا أصبح رمزًا للفخامة الشرقية، لينتقل بذلك الباتشولي من البيوت الآسيوية البسيطة إلى قصور النبلاء حول العالم.

توضح جمعية العطور البريطانية أن هذا الاستخدام العملي كان البداية الحقيقية لانتشار رائحة الباتشولي في أوروبا؛ إذ كانت الأقمشة الهندية المعطّرة بأوراق الباتشولي تُباع بأسعار مرتفعة في الموانئ الفرنسية والإيطالية، حتى أصبح العطر هو العلامة التي تميّز الأقمشة الأصلية عن المقلد.

Patchouli branch and green leaves on natural background.; Shutterstock ID 1853306980; purchase_order: aj; job: ; client: ; other:
أوراق الباتشولي المجففة كانت تُوضع بين طيّات الأقمشة الفاخرة مثل الحرير والكشمير لحمايتها من العثّ (شترستوك)

من الشرق إلى صالونات النبلاء

تشير روايات تاريخية إلى أن نابليون بونابرت نفسه كان من أوائل من جلبوا أوراق الباتشولي إلى أوروبا في القرن التاسع عشر، بعد حملته في مصر. فقد كان يضع أوراق الباتشولي داخل أقمشة الحرير والكشمير لحمايتها من التلف أثناء الرحلة. وما إن وصلت تلك الأقمشة إلى فرنسا حتى فُتن الأرستقراطيون برائحتها الغامضة والدافئة، فأُدرج الباتشولي سريعًا في صناعة العطور.

إعلان

في القرن التاسع عشر، صار الباتشولي بمثابة ختم الأصالة للمنسوجات الشرقية، ثم تحوّل في نهاية القرن إلى مكوّن عطري فاخر في باريس ولندن، حيث دخل في تركيبات عطور شهيرة مثل "مِيزيا من غيرلان" لاحقا، رمزا للترف والغموض الشرقي.

كيف يُستخرج هذا العطر الغني؟

تقطف أوراق الباتشولي يدويا بعد نضجها، ثم تُجفف في الظل للحفاظ على زيوتها العطرية. بعد ذلك تُنقع الأوراق وتُقطّر بالبخار لاستخراج الزيت العطري الكثيف ذي اللون الذهبي الداكن.

كل 100 كيلوغرام من الأوراق تنتج فقط كيلوغراما واحدا من الزيت، ما يفسّر قيمته العالية.

أما أجود أنواع الزيت فتُستخلص من الأوراق العليا للنبتة وتُترك لتُعتّق لسنوات، حيث تصبح الرائحة أكثر عمقا ودفئا.

تحتوي التركيبة الكيميائية لعطر الباتشولي على مركّبات مميزة مثل باتشولول ونورباتشولنول، وهما المسؤولان عن الرائحة الترابية الحلوة التي تجمع بين الدفء ونفحات المسك والأخشاب، مما يمنح العطر طابعا شرقيا دافئا وفاخرا.

أجود أنواع الزيت تُستخلص من الأوراق العليا للنبتة وتُترك لتعتّق لسنوات (بيكسلز)

من طارد للحشرات إلى لغة للفخامة

في القرن التاسع عشر، كانت رائحة الباتشولي دلالة على الثراء، إذ ارتبطت بالأقمشة الهندية المستوردة. غير أن تحوّله الحقيقي إلى عنصر عطري حدث في أوروبا حين أُعيد تقطيره ودمجه مع الزهور والعود والفانيليا.

يصفه موقع إيرث بأنه "رائحة الثراء الخفي"؛ فبينما كان العطارون يستخدمونه كمكوّن أساسي في العطور الشرقية، أصبح في أوروبا مرادفا للغموض والترف.

الستينيات: من عطر النبلاء إلى رمز الثورة

شهدت الحقبة الهيبية في الستينيات والسبعينيات ولادة جديدة للباتشولي، لكن هذه المرة على أنغام الغيتار لا في قصور باريس.

في تلك الفترة، استخدم شباب الثقافة المضادة في أميركا وأوروبا زيت الباتشولي كرمز لـ"الحرية" و"الطبيعة" و"التمرد على القيم الاستهلاكية". كانوا يحرقونه في البخور أو يدهنونه على البشرة، فغدت الرائحة علامة على الروح الحرة، بل واستخدمها البعض لإخفاء روائح الأعشاب المخدّرة.

يعلّق موقع بأن هذه العودة العاطفية جعلت الباتشولي "رائحة هوية ثقافية" لا مجرد عطر شخص.

العصر الحديث: من الهيبي إلى بيوت الأزياء الراقية

بعد أن ارتبط الباتشولي لعقود طويلة بثقافة الهيبيز والذوق الشعبي، عاد اليوم ليستعيد مكانته المرموقة في عالم العطور الفاخرة.

ووفقًا لما ذكرته جمعية العطور البريطانية، أصبح الباتشولي ركيزة أساسية في العطور الراقية، خصوصا في مجموعات الشيبر (Chypre) والشرقية (Oriental)، إذ يُستخدم لتثبيت المكونات العليا وإضفاء عمق دافئ وحسي على الرائحة.

ومن أبرز دور العطور التي أعادت اكتشاف هذا المكوّن الكلاسيكي بأساليب معاصرة: شانيل، ديور، توم فورد، وذا ميرشنت أوف فينيس، حيث تمزج هذه الدور بين الأصالة الشرقية والتقنيات الحديثة في الاستخلاص.

كما امتد استخدام الباتشولي إلى صناعة الشموع والزيوت العطرية ومستحضرات العناية بالبشرة، لما يتمتع به من خصائص مهدّئة ومجدّدة للبشرة، إضافة إلى قدرته على تنشيط الحواس وتعزيز الشعور بالاسترخاء.

سحر الأرض في زجاجة

من معابد الهند القديمة إلى المختبرات الفرنسية، ومن تجار الحرير إلى مصمّمي العطور، لم يفقد الباتشولي سحره ولا قدرته على إثارة الحواس.

إعلان

إنه العطر الذي عبَر القرون والطبقات الاجتماعية، ونجا من التحوّلات الثقافية، ليبقى شاهدًا على شغف الإنسان بالبحث عن الجمال في تفاصيل الطبيعة.

ولعل سرّ بقائه يكمن في تلك المفارقة التي تجمعه: بساطة الورقة وروح الأبدية.

0 تعليق