بوخارست تؤكد: واشنطن تخطر الناتو رسمياً بـ خفض قواتها في أوروبا - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
التصريح الروماني يحدد بوضوح أن هذا الخفض سيشمل جنودا كان من المقرر أن يتمركزوا في قاعدة "ميهايل كوجالنيتشينو" الجوية الرومانية، وهي نقطة ارتكاز لوجستية وعملياتية حيوية للناتو. القرار الأمريكي يتمثل تقنيا في "وقف تناوب لواء في أوروبا"، مما يعني أن تداعيات هذا القرار لن تقتصر على رومانيا وحدها، بل ستشمل المنظومة الدفاعية المتكاملة للجناح الشرقي بأكمله.


أكدت وزارة الدفاع الرومانية، اليوم الأربعاء، في تصريح يمثل أهمية استراتيجية كبرى لأمن الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أن بوخارست وبقية أعضاء الحلف قد تم إخطارهم رسميا بالخطط الأمريكية لخفض عدد القوات المتمركزة في أوروبا الشرقية.

هذا الإعلان، الصادر من بوخارست، لا يمثل مجرد إجراء عسكري روتيني، بل هو تجسيد ملموس لبداية تحول في العقيدة الأمنية للإدارة الأمريكية الحالية برئاسة دونالد ترمب، والتي طالما أبلغت الحلفاء الأوروبيين بضرورة تحمل مسؤولية أكبر عن أمنهم.

تكمن الأهمية القصوى لهذا التصريح في توقيته وموقعه؛ فهو يأتي في ظل "استمرار الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا"، وهو الصراع الذي كان الدافع الرئيسي لتعزيز هذا الوجود العسكري الأمريكي في المقام الأول.

إن خفض القوات، حتى لو كان جزئيا، في هذا التوقيت الحساس، يرسل إشارات متعددة ومتباينة للحلفاء والخصوم على حد سواء.

التصريح الروماني يحدد بوضوح أن هذا الخفض سيشمل جنودا كان من المقرر أن يتمركزوا في قاعدة "ميهايل كوجالنيتشينو" الجوية الرومانية، وهي نقطة ارتكاز لوجستية وعملياتية حيوية للناتو على البحر الأسود.

وبحسب بوخارست، فإن القرار الأمريكي يتمثل تقنيا في "وقف تناوب لواء في أوروبا"، وهو لواء كانت له عناصر موزعة في عدة دول، مما يعني أن تداعيات هذا القرار لن تقتصر على رومانيا وحدها، بل ستشمل المنظومة الدفاعية المتكاملة للجناح الشرقي بأكمله.

إن هذا الإجراء، الذي وصفته رومانيا بأنه "متوقع"، يؤكد أن الحلفاء كانوا على علم بأن التحول في أولويات واشنطن - نحو التركيز بشكل أكبر على "حدودها ومنطقة المحيطين الهندي والهادي" - سيترجم عاجلا أم آجلا إلى تغييرات ملموسة في انتشار القوات.

تكمن أهمية هذا الإعلان في كونه أول تأكيد رسمي من دولة عضو في الجناح الشرقي تتأثر بشكل مباشر بهذا القرار. ففي حين كانت سياسات إدارة ترامب معلنة نظريا، فإن هذا التصريح الروماني ينقل النقاش من حيز النوايا السياسية إلى حيز التنفيذ العسكري الفعلي.

هذا التطور يضع دول الجناح الشرقي، التي تعيش في قلق مستمر من التهديدات الإقليمية، أمام واقع جديد يتطلب إعادة تقييم للاعتماد على الضمانات الأمنية الأمريكية.

ورغم التأكيد الروماني على استمرار تمركز "حوالي ألف جندي أمريكي" في رومانيا، وهو ما يمثل محاولة لطمأنة الرأي العام الداخلي، فإن جوهر الخبر يظل هو "الخفض" و"وقف التناوب"، وهي مصطلحات تحمل وزنا كبيرا في قاموس الردع العسكري.

إن هذا الإعلان يفتح الباب واسعا أمام تساؤلات حول مدى التزام واشنطن بأمن أوروبا المباشر، ومدى قدرة الحلفاء الأوروبيين فعليا على سد الفراغ الذي قد ينشأ، خاصة في ظل استمرار الصراع الأوكراني.


لفهم الأبعاد الحقيقية لإعلان وزارة الدفاع الرومانية، يجب وضعه في سياقه السياسي والاستراتيجي المعقد، والذي يتمحور حول ثلاثة عناصر رئيسية وردت بوضوح :
العقيدة السياسية لإدارة الرئيس دونالد ترمب، والواقع الجيوسياسي المتمثل في الحرب الروسية الأوكرانية، والضبابية المحيطة بالانتشار الأمريكي في المنطقة.

أولا، يمثل هذا القرار التطبيق العملي للسياسة الخارجية التي تبنتها إدارة الرئيس ترمب منذ وصولها إلى السلطة. فقد أبلغت واشنطن حلفاءها الأوروبيين، في مناسبات عدة وبشكل صريح، أن عليهم "تحمل المزيد من المسؤولية عن أمنهم". هذه العقيدة، التي تعرف غالبا باسم "تقاسم الأعباء" (Burden Sharing)، تنطلق من قناعة أمريكية بأن الحلفاء الأوروبيين، وخاصة الأغنياء منهم، لا ينفقون ما يكفي على دفاعهم ويعتمدون بشكل مفرط على المظلة الأمنية الأمريكية. بالتوازي مع ذلك، حددت الإدارة الأمريكية أولويات استراتيجية جديدة، تركز بشكل أساسي على "حدودها" (في إشارة إلى قضايا الهجرة والأمن الداخلي) وبشكل محوري على "منطقة المحيطين الهندي والهادي"، التي تعتبرها واشنطن مسرح التنافس الاستراتيجي الأهم في القرن الحادي والعشرين، خاصة في مواجهة الصين. وبالتالي، فإن خفض القوات من أوروبا، حتى من منطقة حساسة كالجناح الشرقي، ينظر إليه من منظور واشنطن على أنه "تعديل" ضروري لوضعها العسكري يتناسب مع هذه الأولويات الجديدة، وهو ما اعترفت به وزارة الدفاع الرومانية واصفة القرار بأنه "متوقع".

ثانيا، يأتي هذا القرار في ظل خلفية أمنية متوترة للغاية في أوروبا. يشير الخبر بوضوح إلى "المخاوف التي تسود الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي بشأن احتمال تقليص الوجود الأمريكي في المنطقة في ظل استمرار الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا". هذا هو التناقض الجوهري الذي يواجهه الحلفاء؛ ففي الوقت الذي يرون فيه أن التهديد الروسي يتجسد بشكل يومي وعنيف على حدودهم تقريبا، ويرون أن الوجود العسكري الأمريكي هو الضمانة الأكثر فعالية للردع، تأتي واشنطن لتعلن عن خفض هذا الوجود. إن الحرب في أوكرانيا هي التي دفعت الناتو بالأساس إلى تعزيز جناحه الشرقي بشكل غير مسبوق منذ الحرب الباردة، وكان الوجود الأمريكي، وخاصة القوات المتناوبة، رمزا لهذا الالتزام. أي تقليص لهذا الوجود، بغض النظر عن مبرراته الاستراتيجية الأمريكية، يقرأ في عواصم كبوخارست ووارسو على أنه إشارة مقلقة قد تشجع الخصوم وتزيد من حالة عدم الاستقرار.

ثالثا، تضاف طبقة من التعقيد إلى هذا السياق تتمثل في التصريحات المتناقضة أحيانا الصادرة عن واشنطن. ففي حين يؤكد الخبر الحالي خطط "خفض" القوات، فإنه يذكرنا في الوقت ذاته بأن "ترامب أكد في سبتمبر أيلول أن واشنطن قد تعزز وجود قواتها في بولندا". هذا التناقض الظاهري قد يشير إلى أن السياسة الأمريكية ليست انسحابا كاملا من الجناح الشرقي، بل هي "إعادة تموضع" أو "تعديل" (كما وصفتها رومانيا)، ربما عبر تفضيل دول على أخرى (مثل بولندا) كمركز ثقل للوجود الأمريكي، أو استبدال القوات المتناوبة بقوات دائمة، أو الاعتماد بشكل أكبر على القوات الأوروبية. هذه الضبابية تزيد من قلق الحلفاء الذين يبحثون عن استراتيجية أمريكية واضحة وثابتة يمكنهم البناء عليها.

0 تعليق