Published On 3/11/20253/11/2025
|آخر تحديث: 20:17 (توقيت مكة)آخر تحديث: 20:17 (توقيت مكة)
تحوّلت كوريا الجنوبية خلال العقدين الأخيرين إلى قوة سينمائية عالمية تنافس هوليود في أسواقها نفسها بعد أن نجحت في بناء نموذج فريد يجمع بين الاستثمار الواسع والدعم الحكومي وروح التجريب الفني. وقد مثّل فوز فيلم "الطفيلي" (Parasite) بجائزة أوسكار أفضل فيلم عام 2020 لحظةً مفصلية وضعت السينما الكورية في مركز جديد على خريطة الصناعة العالمية.
غير أن هذه الصورة المبهرة تخفي وراءها صراعًا داخليا متصاعدًا بين السينما التجارية المدعومة برؤوس الأموال والنفوذ والتوزيع الواسع، والسينما المستقلة التي تحاول جاهدة الحفاظ على مساحتها للتجريب والتعبير عن التحولات الاجتماعية العميقة في المجتمع الكوري.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listنفوذ السوق.. من يُشاهد ومن يُستبعد
تُظهر بيانات مجلس الفيلم الكوري "كوفيك" (KOFIC) أن شركات التوزيع الكبرى المرتبطة بسلاسل دور العرض مثل "سي جي سي جيه في" (CJ CGV) و"لوتيه سينما" (Lotte Cinema) و"ميغابوكس" (Megabox) تسيطر على أكثر من 85% من شاشات السينما في البلاد.
هذا الاحتكار يمنح الأفلام التجارية ذات الميزانيات الضخمة حضورًا واسعا على مئات الشاشات، في حين تكافح الأفلام المستقلة للعثور على مساحة عرض محدودة غالبًا في أوقات غير جاذبة للجمهور.
ووفقًا لتقرير لصحيفة كوريا هيرالد، فإن سبعة من كل عشرة أفلام مستقلة لا تسترد تكاليف إنتاجها بسبب هيمنة السوق التجاري.
السينما المستقلة.. صوت ما بعد الأزمة
برزت السينما المستقلة الكورية بعد الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، حين عبّر جيل جديد من المخرجين عن قضايا الفوارق الطبقية والبطالة والهوية الاجتماعية. وساهمت الدعمات الحكومية عبر مجلس الفيلم الكوري ومبادرات مثل "صندوق سينما جونجو" في تمويل هذه التجارب ومنحها فرصة الظهور في مهرجان بوسان السينمائي الدولي، الذي أصبح منصة رئيسية لصوت مغاير يحافظ على طابع السينما الكورية المستقلة في مواجهة هيمنة السوق.
إعلان
واقعية بصرية في مواجهة الترفيه الصناعي
تسعى السينما الكورية المستقلة إلى تقديم بديل فني مختلف عن الإنتاج التجاري المصقول من خلال أسلوب تصوير واقعي بعيد عن الزخرفة البصرية والاعتماد المفرط على التقنية. فهي تستخدم الكاميرات المحمولة والإضاءة الطبيعية ولغة سردية تقترب من تفاصيل الحياة اليومية، لتمنح صوتًا واضحا للهامش الاجتماعي وللشخصيات التي يغفلها التيار التجاري.
ووفقًا لتحليل موقع ستاتيستا لسوق السينما الكورية، أصبحت هذه الواقعية الاجتماعية بمثابة توقيع جمالي لصنّاع أفلام يرون في السينما وسيلة لفضح اختلالات المجتمع لا للهروب منها.
حكايات صغيرة بأصداء عالمية
حققت السينما المستقلة الكورية نجاحات نقدية لافتة أثبتت أن قوة السرد تتفوّق على ضعف الميزانية. من أبرز الأمثلة فيلم "ليلة كئيبة" (Bleak Night، 2011) الذي تناول العلاقات القاسية بين المراهقين، ونال إشادة نقدية واسعة ساهمت في انطلاق مخرجه نحو العالمية.
كما قدّم فيلم "هان غونغ-جو" (Han Gong-ju، 2013) معالجة مؤثرة لقضية العنف ضد النساء، وفاز بجوائز في مهرجاني مراكش وروتردام قبل أن يحقق نجاحًا محليا رغم حساسية موضوعه.
أما الفيلم الوثائقي "حبي، لا تعبر النهر" (My Love, Don’t Cross That River، 2014)، فشكّل ظاهرة استثنائية بعد أن حصد أكثر من 10 ملايين دولار داخل كوريا بفضل الترويج الشفهي دون الاعتماد على أساليب التسويق التقليدية.
ضغوط السوق ورقابة غير معلنة
ورغم هذه الإنجازات، تواجه السينما المستقلة ضغوطًا متزايدة داخل منظومة تجارية تُمارس رقابة غير مباشرة من خلال آليات التمويل والتصنيف العمري والتوزيع التي تميل لتجنّب القضايا الجدلية أو السياسية.
وذكرت صحيفة "الغارديان" أن استقلالية السينمائي الكوري غالبًا ما تُختبر عندما تقترب أعماله من الموضوعات الحساسة، مما يدفع بعض المخرجين إلى ممارسة رقابة ذاتية خوفا من منع العرض أو خسارة الدعم المالي.
حلول رقمية لمعادلة مختلّة
أحدثت المنصات الرقمية، وبينها نتفليكس وموبي، تحوّلا ملحوظًا في توزيع السينما المستقلة الكورية بعدما فتحت لها منفذًا عالميا أوسع من صالات العرض المحلية. ووفقًا لتقارير مجلة "فارايتي"، فإن المنصات أصبحت اليوم "المختبر الحقيقي للمواهب الكورية الجديدة"، إذ تستقبل أفلامًا لا تجد طريقها إلى الشاشة الكبيرة في كوريا قبل أن تعود محملة بزخم دولي واهتمام جماهيري.
كما أن اتجاهًا متزايدا نحو التمويل الجماهيري يمكّن الجمهور من المشاركة منذ مرحلة التطوير الأولى، ويضمن قاعدة متحمسة للفيلم قبل عرضه. وتوصي "كوفيك" (KOFIC) بتوفير مزيد من التشريعات التي تسهم في توسيع توزيع الأفلام المستقلة عبر تخصيص نسب إلزامية من الشاشات أو دعم حملات التسويق، لأن اختزال نجاح الفيلم المستقل في المهرجانات فقط يجعله معرضًا للاندثار.
ومع توسّع النقاش حول هوية السينما الكورية، بات التوتر بين جناحي الصناعة يعكس انقسامًا اجتماعيا أوسع في كوريا الجنوبية، التي تتأرجح بين قوة اقتصادية تكنولوجية صاعدة وواقع بشري مثقل بالضغوط النفسية وتفاوت الفرص. فسينما التيار التجاري، بميلها إلى البطولة الفردية والأعمال البوليسية وتاريخ المواجهة مع الشمال، تسوّق صورة وطن قوي ومتقدم، في حين تصر السينما المستقلة على الاقتراب من مناطق أكثر هشاشة: غرف الطلبة الضيقة، وعمال التوصيل، والنساء المعرضات للعنف، والمراهقون الذين يختفون عن الأنظار في مجتمع تنافسي لا يرحم.
إعلان
وتشير تحليلات نُشرت في جريدة "الغارديان" إلى أن نجاح السينما الكورية مستقلٌ تمامًا عن "النموذج الهوليودي"، فهي تبني قوتها على سرديات محلية، تحافظ على روحها الجماعية وتعيد فحص العقد الأخلاقية التي يتجنبها السرد التجاري. ولهذا، تجد السينما المستقلة جمهورًا متزايدا بين الشباب الذين يرون فيها تمثيلًا حقيقيا للحياة بعيدًا عن صور النجاح الاستهلاكي.
وتكشف منصات المشاهدة الرقمية عن مفارقة مؤلمة، إذ تحصد أفلام مستقلة مشاهدات واسعة عالميًا قبل أن تحصل على إتاحة فعلية داخل بلدها. ومع ذلك، يقول المخرج بونغ جون-هو إن "تنوع التجربة الفنية هو ضمان البقاء"، مما يجعل مستقبل السينما الكورية مرهونا بقدرتها على حماية هذه المساحات الهشة للابتكار، حتى لا يتحوّل صعودها العالمي إلى مجرد انتصار تجاري بلا روح.
السينما الكورية التي نافست هوليود لم تصل إلى موقعها عبر تجميل الصورة، بل عبر الجرأة على طرح الأسئلة التي تتجنبها السينما السائدة. لذلك فإن بقاء الصناعتين، التجارية والمستقلة، جنبًا إلى جنب ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان حيوية الثقافة السينمائية نفسها.
وإذا كانت السينما التجارية تعيش على مقياس الشباك والإيرادات، فإن السينما المستقلة تعيش على مقياس أكثر عمقًا، وهو مقدار ما تحرّكه من وعي اجتماعي وتغيّر من نظرتنا للعالم. في النهاية، تظل قيمة السينما في قدرتها على تخيل حياة أفضل، ولو لساعة واحدة في قاعة مظلمة، حيث يبدأ الحلم بعيدًا عن منطق السوق.

0 تعليق