تشهد أسعار الذهب العالمية ارتفاعا ملحوظا في الأشهر الأخيرة من عام 2025، متجاوزة في بعض الفترات مستويات لم تبلغها من قبل، مما أشاع اعتقادا سائدا بأن هذا الصعود ناتج عن موجة طلب استثنائية من كبار المشترين العالميين، وعلى رأسهم الصين.
إلا أن التدقيق في البيانات الرسمية الصادرة عن مجلس الذهب العالمي يكشف مفارقة لافتة؛ حيث تباطأت وتيرة مشتريات البنك المركزي الصيني إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2023، مما يطرح تساؤلا محوريا: ما الذي يدفع الأسعار للصعود إذن؟
تباطؤ أكبر مشتر مؤسسي
لقد ظن الكثيرون أن سلوك البنك المركزي الصيني، الذي أضاف نحو 19 طنا فقط إلى احتياطاته الرسمية خلال النصف الأول من عام 2025، هو الدافع الرئيسي للصعود.
إلا أن البيانات الحديثة تظهر تباطؤا حادا في الأشهر التالية، حيث لم يضف البنك في أكتوبر 2025 سوى حوالي 0.93 طنا فقط، وهي أدنى وتيرة شراء مسجلة منذ بداية عام 2023.
ويمكن تفسير هذا التراجع الصيني بعوامل منطقية:
تشبع استراتيجي: قد ترى بكين أن احتياطاتها الحالية كافية لمواجهة أي اضطرابات مالية أو جيوسياسية بعد موجة شراء مكثفة امتدت منذ 2022.
ترقب سعري: من المحتمل أن تنتظر الصين فرصة أسعار أقل كلفة، خاصة مع وصول الذهب إلى مستويات يمكن اعتبارها مكلفة للبنوك المركزية.
تعديل الأولويات: هناك مؤشرات على موازنة الصين بين دعم عملتها (اليوان) وتقليل الحاجة لتكديس المزيد من الذهب في المدى القصير.
العوامل النفسية والتقنية القائدة للصعود:
إذا كانت الصين تبطئ الشراء، فإن الإجابة تنبثق من مزيج من العوامل التالية:
الرواية السائدة والمضاربات النفسية: لقد تحول الخطاب الذي يقول: "الذهب لا يخسر" إلى عامل دفع نفسي قوي. تلك القناعة تشعل موجات شراء عالية العاطفية وقصيرة الأجل (FOMO)، مما يخلق طلبا ورقيا ليس بالضرورة طلبا حقيقيا أو صناعيا على المعدن الفعلي.
التحوط المبالغ فيه: دفعت الاضطرابات الجيوسياسية والغموض حول الانتخابات الأميركية الصناديق الاستثمارية للتحوط عبر الذهب، لكن هذا التحوط يتم في معظم الأحيان عبر العقود الآجلة وصناديق المؤشرات (ETFs).
دور السيولة وضعف العوائد: رغم محاولات الفدرالي تشديد السياسة النقدية، ظلت العوائد الحقيقية للسندات منخفضة، مما جعل بعض المستثمرين يتجهون إلى الذهب كبديل لحفظ القيمة، ولكن هذا الاتجاه مدفوع بالسيولة الفائضة وغير مستدام.
تأثير الدولار والخوارزميات: الذهب يتحرك عكسيا أمام الدولار غالبا. وقد شهد الدولار تفاوتا، مما دفع أسعار الذهب للارتفاع تقنيا. كما أن نسبة كبيرة من التداولات تتم عبر أنظمة آلية (Algorithmic Trading) تتفاعل مع اختراق مستويات المقاومة، مما يفعل أوامر شراء ضخمة تخلق "قفزات سعرية" دون طلب أساسي.
الذهب لا يصعد إلى الأبد:
يجب التذكير بأن الذهب ليس في مسار صعودي دائم، فقد احتاج بعد بلوغه ذروته التاريخية في 2011 إلى أكثر من 13 عاما ليستعيد مستواه.
وتشير التجربة التاريخية إلى أن كل قمة في أسعار الذهب كانت مقدمة لفترة هدوء طويلة أو تراجع تصحيحي. إن ارتفاع أسعار الذهب الحالي لا يعكس طلبا فعليا ومتينا، بل هو انعكاس لتضخم في التوقعات والسلوك الاستثماري القصير المدى، ورسالة الصين بتباطؤ مشترياتها تؤكد أن الأسعار الحالية ربما تجاوزت نطاقها المنطقي.

0 تعليق