"هجّان"… قربوا مربط "الحَفيرة" مني - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

تؤسس الافتتاحية، بالفيلم السعودي "هجان"، بشكل جيد للقصة، وتخبر المشاهد برِهان ما يوشك أن يقبل عليه، لقطة مقربة لخطوات بدوي، غائرة في الرمال، يتسع الكادر، إلى أخرى أوسع، تتضح صورة الرجل، ملامح بدوية أصيلة غير متكلفة بصريا، يخفت صوت الخطوات، الصوت البدائي، لصالح الكلام، اللغة المنطوقة وما لها من دلالات، الرجل يقف منشدا للأشعار، الكلمات التي تؤكد ثيمة الفيلم دون مواربة "الهجن معشوقة الهجان.. واللي تعلق بها يدري".

يصدح الرجل بالغناء بصوت عال، وسط سلسلة من الجبال الصخرية الشاهقة، بينما الريح تهب في الأثناء، هذا هو جوهر قصة فيلم "هجان"، المشهد التالي، لقطة قريبة من وجه مطر، الطفل البدوي الأسمر، يتمتم بالكلمات ذاتها القادمة من الماضي، ومن ثم يتقدم نحو حفيرة، الحوار الذي ظن الجميع أنه مات بعد أن ولد للتو، إذن، نحن إزاء عناصر الفيلم الرئيسية، الطبيعة الصحراوية الأم، الهجن، ومطر، والإنسان المتماهي مع كل ما حوله منذ الصبا، إنه في بيئته الطبيعية، متمسك وعاشق لها مهما كان، وإن بدا الأمر ضربا من الخيال للبعض، لكنه حقيقي وأصيل وصادق.

بناء على تأثير كولتشوف في السينما، الذي يخبرنا ببساطة بأن الصورة رهينة لما قبلها، أو بالأحرى رهينة لسياقها، يُفسرها ويعطي دلالتها، نرى الجبال الصخرية الشاهقة، الصحراء الملتهبة، المكان الفسيح الوادع، ومن ثم لقطة الهجن (الإبل) التي تستريح بكل هدوء في سفح الجبل، إنها حياة الهجان.

منذ البداية، يُظهر الفيلم براعة سينمائية تصويرية في منتهى الروعة، وتكوين اللقطات متقن وناضج، لا مكان للفراغات الميتة في الكادر، المكان يبدو بجمالياته الصحراوية، (تبوك، والعُلا، ورمّ، ونيوم) آسرا في مناظره الطبيعية، مما أغرى المخرج لاستخدام لقطات واسعة، لغرف أكبر قدر ممكن من المشهد، ومن ثم اللقطات الأقرب، والتي تشي بالمشاعر دون حشو أو تكلف، وهذا ما يذكرنا تلقائيا بفيلم ذيب للأردني أبو نوار.

إعلان

يلعب المكان دور بارز في القصة بالنسبة ل ذيب، وتشعر به كما لو أنه البطل، بينما جاءت القصة أكثر نضوجا ووضوحا في "هجان"، فبعد الانتهاء من الفيلم، تستطيع أن تخبر صديقا، دون صعوبة تذكر، بملخص الحكاية، وهو ما تواجه به صعوبة في ما يتعلق بـ"ذيب".

" frameborder="0">

هذه اللقطات الواسعة، سيدة اللقطات، ذات وقع أسطوري، شيء ما يقول لك إن "هجان"، الطفل، هذا الإنسان الصغير، بثيابه القريبة لونا من الصخور والرمال، منسجم ومتسق، شكلا وجوهرا، مع ما حوله.

القصة متماسكة إلى حد ما، الحوارات سلسة ومنسابة وملائمة وغير متكلفة أو مقتضبة، والممثلون، الذين في غالبيتهم وجوه جديدة، منخرطون بالأداء كما لو أنهم على أرض الواقع، الطفل مطر يصارع على أكثر من صعيد، معاركه الداخلية والخارجية، من جهة، يريد الانتقام لأخيه غانم الذي تسبب جاسر -الباحث عن ناموس السباق- بموته، ومن جهة أخرى يصارع لأجل أن يبقى مع حفيرة، وهي التي تعلق بها منذ لحظة ولادتها كما لو أنها ابنته، وليبقيها هي الأخرى على قيد الحياة، إذ يوشك أصحابها أن يبيعوها للذبح، فلا هي في النفير ولا هي مع البعير في المضمار، إن جاز التعبير.

وددت لو كان هناك، في الجزء الأول من الفيلم، بعض المشاهد التي تؤكد عمق العلاقة الخاصة بينهما لتؤسس لما بعدها من صراع، ولو كان هناك أيضا بعض التدريبات الخفية التي يقوم بها مطر على ناقته حفيرة من وقت لآخر، لكن أن تنافس حفيرة الهجن المدربات على الركض والتحمل، وتُحرز المركز الثاني، بهذا العنفوان، ومن أول سباق لها، فيحتاج إلى بعض المنطق.

يخلق إيقاع الفيلم المتناوب بعدا آخر ضمن اللعبة، فمن جهة سباق الهجن المنتظر، السريع والمتلاطم والهادر، بقوة الحيوانات ذات الرقاب الضخمة والخطوم الكبيرة، وإصرارها على التقدم وهي تعدو بقسوة وغضب، ومن جهة أعصاب المالكين، المشدودة والمتوترة، وهم يواكبون حركة الهجن، ويحثون المتسابقين من جوانب المضمار، بوتيرة مشدودة متزامنة مع كلام المعلق ومجاراته للرتم السريع، وأعصاب المشاهد التي تنشد كلما جاء مشهد السباق، ومن جهة إضافية، في الخلفية الواسعة الكبيرة، هناك البعد الجمالي الأوسع، هدوء وسكينة وثبات المكان، الجبال العملاقة المُطلة من عل، كما لو أن الصحراء تقول، أنا من خلفكم، الأم الرؤوم، لا تقلقوا، فإن ما يحدث من شرور، ما هو إلا زوبعة في فنجان.

يقدّم الممثلون أداءً صادقاً ومقنعاً إلى حد كبير، لا سيما الأداء القوي للنجم محسن النمر، والذي قدم دورا مذهلا منسجما تماما مع الشخصية المنوطة به
قدم النجم محسن النمر أداء قويا ودورا مذهلا منسجما تماما مع الشخصية المنوطة به (لقطة من الفيلم)

يقدم الممثلون أداء صادقا ومقنعا إلى حد كبير، لا سيما الأداء القوي للنجم محسن النمر، الذي قدم دورا مذهلا منسجما تماما مع الشخصية المنوطة به، ووجوده بفيلم يُعرض على منصات عالمية، سيفتح له، بالتأكيد، الباب على مصراعيه للولوج للسينما العالمية، المهتمة بالشرق، كذلك تألق الطفل عمر العطاوي، الذي حمل على عاتقه ثقل دور البطولة بنجاح كبير، وبلا أخطاء، الطفل الأسمر، الهادئ، والمقل بالكلام، فما جدوى الحديث وسط سماسرة السباق والمتحكمين بالمعطيات من الكبار، صمته من صمت ذلوله، إنه الفتى اليتيم، الذي يكلله الحزن والكآبة والشحوب، المتعلق بناقته، المؤمن بقدراتها، والذي يسوسها دون سوط أو عصا، رابط روحي بينهما كفيل بتحقيق الفوز، فأنت تقرأ كل شيء في ملامح مطر، في سكونه والحركات، في تعابير وجهه ونظرات العينين، التي لا تخيب، تماما كما هو الدور المطلوب من المحترفين، وهذا نجاح يضاف أيضا للمخرج شوقي، إذ إن الممثل روح المخرج، كما هو معروف.

إعلان

الفيلم طافح بالمشاهد ذات الدلالات القوية، مطر يكسر العصا التي قدمها له جاسر، رغما عنه، في تحد واضح له، وإرهاصة سيكون لها ما بعدها، كذلك فإن مطر وخلال هروبه من جاسر، على ناقته حفيرة، يدخل في شق صخري مظلم وضيق، لكن هناك ضوءا في نهايته، كما لو أنه الولادة الجديدة لكليهما، رغم العتمة، فإن مطر يمضي به قدما بملامح واثقة.

ثم إن حفيرة لا تخذله هي الأخرى، تقوده وهو مغمى عليه على ظهرها إلى مكان الماء، إلى استراحة نائية، يتحول الفيلم من منافسات السباق وأجوائه المحمومة، إلى رحلة البطل الهارب، المحفوفة بالمخاطر، طبقة إضافية تبرز جمال المكان الذي لا ينضب، وتضيف بعدا دراميا آخر للقصة. لكنها طبقة تكاد تكون هشة قابلة للعزل، لم أكن لأفضلها.

فبالنسبة إلى السيناريو، لا يعقل أن تنمو "حفيرة"، من حوار عمره ساعات، شاهدناها في البداية لحظة ولادتها، إلى ناقة بعمر 6 أو 7 سنوات على الأقل، بينما يبقى مطر على هيئته التي ظهر بها إلى جوارها، صبي في الـ12 من عمره ربما، ثم لماذا لم يتم تدريب حفيرة، كغيرها من الإبل لتدخل غمار سباقات الهجن، في مكان لا يشغل بال أصحابه إلا هذه السباقات وحيثياتها، تترك هكذا رفقة مطر، دون سبب يذكر.

فيلم هجان (لقطة من الفيلم)
الطفل عمر العطاوي (لقطة من الفيلم)

كذلك فإن الفتاة التي ظهرت في نهاية الفيلم، كانت إقحاما مباشرا، وددت -فنيا- لو لم يكن على هذا النحو، لو كان هناك تمهيد ذكي، بعض الإرهاصات والغرس المبدئي، أما أن تخرج الفتاة هكذا بمشهد أسطوري، كفارسة من فارسات ليالي الصحراء، لم يكن موفقا على الإطلاق، وإن حمل دلالات واضحة ومباشرة لدور المرأة المتقدم في المملكة، فالمرأة السعودية تنخرط منذ البدايات، ولها دور حيوي ومهم في كل مناحي الحياة، ولا تأتي على نحو مفاجئ، فقط لأجل الدلالة.

أقدر الحاجة الماسة للحبكة المتماسكة في أي قصة تُسرد، لا سيما تلك الأفلام التي تنافس على شاشات المهرجانات العالمية، ومن يشتغل بكتابة الأفلام الروائية الطويلة، يدرك مدى صعوبة تحقيق الأمر على أكمل وجه، ناهيك عن صعوبة التصوير مع الأطفال وصبرهم النافد، في أكثر الأماكن حرارة على وجه الأرض، ومن ثم التحكم بالجمال وأمزجتها، وربما إعادة المشاهد في كل مرة، هذه تحديات كبيرة جدا أمام فريق الإنتاج، الذي تغلب عليها بإبداع منقطع النظير.

فيلم هجان، فيلم عائلي عربي بامتياز، فيلم يُشبه بيئته إلى درجة كبيرة، فيلم بهامش خطأ قليل لا يُذكر، فيلم ناجح جدا وجميل وممتع، وبتقييم جيد جدا على أفضل مواقع التقييم السينمائي (7.1 من 10).

هجان يُشكل تقدما لافتا يُضاف إلى السينما السعودية، التي بدأت تُتحفنا بأفلام متنوعة وليست ذات طابع واحد، هذه السينما المنطلقة بقوة دون تهور، التي بدأت تدخل مضمار صناعة الأفلام، لا على الصعيد الإقليمي وحسب وإنما على نطاق أوسع، ينعكس على صناعة الأفلام في المنطقة، لتخوض فيه الحركة السينمائية السعودية المنافسات، بكل اقتدار، وبقصص محلية متماسكة ذات طابع إنساني متفرد، أصيل ومعاصر في الآن ذاته، تماما كما هو هجان.

0 تعليق