Published On 21/11/202521/11/2025
|آخر تحديث: 12:44 (توقيت مكة)آخر تحديث: 12:44 (توقيت مكة)
غزة- كانت هدى كشكو تُعدّ فطائر "الدونات" لصغيرها سالم استعدادا ليوم ترفيهي أعلنت عنه الروضة احتفالا بيوم الطفل العالمي الموافق لـ20 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام. يلتف حولها طفلاها سالم وماريا كغنيمتين صغيرتين أفلتتا مؤقتا من حرب التهمت معظم ما تحب.
في غرفة نزوحها بمقر الأوقاف في حي الزيتون، حيث استقرت بعد العدوان الإسرائيلي لأنها لم تجد في بيتها مترا صالحا للعودة إليه، ظنت هدى أنها أخيرا التقطت أنفاسها بعد حرب طاحنة. يحيط صغيراها بالطاولة، يمدان أصابعهما إلى العجين ويضحكان، في لحظة دافئة بدت كأنها حلقة النجاة الأخيرة.
لكن غارة لم تُمهل العجين ليختمر ولا الفرح ليكتمل، حيث ابتلع لهيبها كل شيء، واستُشهد سالم فورا، أما ماريا فظلت مفقودة حتى صباح اليوم الذي يحتفل فيه العالم بالأطفال، ليجدها الدفاع المدني جثة قرب ألعابها بعد أن دلتهم الأم من على سرير الإسعاف "ماريا كانت تلعب في تلك الزاوية، ابحثوا هناك".
عجز وانهيار
تكوّم جسدا الطفلين داخل كيس أبيض من النايلون لا يشبه مقياس طفولتهما على أرض المستشفى، في حين ترقد هدى على سرير العلاج من كسور ورضوض ألمت بها بعد أن انهارت عليها جدران المكان.
جلسنا بجوارها فما كان منها إلا أن تنادي طفليْها من أعمق نقطة في قلبها، وترتجف "يمّة.. يمّة"، تشخص ببصرها نحو الوجوه حولها، ثم تبوح بعجز يشبه الانهيار تماما "لا أشعر بقلبي، قهر، وجع".
ولمّا سُئلت عما يعنيه يوم الطفل الآن، انفجرت دمعاتها وهي تقول بصوت متقطع "بأي طفل يحتفلون؟ لقد قتلوا طفليّ الاثنين في يوم الطفل العالمي".
يومٌ كانت أمنية هدى البسيطة فيه أن تمنح سالم بعض الفطائر المحلاة ليحتفل مع أصدقائه لا أكثر، لكن الأمنية صارت مستحيلة، وصار اسما سالم وماريا رقمين جديدين في قائمة تتمدد وهي تضم أكثر من 20 ألف طفل قُتلوا في حرب الإبادة، بحسب إفادة المكتب الإعلامي الحكومي للجزيرة نت.
في المكان نفسه، وتحت الغارة ذاتها، كانت الطفلة حلا أبو سمرة تبحث عن عائلتها بين أجساد ممددة على أرض المستشفى. تحدق في الوجوه مرة واثنتين وثلاثا، كأنها تريد أن تعيد لهم الحياة بالنظر وحده، قبل أن تتعرف عليهم أخيرا.
إعلان
بالكاد تعرفت على والدها فوجهه محروق، صرخت كأنه خيط نجاتها من فم الموت، واقتربت منه لتقول "بابا أنا حية لا تخاف"، ثم بحثت عن أمها وشقيقتيها طويلا، فلم تجد سوى أسمائهن مكتوبة على أكفان بيضاء.
بعد ساعات قابلناها، وكانت الفاجعة قد أقعدتها وشلت لسانها، فلم تنطق إلا بكلمات أكبر من عمرها بكثير "ما ذنبي؟ لماذا عليّ أن أعيش يتيمة؟ لماذا؟ كيف سأعيش بلا أمي؟ كيف؟".
غزة تسجل عشرات الآلاف من الأطفال اليتامى نتيجة الحرب الإسرائيلية على القطاع#حرب_غزة pic.twitter.com/hg9jN5dw97
— قناة الجزيرة (@AJArabic) September 6, 2025
أسئلة بلا أجوبة
أسئلة كثيرة مفتوحة بلا إجابات يسألها الأطفال المحرومون من النجاة في قطاع غزة، فلم تكن لحلا أمنية أعقد من أن تكبر بجانب والدتها، لكن إسرائيل انتزعتها من دفء حضنها للأبد، وهي واحدة من نحو 56 ألفا و350 طفلا فقدوا أحد والديهم أو كليهما في هذا العدوان، في واحدة من أضخم موجات اليُتم التي خلّفتها حرب واحدة في العصر الحديث.
وإن كان الموت قد خطف أطفالا في لحظة، أو خطف منهم أمانهم، فإن أطفالا آخرين تُركوا أحياء لكن بحياة ناقصة، كالتوأم محمد وأكرم جندية اللذين يبلغان عاما وأربعة أشهر، وقد وُلدا قبل موعدهما بأسابيع بعدما استنشقت أمّهما غازا ساما خلال الحرب، فأصيب كلاهما بضمور في الدماغ ونقص حاد في الأكسجين.
منذ ذلك اليوم، لم يعرفا من الطفولة سوى سقف خيمة نزوح غرب مدينة غزة، فقد ولدا في مجاعة وفقر بلا حليب ولا حفاظات ولا غذاء ولا بيئة صحية يمكن أن توقف تدهور جسديهما، رغم أنهما حصلا على تحويلات علاج في الخارج منذ شهور، وفق ما قال والدهما سعدي للجزيرة نت.
لا يتمنى الوالدان في يوم الطفل العالمي سوى فرصة واحدة يمنح فيها صغيراهما الحق في العلاج ليعيشا مثل باقي الأطفال، لا أكثر. لكن في قائمة انتظار تضم أكثر من 5200 طفل يحتاجون إلى إجلاء طبي عاجل لإنقاذ حياتهم، تُغلق إسرائيل الأبواب والمعابر في وجوههم جميعا.
حقوق لم يُبق الاحتلال منها شيئا إلا وداس عليه، ففي ملعب فلسطين الذي يتكدس فيه النازحون الذين لا يملكون في هذه المدينة سوى خيمة يأتون إليها بعدما جرّدتهم الحرب من كل شيء، تتساقط الطفولة بين أزقة الخيام، أطفال كبرت أكتافهم وعقولهم قبل أعمارهم، تحمل وجوههم أسى لطختهم به حياة التشرد، يبدو الضحك نادرا واللعب مسألة ثانوية، فقد حَمّلتهم الحرب عبئا أثقل منهم، فصنعت من إناثهم أمهات، ومن ذكورهم رجالا.
أحلام الطفولة
تحمل بنان عصا خشبية، ترسم على الرمال بيتا تحلم أن يكون فيه مأوى تحتمي به، وسريرا تنام عليه، وتلفازا تشاهد عليه أفلام الكارتون، ومكتبا تخط عليه أحلامها الصغيرة، لكنه مجرد سراب بعيد المنال.
قريبا منها، طفل آخر يمسك كسرة خبز يابسة في يده، ويحمل في عينيه فقرا وقهرا. سألناه "بوصفك طفلا، أنت تعيش في هذا العالم الواسع، ما هو حلمك اليوم؟"، أجاب بصوت هادئ "أريد أن آكل الدجاج واللحم". أمنية تبدو بسيطة في أي مكان، لكنها هنا في قطاع غزة، حيث الأسعار تفوق قدرة معظم الأُسر، تبقى حلما لا طاقة لهم به.
يدخل ثلاثة أطفال إلى بوابة مركز الإيواء، يحملون حقائب على ظهورهم، يشقّون طريقهم إلى خيمة تعليمية منصوبة في أطراف الملعب، يحاولون استدراك عامين ضاعا من حياتهم بلا تعليم.
إعلان
يحلم كل واحد منهم بحياة تختلف عن واقعه، إبراهيم أبو الخير يريد أن يصبح طبيبا، أما أحمد فيطمح أن يكون شرطيا، والآخر يسعى لأن يكون معلما، يحفظ كل منهم حلمه في داخله كبذرة صغيرة يروضونها لتكبر وسط الركام.
"هل تحبون غزة؟"، سألتهم الجزيرة نت، فجاء الجواب على لألسنتهم بصوت واستنكار واحد "طبعا.. بلادنا"، يقاطعهم أخوهم إبراهيم "كيف ما كان شكلها سنبقى نحبها"، فقد تكون الحرب نجحت في حرمانهم من الحياة وما يمت إليها بصلة، لكنها لقنتهم معنى أن تصارع من أجل وطن تحمله في قلبك وعلى كتفيك.

0 تعليق