كتابة الذات وشعرية النثر في تجربة أمجد ناصر - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

(1)

غلبت هوية أمجد ناصر الشعرية على ما عداها من مجالات إبداعه وعطائه، وهو أمر طبيعي في ضوء أعماله الشعرية المبكرة منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، وقد فرضت له تلك الأعمال موقعا متقدما بين شعراء جيله، لا سيما في سياق تطور قصيدة النثر العربية، على أيدي الجيل الثاني والثالث من شعرائها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

وقد جاء النثر في المرحلة الثانية من تجربته أي من نحو منتصف التسعينيات عندما بدأ انشغاله بالنثر يتوسع. وتتصل هذه الإشارة الزمنية أيضا ببعد آخر يتمثل في ارتباط النثر عنده بمرحلة النضج والخبرة، بما في ذلك الاستناد إلى مرجعيته وشخصيته الشعرية التي تولّاها بالصقل والرعاية.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

فإذا عددنا الشعر جذرا أو موردا جوهريا في شخصية أمجد ناصر الإبداعية فإن هذا المورد قد ظل رافدا حيويا من روافد كتابته النثرية، على مستوى أدواته وطاقته التشكيلية واللغوية وعلى مستوى المنظور الشعري للعالم؛ أي معاينة العوالم التي ارتادها النثر بمنظور شعري لا نشك في مكانته وأثره الفاعل في تلك المدونة النثرية التي ظهرت ونمت في صورة كتب متتابعة لا يقل عددها في المجمل عن عدد دواوينه.

ويشير هذا البعد الكمي ومتابعة التجربة النثرية إلى قدر من التحول والتوسع في مسيرة التجربة، وأن الكاتب/الشاعر قد وجد بعض ضالته في ألوان وأنواع بعينها من النثر تتسع لما يريد التعبير عنه من تجارب وموضوعات ومجالات جديدة، من دون أن يتطلب ذلك أن يتوقف عن تطوير قصيدته ونشر أعمال شعرية جديدة.

وهو أيضا ما نلاحظه في مسيرة أمجد ناصر، فقد أصدر عدة دواوين شعرية في هذه المرحلة التي تركز فيها نشاطه أو إبداعه النثري.

ومن مهمّة هذه الإطلالة التنبيه على أهمية تجربته في كتابة النثر، ومحاولة معاينة المعالم الرئيسية في هذه التجربة، وعلاقتها بتجربة ناصر ككل، كتابة وثقافة وحياة. يمكن ابتداء معاينة هذه التجربة من خلال عدد من الإصدارات والكتابات النثرية، وتشمل الأعمال الآتية:

إعلان

خبط الأجنحة: سيرة المدن والمقاهي والرحيل، دار رياض الريس، بيروت-لندن، 1996. تحت أكثر من سماء: رحلات إلى اليمن، لبنان، عُمان، سورية، المغرب، وكندا، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2002. طريق الشعر والسفر، (شهادات)، دار رياض الريس، بيروت- لندن، 2008. الخروج من ليوا، يليه في ديار الشحوح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2010. رحلة في بلاد ماركيز، كتاب دبي الثقافية، الإمارات العربية المتحدة، 2012. بيروت صغيرة بحجم راحة اليد: يوميات من حصار عام 1982، الأهلية، عمّان، 2012. خذ هذا الخاتم، دار الآداب، بيروت، 2014.

وفي الرواية نشر عملين لا يخلوان أيضا من الأبعاد السيرية والذاتية، ولكن في سياق روائي-تخييلي يرتكز بصورة أقوى على إمكانات الرواية وقدراتها في تقديم تجربة مترابطة ممتدة:

حيث لا تسقط الأمطار، دار الآداب، بيروت، 2010. هنا الوردة، دار الآداب، بيروت، 2017.

وله إلى جانب هذه المؤلفات المنشورة في كتب، عدد كبير من المقالات والقراءات والحوارات والدراسات في مجلات ودوريات وصحف ومواقع إلكترونية على امتداد العالم العربي، وهذه المادة النثرية محتاجة إلى الجمع والتصنيف لتأخذ مكانها في سجل أعماله ومسيرته.

مجموعة من كتب امجد ناصر
كتابات ناصر النثرية تدمج بين السيرة الذاتية وأدب الرحلة، حيث تبرز أماكن وأزمنة تحمل ذكرياته الحية، مع صور شعرية غنية تجذب القارئ بتأملاته الإنسانية (الجزيرة)

(2)

كتابة الذات

ونركز الاهتمام هنا على ما يدخل في "كتابة الذات" بوصفها تسمية واسعة لصنف من الأدب يغلب أن يكون نثريا، كما يمكن أن تكون إطارا أو مظلة لمختلف الكتابات النثرية ذات المنبع السير-ذاتي.

تتأسس هذه الكتابة على الانطلاق من الذات وقوة حضورها وتمثيل خبرتها وطرائق معاينتها ومباشرتها للعالم الخارجي؛ إنسانا أو مكانا أو زمانا.. ونرى أن كتابات أمجد ناصر النثرية هي في مجملها ألوان من تمثيلات كتابة الذات، ويمكن لتلك الكتابات أن تُسهم في تطوير توصيفنا وتصنيفنا لهذا النوع من الكتابة، وذلك للقيمة الرؤيوية والفنية التي تنطوي عليها أعماله النثرية، والتجربة الإنسانية الرفيعة والعميقة التي تقدمها.

وفي إحدى شهاداته يتحدث الأديب الراحل عن هذه التجربة محددا بعض معالمها:

"في لندن انفتحت لي طريق النثر، النثر الذي سأسميه، تجاوزا، أدب الرحلة والأمكنة. ما كتبته عن الأردن، مثلا، لم يكن أقل إثارة للأسئلة وكشفا لمناطق الظل، مما كتبته عن كندا، مراوحتي في المكان الأليف عرضت لي وجها منه ومن نفسي لم أتوقف عنده من قبل، باعتباره مفروغا منه ومسلما به".

(أمجد ناصر، طريق الشعر والسفر).

أما مرحلة لندن فتقع في المرحلة الثانية من تجربته وتؤكد التحديد الزمني للخوض باتساع في النثر الذاتي، وأما تسمية "أدب الرحلة والأمكنة" التي اقترحها الكاتب هنا – مع قدر من التحوّط والبعد عن القطع أو التأكيد – فتدلنا على مكونات أساسية تشمل أبعاد: الإنسان والمكان والزمان.

فالرحلة في جوهرها تجربة يقوم بها المرتحل في برهة زمانية معينة، مستهدفا مكانا محددا يحاول أن يتعرف إليه أو يصفه أو يعاينه، إنها ضرب من التجوال الذي يسمح بلقاء الإنسان مع المكان والزمان.

وتكون الكتابة هنا حقا أدب رحلة وأدب مكان في الوقت نفسه، وتغدو الكتابة هي الصيغة التي يقدّم فيها الإنسان مرافعته أو "تقريره" مثلما كان الرحالة العرب والغربيون يقدّمون تقارير رحلاتهم، مع فارق جوهري أن كاتبنا لا يقدّم تقريره لأحد، فما من سلطة أو جهة كلفته أو انتظرت ملاحظاته، وإنما هو شغف ذاتي منشؤه أسئلة الذات وميلها إلى التجوال والترحال، وهو كذلك مطلب الذات لإشباع معرفتها وأسئلتها، وتبعا لذلك فإن "تقاريره" جاءت بصيغة أدب الذات وتمثيلاته الفريدة.

إعلان

وقد تنبه الكاتب إلى انتقاله إلى نثر جديد مع كتابة الرحلة والأمكنة:

"عندي ميل للنثر أو لأقل بدقة: صار عندي ميل متعاظم للنثر، ليس نثر القصيدة ولكن النثر العريض الذي بمقدوره استضافة موضوعات وأسئلة لا تبدو القصيدة قادرة عليهما. فكانت الرحلة أو كتابة الأمكنة، وهي أيضا رواية من نوع ما، ففيها: المكان والزمان والشخوص والحكاية المتصلة أو المقتطعة. المختلف في هذه الرواية عن الرواية (كجنس أدبي معلوم) أنها رواية الحقيقة".

(أمجد ناصر، طريق الشعر والسفر).

طريق الشعر و السفر أمجد ناصر
كتاب "طريق الشعر والسفر" يقدم تأملات أمجد ناصر في كتابة الذات وأدب الرحلة، حيث يمتزج النثر بالشعر والتجربة الإنسانية (الجزيرة)

نستطيع استنادا إلى هذه الرؤية سبر ما فكّر فيه وهو يتأمّل نقلته الموسّعة إلى نثر الذات وكتابتها المختلفة عن كتابة القصيدة، ونتبين أيضا عنصرا مهما في مثل هذه الكتابة هو ما سمّاه "رواية من نوع ما" أو "رواية الحقيقة" ونترجم هذه الإشارة بالعنصر السّردي المهم الذي يعد عماد كتابة الرحلة والمكان.

لا بد من نسج حكاية ولا بد من تشويق يتأتى من خلق أجواء الغموض ومن الاستباق والإرجاء، ولا بد من حضور تقنيات سردية متعددة للربط بين أجزاء الصورة المكانية وتحويلها من بعدها المرئي إلى ما يسمح برؤية الحياة فيها بكل ما تنطوي عليه من عناصر مخبوءة، إلى جانب الحبكة التي لا بد أن يخترعها وينميها الكاتب لتكون إطارا يسمح بحركة العناصر وتناميها.

أما مصطلح "رواية الحقيقة" فيذكّر من جهة ما بالمرجعية الواقعية-التاريخية لمادة الرحلة تلك المرجعية التي تتفاعل مع ما تسمح به الرواية من تخييل، وكل ذلك يوصلنا إلى ضروب من "التخييل الذاتي" الذي يتراءى بقوة في الكتابات الذاتية المعاصرة.

ومع أنه يتأسس على قول "الحقيقة" شأن الكتابة السيرية لكنه لا يلتزم أو يتعهد بميثاقها، بل يبدأ منها ولا ينتهي إليها، ذلك أنه يقتضي التذكر والتأمل والتفكير في المآل، ويحاول أن يرمّم الفراغات ويملأ الفجوات، ويخترع شخوصا وأحداثا وتفاصيل، ويبتدع أسئلة جديدة تثري الرحلة أو المادة التي يتناولها.

وكل ذلك يتيح للنثر الذاتي ونثر الرحلة بوجه خاص أن يتوسّع ويمتدّ، ولا يبقى حبيس إطاره الغنائي الأوّلي، بل يتاح له أن يُعانق خبرات جديدة، ويُجادل في مسائل معرفية، ويتفلسف بطريقة حدسية تذكّر بظاهراتية باشلار وغالب هلسا، وربطهما بين الشعر وذاكرة المكان، والاجتهاد في اكتشاف طاقته القصوى في استكشاف شعرية الأمكنة والتفاعل مع ذكرياتها خصوصا بيت الطفولة وما يستجلبه من حنين لا تتوقف الذات عن تعبئته وإعادة إنتاجه وإسقاطه أحيانا على كل البيوت اللاحقة عبر مقارنات شاقة تجعل السبق والأفضلية من حقّ ذلك البيت دون ما عداه.

ومما يربط الرحلة بالذات ويكشف عن موقع "الأنا" في مساراتها ومناطق تجوالها قول الكاتب:

"في الرحلة يكتشف المرء ذاته كما يكتشف الآخر..فبقدر ما تكون الرحلة مغادرة لألفة الذات لملاقاة الآخر وذلك نوع من السفر الأفقي فهي كذلك غوص في الذات سفر عمودي فيها"

(طريق الشعر والسفر).

فالمعتاد في الرحلة التقليدية أنها اكتشاف للآخر وأمكنته، ولكنها في منظور أمجد ناصر تتوسع لتشمل معرفة الذات (في الرحلة يكتشف المرء ذاته) وهذا يعزز انتماء كتابة الرحلة في تجربته إلى دائرة كتابة الذات، ويعزّز ما نقترحه من سبل لقراءتها والحوار معها بوصفها نوعا فرعيا من أنواع كتابة الذات.

ثمة تحوير أجناسي في هذا المقام، وهو تحوير محمود ومشروع، لا يستند إلى مغامرة شكلية أو مجرد رغبة في التجديد، وإنما جاء استجابة تلقائية لرؤية الكاتب وطريقته في كتابة رحلاته، ليغدو جنس الرحلة في تلك الكتابات أقرب إلى الذات من الموضوع، أو هو تفجير الموضوع في مختبر الذات.

ولعل هذا المنظور الذاتي في رحلات أمجد ناصر ومعاينته لأمكنته من أبرز ما يميز كتابته ويفرقها عن كتابات الرحلة قديما وحديثا، تتوسع فيه الرحلة فتغدو رحلة ذاتية لا عمومية، ولا يمتلك المكان وجودا مستقلا عن المنظور الذاتي وتفاعله مع المكان وقراءته له.

الرحلة في هذا المقام لون من ألوان كتابة الذات في المكان، مما يصح أن ندعوها رحلة سيرية أو ذاتية، أو رحلة سيرذاتية إذا غلبنا عنصر السيرة أو أردنا إنصافها. إنه تجوال من طرف ما بين هذه الأجناس والأنواع واستفادة قصوى من طاقاتها دون الالتزام بأبنيتها النمطية الثابتة في صورتها الأجناسية الأولى.

أمجد ناصر .. خذ هذا الخاتم
يستعرض أمجد ناصر في "خذ هذا الخاتم" رحلة ذاتية تجمع الشعر بالسرد، حيث تتحول الرحلات إلى تأملات في الذاكرة والذات (الجزيرة)

(3)

خذ هذا الخاتم

يمكن أن نتأمل هذا الكتاب المختلف، لنعاين الرحلة الذاتية في فصول متتابعة متداخلة، يزور الكاتب أماكن أردنية، كثير منها ينتمي إلى الجغرافيا التي ألفها قديما، أي في الصحراء الشرقية والشمالية، التي يقع فيها بيته وموطنه الأول والأخير، إنه ضرب من تجوال "المهاجر الذي يحل ضيفا على ذاكرته" مثلما يصفها أمجد ناصر في الكتاب نفسه.

إعلان

يحمل الكتاب عنوانا شعريا (خذ هذا الخاتم) كأنه عنوان قصيدة، فيه الأمر/الطلب الذي يحمل معنى يقرب من الالتماس والرجاء، وربما الحث والتشجيع، وعندما نقرأ النص الافتتاحي الذي يشكل تمهيدا أو توطئة للكتاب تتضح صورة الخاتم المقصود، وتزداد مع اتضاحها عمقا وتركيبا، يقرب هذا التمهيد أن يكون قصيدة تفصّل عنوان الكتاب وتشرحه، وتقول لنا قصّته بلغة شعرية تخييلية ذاتية الطابع:

"هذا خاتم آخر. خاتم مختلف.ولتكن قاعدته من فضة مغبرّة، وليكن مفلطحا بعض الشيء، غير أنك متفائل بحجره الخام الذي قطعه صانع لم يعد يشم، أغلب الظن، رائحة القهوة التي تشمها الآن، في مقهى يضج بأصوات ما تني تتلاشى. كلا، ليس الخاتم القيرواني الذي كاد جهلك بطغرائه يوردك مورد الهلاك، إنه خاتم آخر. خاتم مختلف. ترى في حجره الأزرق الكابي صورة جانبية لامرأة مقرفصة على هيئة غزالة معمرة، وتسمع، ما إن تحكّه بردن قميصك، رجع وعود لم تنجز قط، يمكنك، كذلك، أن تلمس على سطحه المخشرم تكوينا لدمعة ما تلبث أن تصبح قبّرة تطير بلا اجنحة. هذا خاتم آخر. خاتم مختلف، اشتريته من بائعة جوالة، قالت لك إنه استفتاح كريم: خذه ولن تندم".

(خذ هذا الخاتم).

فهذا المُفتتح أقرب إلى قصيدة نثر، في طريقة تقسيم الجمل، والتقديم والتأخير واستعمال الجمل المعترضة، لتؤدي وظائف إيقاعية ودلالية، إلى جانب طريقة الشعر في تناول التفاصيل وصياغة الصور.

وفي الفقرة ضرب من سردية تلك القصيدة وروحها الحكائية، فثمة حكاية أو موقف قصصي يتمثل في عرض البائعة خاتما على المتكلم/المروي له وتحضّه على شرائه، بل في الفقرة خاتمان، الخاتم القيرواني، وهذا الخاتم الموصوف هنا والمشروحة قصة الحصول عليه، والأسرار الخبيئة التي يخفيها، وهي التي اقتضت أن يصلح محركا لمثل هذه القصيدة الافتتاحية.

الخاتم أيضا بالاستناد إلى ذاكرته الأسطورية يخفي طبقات من الغموض والسحر والانتقال من حال إلى حال، الخاتم مفتاح للحظ ولعالم مطمور أو خفي، وهذه المعاني وغيرها تجعل للجملة الطلبية: خذ هذا الخاتم، معنى ممزوجا بمفعول السحر والشعر والكهانة، ومن هذا المعنى ينشأ أفق توقع ينشد استضافة عناصر دلالية تحمل الأحجية وتدل على حلّها أيضا.

وفي الكتاب نفسه، يحافظ الكاتب على افتتاح الفصول بمثل هذا المذهب الشعري، أو ما يقوم مقامه من عتبات ومقدمات، فيما يمثل لونا من ألوان الافتتاح بالمجاز الشعري وما يتطلبه من تأويل، وتدقيق في القراءة، وما يضفيه من آثار ذاتية وغنائية على المعنى، وعلى الرحلة التي يسهب الفصل في قصها وتقديمها.

تشمل هذه العتبات: نصوصا من قصيدة النثر أنشأها المؤلف نفسه، وتشمل كذلك أشعارا اقتبسها من الشعر الجاهلي القديم، ومن القصيد البدوي (الشعر النبطي).

وفي النص المطبوع ظهرت هذه العتبات بصورة خط بارز أسود لتتمايز عن النص النثري-السردي الذي يليها، وتنهض بدور فني وموضوعي يسهم في مسألة تلقي النص، وفي إثارة جو من الغموض والتشويق عبر إضفاء معنى أدبي/معرفي يؤطر الرحلة ويعزز معناها وبناءها ويغدو عنصرا تمهيديا لسردها الممتد.

بني الكتاب في صورة فصول مرقمة بأرقام تسلسلية (بالأرقام الرومانية) ولكن من دون عناوين فرعية، توضح موضوعاتها أو رحلاتها، عليك أن تقرأ لتعرف بعد لأي وتأمل طبيعة المكان والرحلة الموصوفة إليه.

وغياب العناوين ووجود العتبات التمهيدية لكل فصل، وتقاربها في بعض الأحيان، أدى إلى نوع من التماسك والترابط في الكتاب كله، بالرغم من أننا إزاء مجموعة من الرحلات إلى أماكن مختلفة، ولسنا مع رحلة واحدة، ولعل هذا الترابط وهذه الروح الموحدة التي تشمل الكتاب كله تقوي تسميته بتلك التسمية البارزة المثيرة للانتباه: خذ هذا الخاتم!

منحى آخر مميز في هذا الكتاب يتمثل في استعمال ضمير المخاطب، وهو منحى سردي لافت ودال، فالسرد بضمير المخاطب يُظهر المروي له، ويبرزه إبرازا مقصودا، وحين نتقدم في قراءة النص نتأكد أن المخاطب هو أقرب إلى تلك التقنية القديمة التي يطلق عليها تسمية "التجريد" تلك التي كان الشاعر القديم يخاطب نفسه من خلالها، فيغدو المتكلم والمخاطب وجهان لشخص أو كائن واحد هو الكاتب/الشاعر نفسه.

ولكنه ينتقل من من ضمير المتكلم إلى المخاطب، مما يمنح النص صفة التأمل، والمراجعة، واصطناع الوضعية الدرامية الموضوعية، وتغدو اللغة الشعرية مرآة أو كالمرآة التي يتاح للكائن أن يتأمل ذاته فيها.

" frameborder="0">

(4)

الرحلة إلى البيت

بداية الرحلة/الرحلات هي الوقفة المؤثرة عند البيت، بيت الشاعر أو بيت أهله، إنه يعود إلى بيت طفولته بعد غياب، ولذلك فليس غريبا أن يقع في فخاخ الرائحة والتفاصيل التي تستثير الحنين العابر للأزمنة، وليس غريبا أن يدخل إلى الرحلة من بوابة الذات، بهذه اللغة الغنائية المجبولة بالحمولة العاطفية التي تشبه عناقا باكيا بعد فراق:

"البيت ذو الروائح السبع، ساحة اللعب الترابية بين أباريق الوضوء، ومطارق الأعمام الرفيعة، أعمدة الكهرباء التي قرأت تحت نورها العمومي روايات عن السفر والموت حبّا على قدم واحدة، النافذة ذات الدرفتين الخشبيتين التي تتمشط أمامها بنت ستخرج عما قليل بمريول مخطط بالأخضر وذيل فرس….".

(خذ هذا الخاتم).

فهذه الصورة الوصفية بجملها الاسمية، وبارتكازها على بنية التعداد، وبإسقاط أدوات الربط والعطف، تشحن الأسلوب بالتدفق دون إعاقة، ونحار أيزور الشاعر البيت أم يزور ذاكرة البيت؟ فالصورة تنطق الاثنين، الراهن والذاكرة في آن!!

وفي صورة أخرى يتساءل أو يضع البيت في زمنيه موضع السؤال، كما يوسع معنى البيت بالتدريج ليتسع لما حوله من الصحراء، فيغدو البيت مركزا لمحيط أوسع ستشمله الرحلة في فصولها اللاحقة:

إعلان

"ما الذي تبقّى من ذلك البيت، من جوار قديم، من البداوة والصحراء و"الأصالة" في أزمنة توحّدها، عنوة، علامات مسجلة صارت أيقونات طائرة لعصرك اللاهث؟ أكانت تلك الصحراء التي انحفرت طبوغرافيتها المضللة في أقدام طفولات حافية، صحراء فعلا؟ بلا أثر لحيوات قديمة في مدى يبدو لمن يراه، أول مرة، غير قابل للحياة والسّكنى؟".

(خذ هذا الخاتم). (1/ص10).

وتستدعي الرحلة إلى البيت حضور شخصيات مهمة: الأم، الأب، بعض أفراد الأسرة، وفي محيطه الجيران والأقارب، أي أن المكان يتفرع إلى شخصيات مرتبطة به، ولا ترد هذه الشخصيات بالطريقة السردية المفصلة وإنما عبر مواقف محدّدة غالبا ما تنتمي إلى التفاصيل والجزئيات، كما في استطراده مع لفظة بدوية سمعها وحفظها من معجم أمّه هي كلمة (الثفال) التي كانت تطلق عند البدو على المفرش أو الغطاء الذي يُحفظ فيه الخبز، اختفى الثفال من الاستعمال ولكن ظلت الكلمة تدور في الذاكرة، ثم تعرف عليها في الشعر الجاهلي وجاء بالشواهد التي ذكرتها، فإذا هي كلمة فصيحة قديمة ظلت حية في لهجة أمه:

"ليس الثفال وحده هو الذي اختفى برحيل فضّة العويد؛ هناك أشياء أخرى حفظها التلكؤ بأملاح قوية لن تصمد طويلا في مواجهة أدلة دامغة على تملصها من الاستحقاق….".

ثم يورد قائمة من تلك الألفاظ تشبه أن تكون معجما موجزا للألفاظ المماتة أو المهجورة التي لم تعد مستعملة، وهو يستعيدها بقوة الحنين والارتباط بالأم والبيت والبادية أيضا.

وسوف تتوسع دائرة الرحلة، من مركز البيت إلى محيطه القريب، في المفرق، وأم الجمال، والزعتري، ثم في رحلات أخرى يوسع الدائرة حتى يصل مع مرافقيه إلى الحَرّة، بحجارتها السود في قلب الصحراء الشمالية.

كما سيزور قصر (قصير) عمرة، وفي كل هذا التجوال في البادية الشمالية، وأماكنها المسكونة أو الخالية، سيعيش زمنين اثنين: أحدهما الزمن الراهن الذي تتم فيه الرحلة، والآخر زمن قديم يمثل ذاكرته مع المكان.

وسوف يؤثث هذا التجوال بما يتاح له من معلومات تاريخية ووقفات عند ثقافة المكان ونقوشه ورسومه وصوره، مع ما يعرض أثناء ذلك من لقاءات مع مرتادي المكان أو زواره ودمج المادة كلها في نسيج سردي يملأ فراغا في معرفة المكان ورسم ذاكرته وراهنه بأسلوب أدبي وشعري فريد.

وفي بعض الملاحظات والتحليلات يتراءى للقارئ أن الكاتب يغدو صوتا مؤرخا للجماعة البدوية في (بادية الشام) تلك التي انقسمت بين الأردن والأقطار المجاورة: "قبائل كانت تتحرك من قبل في شريط صحراوي يبدأ بتدمر وينتهي في هضبة نجد مرورا بهذه المنطقة من البادية الشمالية، غير أنها لم تعد تفعل ذلك بعد تحول السجلات المدنية والجوازات ودفاتر العائلة إلى قيد. وتد في مكان بعينه لم يعرفوه من قبل يسمى (المواطنة).

الكاتب أمجد ناصر اثناء توقيع حيث لا تسقط الامطار في عمان
شعرية النثر عند أمجد ناصر تتأسس على منظوره الشعري للعالم، ذلك أنه ناثر جاء من خلفية شعرية آسرة (الجزيرة)

فمثل هذه اللمحات التاريخية والثقافية التي يلتقط فيها التحولات على مستوى الجماعة تثري النص الأدبي، وتصقله بالبعد الثقافي والإنساني، ليظهر جانب أوسع من الجماعة التي ينتمي إليها الكاتب، أو تعود إليها جذوره، وهو في الوقت نفسه خارج الجماعة، بحكم تجربة الترحال والهجرة والعيش في مدن قريبة وبعيدة، ولذلك يستطيع أن يرى تلك الجماعة وموطنها وصحراءها من مسافة كافية للمعاينة والرؤية الدقيقة:

"من ظلوا هنا لم ينتبهوا. صاروا جزءا مما حدث. أنت الذي غبت طويلا وعدت تقلب دفاتر قديمة، رحت تسترجع عن ظهر قلب علامات تبددت ولم تخلف عبرة أو أمثولة، اختفت الطريق الدولية التي جعلت المكان مفرقا للطرق ومحطة إجبارية لعابري البلاد من الشمال والشرق..".

وثمة ما يتصل بالذاكرة البعيدة للمكان، مما يتمثل في الآثار التي تنم أو تعرب عمن عاش فيها قديما، ففي رحلة (أم الجمال) يحضر التاريخ وحقبه القديمة التي تتابعت على هذه البلدة التراثية، التي اندثرت آثارها ومعالمها ولكن المتبقي منها ينم عن ذاكرة فريدة ونادرة، من الإغريق إلى المسيحية النسطورية، التي انتمى إليها بحيرا الراهب الشهير الذي مرت به رحلة قريش المذكورة في الآثار وتعرف فيها على علامات النبوة في محمد بن عبد الله قبل بعثته الرسمية.

وهناك أيضا استذكارات للطرق التجارية القديمة التي كانت تؤسس لأهمية المدن المقامة على طول الطريق، ومثل هذه الملاحظات الحضارية توسع دائرة نص الرحلة وتعمق قيمته، مستفيدة من التاريخ وعلم الآثار والتاريخ الثقافي والاقتصادي، ليندمج ذلك كله مع الملاحظات الراهنة في نسيج موحد.

وثم فصول في هذه الرحلات يمكن أن نعدها رحلات ثقافية يتأمل فيها الكاتب ثقافة البادية وتراثها المادي والمعنوي، ويشمل ذلك على سبيل المثال: الملابس، وأغطية الرأس، والفن والرقص البدوي (الدحية)، والطعام والشراب والاهتمام بالأعشاب والنباتات… وكذلك إبراز علاقة البدوي بالبيئة المحيطة به، وأثرها في اختياراته وعاداته، إلى جانب مكانة الماء في البادية… ففي مثل هذه التحليلات يغدو النص مادة ثقافية وحضارية تتأمل عميقا في تلك الحياة البدوية التي انتهت أو شارفت على الاندحار أمام التحولات الحضرية الحديثة.

وأخيرا، يمكن القول إن هذه الكتابات التي تنتمي إلى الرحلة في ظاهرها، تذهب أبعد من ذلك وتغدو نصوصا متشعبة متعددة الاتجاهات والآفاق، وتظهر فيها سمات وميزات كثيرة منها:

انفتاح الكتابة على الأجناس والأنواع الأدبية: فهي كتابة لا يتسع لها جنس/نوع واحد، وإنما تقتضي حزمة أجناسية متشعبة. التداخل بين التاريخي-الواقعي والأسطوري-التخييلي: ذلك أنها كتابة تنتمي إلى الواقع والمكان المحدد، وفيها شخصيات تاريخية وحقيقية، ولكن رغم هذه الطبقة الصلبة من الحقيقة، فإنها عبر التخييل والتأويل تنتقل إلى طبقات من الأسطورة وعالم الأخيلة التي تصلح لملء الفراغات ولتقديم تفسيرات يضن بها الواقع والتاريخ. شعرية السرد: تتأسس شعرية النثر عند أمجد ناصر على منظوره الشعري للعالم، ذلك أنه ناثر جاء من خلفية شعرية آسرة، وليس هذا افتراضا لمجرد أنه شاعر يكتب نثرا، وإنما يجد هذا المنحى ما يؤكده في مختلف كتابات ناصر النثرية. وتبعا للمنظور الشعري يتلبس النثر الذاتي الذي أنجزه بلبوس شعري، لغة وتصويرا ومجازات، إلى جانب الاقتباسات الشعرية الصريحة التي تجعل نثره مميزا بضرب من الشعرية الأصيلة التي تجمع بين الرؤية والتشكيل الشعري في مضمار واحد. ويتبع شعرية السرد تلك الطبقة الغنائية-الذاتية التي تتضح كثافتها في مواقف الحب والحنين والتذكر… وحين ذاك يميل النص إلى إيراد الشعر أو الانتقال إلى الصياغة الشعرية التي تتسع للصورة وللعاطفة معا. اكتشاف جماليات المكان: بأسلوب يقرب أن يكون ضربا من الحدس، وانبثاق التجربة الظاهراتية، التي تذكرنا بحدوس باشلار، ودعوته للاهتمام بالشعر من ناحية مقدرته على اكتشاف البيت الأول، بيت الطفولة. لدى أمجد ناصر حنين خاص ومؤثر للبيت وللموطن الاول، للصحراء الشرقية، والمفرق، التي خصها بتجواله وكتابته في كتاب (خذ هذا الخاتم). مكانة عنصر السيرة الذاتية: بالرغم من أن الطابع العام للكتابات النثرية يبدو على صلة بأدب الرحلة والأمكنة، فإن هذا الأدب يختلط عند الراحل بسيرته الذاتية، وهو كثيرا ما يتذكر ويستعيد المكان كما انطبع في خبرته القديمة وذاكرته، ثم يبني له صورة جديدة في ضوء ما آل إليه. نستطيع أن نستخلص فصولا من سيرة أمجد ناصر من رحلاته هذه فكثيرا ما يغذي مادته بإلماعات قديمة تتصل بتفاصيل وحوادث مهمة أو مؤثرة وما زالت الذاكرة الوجدانية تحتفظ بها.

إن نثر أمجد ناصر لا يقل قيمة وأهمية عن شعره، وهو حري بالقراءة والتحليل والتأمل، لقيمته المعرفية والفنية التي تأتّت للأديب الراحل بعد خبرة طويلة في الشعر والكتابة والصحافة، وهو حقا نثر نادر في الكتابة العربية لخصوصية التجربة في تعبيرها عن "جماليات" البداوة، من منظور بدوي وحضري في آن، ونعني منظور المؤلف نفسه الذي تهيأ له أن يحيا التجربتين وينتمي لهما انتماء صادقا وحقيقيا، ويعبر عنهما نثرا وشعرا، وربما للم يتهيأ مثل ذلك لكتاب كثيرين كتبوا عن البداوة من خارجها مدحا أو قدحا، من دون أن تسمح لهم تجاربهم المحدودة في هذا العالم من الوصول إلى عمقه الشاق البعيد.

———————————————————————————————————-

قدّمت هذه الورقة ضمن الندوة الاستذكارية عن تجربة أمجد ناصر، نظمتها مؤسسة عبد الحميد شومان، الأردن، سبتمبر 2025.

0 تعليق