لمن الحكم في مارسيليا عاصمة العصابات الفرنسية؟ - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مناطق مختلفة من العالم، ما تزال فرنسا حاضرة بقوة وتتحكم في مصاير حكومات وشعوب في أفريقيا والشرق الأوسط، عبر أجهزة أمنية وقواعد عسكرية تضم عشرات آلاف الجنود.

لكن هذه الدولة التي تتبوأ مقعدا دائما مع الأقوياء عسكريا واقتصاديا تغيب كليا عن واحدة من أهم مدنها، لتحل محلها أجهزة قضاء وأمن وجباية وحتى نظام اقتصاد مواز.

يثير هذا الواقع تساؤلات عن الجهة التي تفرض قوتها في مارسيليا التي كانت يوما واحدة من أجمل المدن الفرنسية.

في مساء 13 من نوفمبر/تشرين الثاني 2025 نزف في مارسيليا الساحلية جرح اجتماعي قديم ولم يعد قابلا للتضميد، فقد قُتل مهدي كيساسي برصاص كان موجها أصلا لاغتيال شقيقه أمين الناشط السياسي المنتمي إلى حزب الخضر، والذي أعلن الحرب على مافيا المخدرات.

تحولت المدينة خلال جنازة مهدي إلى مشهد يختصر كل شي، وحدات خاصة متمركزة فوق الأسطح، قناصة يراقبون السماء، وحواجز أمنية تديرها قوات النخبة، وفي خلفية المشهد حماية خاصة وشخصية لناشط جزائري شاب لا تقل عن الحماية المفردة لرؤساء الدول، فالشاب لم يعد يواجه مجرد عصابة، بل منظومة ترسخت في الفراغ الذي تركته الدولة.

لم يكن هذا الاستنفار مفهوما بسبب جريمة واحدة، لكن السياق يعيدنا إلى جثة أخرى وجدت في ديسمبر/كانون الأول 2020 متفحمة في سيارة محترقة، وكان الضحية إبراهيم كيساسي الأخ الأكبر لأمين كيساسي.

غرفة العمليات الكاملة التي كانت تحمي جنازة المراهق المغتال وأخيه الناشط المستهدف جسدت أوجها عدة:

انتقال مارسيليا من فضاء الجريمة التقليدية إلى فضاء بنية المافيا المتكاملة. تغوّل لشبكات تسيطر على الأحياء، وتنفذ الاغتيالات، وتخترق السجون. تغلغل لهذه الشبكات في المرافئ بما يعيد ربط المدينة بمسارات التهريب.

كل ذلك في مشهد كشف عن انهيار المعادلة التقليدية، بدت فيه السلطة الشرعية في موقف دفاع عن حضورها من خلال حماية الجنازة لا أكثر، لا لحماية حي كامل أو مدينة ينهشها تجار المخدرات وينخر في سكانها سرطان الكوكايين.

إعلان

الجنازة عرّت الوضع، ووضعت على المحك سياسيات 50 عاما من "الإسكان العمودي"، حيث جُمع كل المهاجرين وذوو الدخل المحدود، بما عزز تراكم الفقر داخل مساحات عمرانية محدودة الأفق، وسهّل تمدد اقتصاد غير شرعي سرعان ما حوّل مدينة بحرية جميلة مطلة على المتوسط تسكنها الشمس طوال العام إلى أرضية خصبة لبنية مافيا متكاملة.

مهدي كيساسي (الفرنسية)

من أين تبدأ الحكاية؟

أمين كيساسي شاب عشريني من أصول جزائرية يعلن حربا على مافيا المخدرات، قبل 5 سنوات وتحديدا في 19 ديسمبر/كانون الأول 2020 عُثر في شمال مارسيليا على جثة متفحمة في سيارة محترقة لشقيقه إبراهيم كيساسي، وهو لم يتجاوز حينها 22 عاما.

الجريمة كانت تحمل بصمة تصفيات "اقتصاد المخدرات" لكنها بدت معزولة في ذلك الوقت، خصوصا أن المدينة اعتادت موجات العنف المتقطعة، غير أن الشيء الذي لم يكن بالحسبان أن تكون تلك الجريمة الشرارة الأولى التي ستدفع عائلة كيساسي لاحقا إلى قيادة واحدة من أخطر المعارك المدنية داخل فرنسا.

في الـ19 من عمره، بدأ الناشط أمين كيساسي يدرك أن مقتل شقيقه لا يشبه الجرائم التي تطوى بمرور الوقت، إذ تحول الشاب بين 2021 و2025 إلى صوت مدني مركزي في الأحياء الشمالية للمدينة، وشارك في حملات توعية في المدارس، والتقى السلطات المحلية، ووثق شهادات العائلات التي فقدت أبناءها، وعمد إلى تأسيس جمعية "الضمير" بهدف استعادة الأحياء من قبضة الخوف.

وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي نشر كتابه "مارسيليا.. امسحي دموعك"، كان الكتاب شهادة شخصية ومجتمعية على انهيار الثقة داخل الأحياء، وتمدد شبكات المخدرات في الفراغات التي تركتها الدولة.

هذا الصوت أرادت المافيا قتله مرارا لأنها أدركت أن الخطر القادم منه أخطر من الأمن والشرطة، فصوت أمين كان من داخل الأحياء التي تشكل المنظومة والتي تعتبرها المافيا محيطا حصريا لها.

ولما كان أمين يحظى بحماية الشرطة بسبب التهديدات الكثيرة التي لحقته، نفذ المسلحون عملية الاغتيال لشقيقه الأصغر مهدي في رسالة مفادها أن يد المنظمة قادرة أن تمتد إليه وبكل الطرق.

واعتبر وزير الداخلية الفرنسي لوران نونيز أن "الجريمة هي جريمة ترهيب، ونقطة تحول في المواجهة مع المافيا"، وهي المرة الأولى التي تصف فيها السلطة التنفيذية الفرنسية جريمة داخل فرنسا بهذا المصطلح.

وقد نشرت صحيفة لوموند الفرنسية أن السلطات الفرنسية "حذرت من احتمال استهداف أمين كيساسي خلال الدفن".

(FILES) Amine Kessaci (C), The Ecologists candidate in the upcoming legislative elections in Marseille's 3rd constituency for the
أمين كيساسي مرشح حزب البيئيين في الانتخابات التشريعية في مرسيليا عام 2024 (الفرنسية)

شبكات هرمية هجينة بين المافيا الإيطالية والكرتلات اللاتينية

أظهر اغتيال مهدي كيساسي حجم الانهيار الذي تعيشه مارسيليا أمام شبكات المخدرات التي تسمى "الناركو ترافيك"، فالجريمة كما وصفها الخبراء تحمل طابعا احترافيا واضحا يشير إلى أن القرار صدر من الهرم الإجرامي وليس من منفذين صغار.

وتؤكد النيابة العامة في باريس "أن المسؤولين ينتمون إلى مستويات أعلى داخل الشبكات، وليسوا أعضاء منفذين".

فعلى مدى 15 عاما تعاقبت المجموعات الإجرامية على مارسيليا، وتحولت الغلبة من مجموعة إلى أخرى، وتشير آخر التحريات إلى صعود مافيا "دي زد مافيا" التي استطاعت بفضل أسلوبها الإداري الأفقي أن تحقق شبه احتكار للساحة، بعد مواجهة دامية مع مجموعة "يودا" التي كان يديرها رجل من أصول أفريقية يلقب بالقط.

إعلان

ورغم أن هذ الشبكات لا ترقى تنظيميا إلى مستوى المافيا الإيطالية أو الكرتلات بالمعنى اللاتيني، فإنها تستعير رموز وأساليب الكارتلات بما في ذلك رسائل الترهيب التي تمسّ أشخاصا مرتبطين بالحياة العامة.

الأحياء الشمالية لمارسيليا.. القاعدة الخلفية للمافيا

ترسم الأحياء الشمالية في مارسيليا ملامح أزمة يزيد عمرها على نصف قرن، حين اعتمدت الدولة على نموذج التجميع العمودي للمهاجرين والفئات المحدودة الدخل، مما سهل تسلل الشبكات بسرعة إلى قلب الجغرافيا المجتمعية المغلقة، مستفيدة من الفراغ المؤسساتي.

وأسهمت البنايات الشاهقة، والممرات الضيقة، والخدمات الاجتماعية والإدارية المنهارة في جعل هذه الأحياء عبر عقود فضاء للفقر والعوز، وعمل ذلك على إضعاف العلاقة بين السكان والدولة، وهو ما استغلته شبكات المافيا وكان فرصتها للتمدد والانتشار.

يقول عالم الاجتماع مروان محمد إن "المراهق خارج شبكة المافيا غير مرئي، وداخلها صاحب مكانة"، كما أن "البنية صُمّمت بحيث يصبح القاصر هدفا مثاليا للتجنيد".

أمين كيساسي حمّل "الطبقات الميسورة التي تتعاطى المخدرات" جزءا من المسؤولية، كونهم يمولون بشكل مباشر هذه الشبكات، ودعا إلى إعادة ما يسمى "شرطة الأحياء"، وإعادة فتح المراكز التي أغلقت في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.

A police officer arrest a suspected member of a drug trafficking network in the Maison-Blanche housing project, in the northern districts of Marseille, southern France, on December 11, 2023. (Photo by Nicolas TUCAT / AFP)
ضابط شرطة يعتقل عضوا مشتبها به في شبكة لتهريب المخدرات في المناطق الشمالية من مارسيليا (الفرنسية)

الدولة تصنف رسميا مارسيليا مدينة مخدرات

أعلن قضاة محكمة مارسيليا في الخامس من مارس/آذار 2025 أمام مجلس الشيوخ أن المدينة أصبحت "Narcoville"، أي إنها تدار فيها الجريمة المنظمة بمنطق السوق الثابتة من دون فوضى.

ففي بعض أحياء المدينة تنتشر شرطة موازية وحراس ودوريات، بل تفرض ضرائب أيضا بسبب عائدات المخدرات، كما تبين أيضا وجود نقاط بيع تعمل بنظام الورديات من دون توقف، وتجنيد القاصرين بنمط شبه عسكري، مع قضاء مواز لمعاقبة المخالفين داخل الشبكة.

ويعني ذلك -بحسب اللجنة- حدوث تطور اقتصادي واجتماعي في مارسيليا يعطي للمافيا موقعا خطيرا وفاعلا في هندسة المدينة، لا مجرد فاعل خارجي أو هجين.

وتظهر التقارير أن ميناء مارسيليا يستقبل ملايين الأطنان من البضائع يوميا، وتمر عبره الكمية نفسها بما يجعل التفتيش الشامل شبه مستحيل، ومن ثم أصبح في قلب حركة التهريب، حيث تعتبر شرطة المخدرات أن الكوكايين يدخل إلى الميناء غالبا مموها داخل الفواكه الاستوائية والحبوب والأخشاب والأجهزة الصناعية، أو الحاويات المختلطة.

ويمتد المسار الدولي على نحو تكون فيه مارسيليا منصة لوجستية تمر عبرها البضاعة قادمة من البلقان مرورا بهولندا، وبلجيكا، باتجاه غرب أفريقيا، ومنه إلى أميركيا اللاتينية وبالعكس.

ووفق مؤشر الجريمة المنظمة العالمي، يدر الكوكايين في فرنسا مليارات اليوروات سنويا، وقد قدمت لجنة تحقيق خاصة بتجار المخدرات تقريرا لمجلس الشيوخ الفرنسي في 21 أبريل/نيسان 2023 أشار إلى أن كمية الكوكايين المصادرة خلال عام 2022 تقترب من 28 طنا.

Marseille, France - 18-03-2024: Emmanuel Macron visits the north suburbs of Marseille at the Cite La Castellane an important place for drugs trafficking.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يزور الضواحي الشمالية لمارسيليا التي صنفتها الدولة مدينة مخدرات (شترستوك)

من المتعاطي الصغير إلى الأذرع الخارجية

أمين كيساسي الناشط السياسي، وفي أول تصريح بعد اغتيال شقيقه، لم يدّخر وسعا للتعبير عن رأيه في ما يجب فعله، واعتبر أن المواجهة الحقيقية تتطلب ضرب مالية الشبكات عالميا، عبر استهداف الأصول في الخارج، وحمّل الطبقات الميسورة والمتعاطي العادي مسؤولية تمويل الشبكات بطريقة غير مباشرة.

وفي هذا الإطار، أشارت وكالة "اليوروبول" إلى أن سوق الكوكايين بالتجزئة يمكن أن يتعدى 6 مليارات يورو سنويا، في حين تشير الوكالة الأوروبية للتعاون القضائي الجنائي -ومقرها لاهاي- إلى أن الجريمة المنظمة تضاعفت منذ 2020، وتعمل هذه الشبكات ضمن منظومة تشمل: روتردام، أنفير، بلغراد، سراييفو، تيرانا، وذلك يعني أن مارسيليا هي حلقة في سلسلة عابرة للقارات.

السجون مقر إعادة تدوير الجريمة

تشير بيانات صادرة عن دراسة وطنية أجراها المرصد الفرنسي للمخدرات والتوجهات الإدمانية عام 2023 إلى أن 26% من السجناء في فرنسا يستهلكون الحشيش يوميا أثناء الحبس.

إعلان

وحملت الدراسة عنوان "الاستقصاء الوطني حول الصحة واستهلاك المواد داخل السجون" واعتمدت على مسح شامل استهدف آلاف المحتجزين في العديد من السجون الفرنسية.

وخلص التقرير إلى أن السجون لا تفكك شبكات المخدرات، بل تعيد إنتاجها، وذلك يعني أن السجن خلق سوقا داخلية منظمة تسمح بدخول المواد بانتظام عبر الطائرات المسيرة أو الزوار.

ففي هذا الفضاء المغلق، تواصل القيادات الإجرامية إدارة نشاطها من الداخل، كما تبني تحالفات جديدة بين الموقوفين، ليتحول السجن إلى امتداد لبنية المافيا، لا إلى حاجز يفصلها عن المجتمع.

حراس السجن في ممر سجن بوميت في مرسيليا (الفرنسية)

أوروبا تغيّر سياساتها وفرنسا تختار التشديد

اعتادت الدول الأوروبية منذ عقدين من الزمن مراجعة سياستها الخاصة بتعاطي المخدرات الخفيفة والقنب، وراهنت على التنظيم بدل العقاب.

فقد ألغت البرتغال التجريم في 2001، واعتمدت على نموذج يقوم على تحويل التعاطي إلى ملف صحي لا جنائي.

وفي مالطا أُقر قانون في عام 2021 يجيز حيازة كميات من القنب، وتأسيس جمعيات مرخصة لزراعته.

كما سمحت لوكسمبورغ في 2023 بالزراعة المنزلية للقنب، معتبرة أن هذا يحدّ من تأثير السوق السوداء.

وفي ألمانيا منح قانون في 2024 للبالغين حق حيازة محدودة، والزراعة المنزلية للقنب.

وقدمت كل هذه الدول مبررا مشتركا، وهو تنظيم السوق، لتجفيف موارد الشبكات الإجرامية، ووجد هذا المنطق صدى في الدراسات البحثية الخاصة بالصحة العامة والاقتصاد الحمائي.

أما فرنسا فتتحرك في الاتجاه المعاكس، فقد شددت العقوبات وعززت الأدوات الأمنية والقضائية، واعتبرت أن أي تخفيف قد يفتح المجال أمام توسع شبكات المخدرات.

وبهذا تشكلت في أوروبا فجوتان إستراتيجيتان: من جهة دول تراهن على التنظيم، ومن جهة أخرى فرنسا التي تراهن على الردع الصارم، في لحظة تعاد فيها صياغة معادلة المخدرات على مستوى القارة.

Police officers from the BST 14 Brigade arrest a suspected member of a drug trafficking network at Les Rosiers housing project, in the northern districts of Marseille, southern France, on December 1, 2023. (Photo by Nicolas TUCAT / AFP)
فرنسا شددت العقوبات وعززت الأدوات الأمنية والقضائية واعتبرت أن أي تخفيف قد يفتح المجال أمام توسع شبكات المخدرات (الفرنسية)

2026 موعد الصدام في فرنسا

تحركت فرنسا وقررت إنشاء نيابة وطنية لمكافحة الجريمة المنظمة بموجب قانون صدر في التاسع من أبريل/نيسان الماضي على أن تبدأ عملها في يناير/كانون الثاني 2026.

والهدف منها مساعدة النيابات المحلية التي لم تعد قادرة على ملاحقة كل الجرائم بفاعلية، فضلا عن أن هذه النيابة ستعمل على توحيد التحقيقات الكبرى في نقطة قضائية واحدة، مع تعاون أمني وقضائي.

ويمثّل إنشاء هذه الهيئة انتقالا للدولة من إدارة الأزمة إلى بناء جهاز قضائي قادر على مواجهة المافيا بمنطق عالمي، هدفها ضرب العمود الفقري لاقتصاد المافيا، وملاحقة منفذي العمليات من روتردام إلى البلقان.

الدولة والعملاق.. حروب الاستنزاف

تواجه فرنسا اليوم بنية مافيا لم تعد محلية، بل عابرة للقارات تمتلك المال، وتسيطر على المرافئ والسجون والعقارات الدولية، وتعمد إلى غسل أموالها عبر مسارات مالية دولية معقدة.

وقد أظهر اغتيال مهدي كيساسي أن المواجهة ليست محسومة، ولم تعد بين الشرطة والمهربين، بل بين دولة فقدت السيطرة على مناطق داخل مدنها، ومنظومة إجرامية تحاول الترسخ كسلطة موازية.

وقد تكشف السنوات القادمة إذا كانت فرنسا قادرة على تفكيك الاقتصاد الموازي، أم إن المافيا ستواصل اختراقها للفضاء الاجتماعي والدستوري للدولة.

0 تعليق