إذا كنت واحدا من محبي السفر إلى المدن العريقة، فحتما من بين كل المدن الأوروبية ستأسر إدنبره خيالك، فهي مدينة تجمع بين العراقة والأصالة الأسكتلندية وروعة وجمال الطبيعة الخلابة، وبين حداثة الحاضر.
تتفرد بكونها تبدو و كأنها مدينة من مدن الروايات القديمة، حيث تمتد شوارعها على امتداد خيالك، وقد رصفت معظم تلك الشوارع بالأحجار وتحيط التلال الخضراء بالمدينة على مد البصر، بينما تحرسها القلاع والقصور الفخمة.
أكثر ما لفت انتباهي هو سكانها الودودين والمرحبين بكل زائر للمدينة، فلا عنصرية هناك ولا كره للغرباء، لن تجد سوى حفاوة الاستقبال ولطافة الابتسامات التي يوزعونها على كل عابر في المدينة!
قضيت سنوات أحلم بتلك اللحظة التي أزور فيها إدنبرة بحثا عن حكايات الماضي والمقاهي الدافئة والقصور والقلاع التاريخية التي تحتضنها الطبيعة الخلابة هناك، إحساسي الأول عند وصولي أن إدنبرة مدينة ترى قبل تُفهم!
إدنبره خشبة مسرح
ما إن تطأ قدماك مدينة إدنبره القديمة، حتى ينتابك إحساس بأنك تقف على خشبة مسرح تاريخي ممتد على مرأى البصر، شوارعها الضيقة التي رصفت بحجارة سوداء ومبانيها الشاهقة التي بنيت بحجارة داكنة تمنحها مهابة، قلما تجدها في أي مدينة أوروبية أخرى، هذا التكوين وكأنه ديكور لرواية كلاسيكية متعددة الفصول والحكايات.
تبعد إدنبره عن لندن أربع ساعات ونصف بالقطار وست ساعات ونصف بالسيارة، مما يجعلها رحلة مثالية يمكنك أن تستكشف خلالها عدة مدن إنجليزية خلال الطريق.
إذا كنت من محبي الرحلات السريعة، فأرجو أن تتمهل لأن إدنبره مدينة تشبه القهوة والتي لا يمكنك أن تشربها على عجل، كذلك المدينة لا يمكنك أن تزورها على عجل، فهي مدينة ساحرة بكل ما فيها من تفاصيل لا يمل من أجوائها، لها سحر خاص في الشتاء كما أن لها روعتها في الربيع والصيف.
قلعة إدنبره رمز المدينة
تتميز إدنبره بتعدد المزارات السياحية، والتي يأتي على رأسها قلعة إدنبره "Edinburgh Castle"، وقد احتلت موقعا مميزا كاشفا لكل المدينة القديمة، ويمكن أن نصل إليها سيرا على الأقدام صعودا، فاستعد وخذ نفسا طويلا لتبدأ رحلتك من هناك.
وتقع القلعة فوق تلة بركانية خامدة وهي رمز المدينة الأول، بداخلها تعرض الأسلحة القيمة وتاج أسكتلندا الملكي، لتبدأ جولتك داخلها ما عليك إلا أن تحجز وقت الزيارة أونلاين حتى لا تضطر إلى الانتظار فى الطوابير اللانهائية لزوار المكان.
إعلان
فوق تلك التلة تستطيع على امتداد البصر أن ترى إدنبره القديمة مع إدنبره الحديثة فى مشهد خلاب، وهي تعانق السهول الخضراء ومياه البحر الزرقاء، والتي لن تراها بوضوح إلا إذا كان الجو صافيا وهو أمر نادر الحدوث، فالضباب يسكن المدينة أغلب شهور السنة!
المزمار فخر أسكتلندا
بعد أن انتهيت من زيارة القلعة، تجولت في الشوارع القديمة المحيطة بها، فإذا بصوت مزمار القربة يخترق الأجواء وكأنه موسيقى تصويرية لجولتنا.
تعتبر هذه الآلة رمزا وطنيا أسكتلنديا، بالتأكيد ستسمع صوتها في كل مكان حيث يتجول العازفين دائما في شوارع المدينة لعزف المقطوعات القديمة للسياح الذين يلتفون حول العازف لالتقاط الصور وتسجيل الفيديوهات له، يرتدي العازفون الزي الأسكتلندي الشهير المكون من تنورة صوفية قصيرة منقوشة بالكاروهات وتسمى "الكيلت"، كما يرتدي سترة داكنة من الصوف الأسود وقميص أبيض عادة وحذاء جلد وقبعة، تم تزيينها بريشة أو شارة، تظهر رتبته العسكرية أو انتمائه للعشيرة أو المجموعة.
رويال ميل الشارع الأشهر
خلال التجول في شوارع المدينة القديمة، وصلت إلى شارع رويال ميل (الميل الملكي) وهو الشارع الأشهر في إدنبره، لما له من خصوصية تاريخية حيث يجمع بين القصور والمتاجر والمتاحف والمطاعم في خط طويل ممتد ويربط الشارع على طول ميل واحد بالضبط بين قلعة إدنبره والقصر الملكي.
وبعد رويال ميل المكان الأنسب للتجوال والتسوق، وهو يجذب السياح محبي الاستكشاف، ويمكنك أن تستمتع هناك بفنجان قهوة ساخن يكسر برودة الطقس أثناء المشي.
" frameborder="0">
عندما تسير في هذا الشارع ستشعر أنك تتحرك داخل آلة الزمن، على اليمين سترى محلات تبيع الصوف الإنجليزي الشهير الذي حيك ليناسب أجواء أسكتلندا القارسة البرودة.
وعلى يسار شارع رويال ميل قاعات ضخمة ارتادها ملوك وكتاب وفلاسفة على مر العصور، وتحتك ممرات كانت تستخدم قبل سنين كحانات ومتاجر للحرفيين، ومع مرور الوقت تحولت هذه الأقبية إلى بيوت للفقراء والمعدمين وأصبحت عشوائية، وبعضها تحول إلى بيوت للدعارة وكانت تعج بالأمراض والبؤر الإجرامية، ومع الوقت أغلقت حتى تم الكشف عنها عام 1985 خلال عملية تنقيب بالصدفة، واليوم هذا الجزء من المدينة مفتوح لزيارة الجمهور.
يعود إنشاء هذا الشارع إلى العصور الوسطى حيث رصف بالحصى وأحيط بجدار يسمى جدار فلودين، ولا تزال أجزاء قليلة من هذا الجدار موجودة حتى الآن ويلتقط عندها السياح الصور التذكارية.
يتفرع من شارع رويال ميل خمسة شوارع أخرى، وهى كانونجيت وكاسل هيل وآبي ستراند ولن ماركت وهاي ستريت، وكلها مليئة بالمحلات والمقاهي والمكتبات الشهيرة، فقد عرف عن سكان أسكتلندا ولعهم بالمكتبات وحبهم للقراءة والقهوة.
ولأن إدنبره مدينة لا يمكنك استكشافها إلا إذا مشيت عبر شوارعها وكأنك تمشي عبر الزمن، فكان لابد أن أزور شارع آخر شهير، صنف مؤخرا كأجمل شارع في المملكة المتحدة، وهو شارع سيركس لين الذى شيد في أواخر القرن 18 وأوائل القرن 19، كجزء من المدينة في منطقة ستوكبريدج، وهو شارع صمم بشكل منحني ويتميز بعمارته التراثية التي تعانقها أشجار وزهور، وقد أصبح من شدة جماله مزارا للعديد من السياح ومحبي التقاط الصور التذكارية.
القهوة الأكثر شعبية
وبينما استكمل رحلتي في المدينة، توقفت للاستراحة في مقهى "ذي ميلكمان" (the milkman)، وهي واحدة من أقدم مقاهي إدنبره، والتي أصبحت "ترند" هذه الأيام بسبب وجودها في شارع كوكيرن التاريخي القريب من كل المتاجر والمعالم السياحية الأخرى، والقريب من القلعة وشارع رويال ميل ومتحف إدنبرة الوطني.
إعلان
ولهذا المقهى حكاية بدأت بفكرة من صاحبها كانت جديدة فى وقتها، حيث فكر فى إنشاء خدمة توصيل الحليب الطازج يدويا بالحصان، وتطورت الفكرة والمشروع مع الوقت بتطور السنين ليتحول إلى واحدا من أكثر المقاهي شعبية فى إدنبرة، ومقصدا للفلاسفة والمفكرين والأدباء.
ومع مرور الوقت تحول المقهى إلى وجهة مرغوبة من جميع السياح القادمين من كل بقاع العالم، حيث يقدم المحل جميع أنواع القهوة والتي تناسب جميع الأذواق، كما أنه دائم الازدحام، فإذا وجدت مكانا هادئا لتجلس وتستمتع بشرب قهوتك المفضلة، فأنت من سعداء الحظ حتما.
حين انتهيت من الاستمتاع بقهوة "ذي ميلكمان" عدت إلى قلب المدينة التاريخي، ومررت بشارع فيكتوريا وهو الشارع المنحني ذو المباني الملونة متعددة الطوابق وبه الكثير من المحلات، ولكن يتوجه السياح دائما لزيارة محل خاص بشخصيات أفلام هاري بوتر الشهيرة حيث يشترون منه القطع التذكارية.
سانت جيلز الكنيسة الأم
يعتبر هذا الشارع من أكثر الشوراع جذبا للسياح في إدنبره، ويمكنك أن تستكمل من خلاله الجولة سيرا إلى الطرف الآخر حيث الطريق إلى كاتدرائية سانت جيلز، والتي تعتبر الكنيسة الأم في أسكتلندا وتوجد في منتصف المدينة القديمة.
لا تفوت فرصة زيارة الكاتدرائية والتقاط الصور المبهرة لواحدة من أقدم الكنائس في العالم، إذ يمتد تاريخها إلى 900 عام منذ أنشأت ككنيسة رومانية عام 1124، وكانت تعتبر في الماضي مركزا للإصلاح والإرشاد الديني في أسكتلندا.
من بين أكثر الأماكن جذبا للسياح في إدنبره، تعبر قرية دين (dean village) مقصدا رئيسيا نظرا لقربها من وسط المدينة حيث تبعد من 20 دقيقة سيرا على الأقدام، أو خمس دقائق بالحافلة التي يمكن أن تستقلها من شارع برنسيس إلى شارع جسر دين، ومن هناك تبدأ السير نحو القرية الصغيرة الساحرة التي تقع بجوار نهر ليث.
تعتبر "دين" وجهة مثالية لمن يبحث عن جمال الطبيعة وأصالة التاريخ، وهي مكان رائع للمشي حيث يستمتع زوار القرية بصوت هدير المياه المتدفقة عبر شلالات المياه، ممتزجا بصوت تغريد الطيور وحفيف الأشجار الشامخة.
ويتوافد السياح على جسر القرية الشهير لالتقاط الصور، ثم يكملون السير على ضفة النهر الذي يقودنا إلى شوارع القرية وأزقتها الضيقة العتيقة، والتي بنيت بالأحجار على ضفاف النهر.
وعلى امتداد الطريق، خصصت أماكن للجلوس لمن أراد أن يستمتع بالأجواء، وتجد الكثير من الأسكتلنديين جالسون يطالعون كتابهم المفضل ويشربون القهوة، بينما يركض آخرون على ضفاف النهر، يبدو أنها عادتهم اليومية، حيث لا صوت هناك إلا صوت الطبيعة، طيور أشجار، ماء، سناجب وحياة هادئة بعيدة عن صخب المدينة الحديثة.
حديقة الأمراء
ومن قرية دين، نتوجه إلى حديقة الأمراء وسط إدنبره، والدخول إليها مجاني لكن فى بعض شهور السنة الخاصة بالاحتفالات والأعياد قد تتطلب حجز تذاكر للفعاليات التي تقام داخل الحديقة، والتي تكون أسعارها رمزية ومناسبة للجميع.
وقد أنشأت الحديقة عن طريق تجفيف بحيرة نور لوش التي كانت مستنقعا قديما استخدم كجزء من دفاعات قلعة إدنبره المطلة عليها، وهناك تقام كل فعاليات المدينة في كل المناسبات، خاصة احتفالات رأس السنة والأعياد.
وبداخل الحديقة تقع نافورة "روس" (Ross Fountain) التي عرضت لأول مرة في معرض لندن الكبير عام 1862، وهي واحدة من أقدم نوافير المدينة والتي يحرص السياح التقاط الصور عندها، وفي الخلفية نرى قلعة إدنبره تعلو التلة.
وإذا ما أكملت سيرك في اتجاه وسط المدينة، ستمر على معرض أسكتلندا الوطني، حيث يمكن مشاهدة ساعة الزهور وهي أقدم الساعات فى أسكتلندا.
برج والتر سكوت
عند الاستمرار في السير على امتداد الحديقة ستشاهد واحدا من أكثر المعالم شهرة في أسكتلندا، إنه النصب التذكاري الذي يخلد ذكرى الكاتب والشاعر "السير والتر سكوت" وهو من أعلام الأدب الأسكتلندي. بني النصب على الطراز القوطي عام 1840، ويضم تماثيل من شخصيات روايات سكوت، ويبلغ ارتفاع هذا المعلم 61 مترا، وبه سلم من 287 درجة يؤدي إلى القمة، حيث يمكن للزوار الاستمتاع بإطلالة بانورامية على المدينة، وعند قاعدة البرج وضع تمثالا من الرخام لسكوت وكلبته.
إعلان
ويعد هذا النصب التذكاري من أكبر النصب المخصصة لكاتب في العالم.
ومن النصب يمكنك التوجه إلى تلة كالتون هيل، والتي تمنحك أفضل إطلالة بانورامية على إدنبره كلها، تستطيع أن ترى من خلالها البحر، ويفضل زيارة التلة وقت الغروب وهي الساعة الذهبية التى يحرص جميع الزوار أن الحضور فيها لالتقاط الصور التذكارية، حيث ترسم الشمس آخر ضوء لها قبل أن تغيب.
المطبخ الأسكتلندي
أسكتلندا عموما وإدنبره تحديدا مدينة مليئة بالتفاصيل والحكايات والتي لم ترو بعد، والمطبخ الأسكتلندي واحدا من تلك الحكايات المهدور حقها، لذلك لا تذهب إلى إدنبره دون أن تجرب مذاق السلمون الأسكتلندي، وهو أحد أشهر الأكلات المنتشرة في مطاعم المدينة، وأيضا شوربة العدس الأسكتلندية، والتي يقدمونها مع الخبز الأسمر، وتشبه كثيرا طعم الشوربة العربية، كما يمكنك تجربة اللحم المشوي على الطريقة الريفية، ونكهته المدخنة التي تشبه إلى حد كبير المطابخ البدوية.
وقد تصاب بالحيرة قليلا وأنت تحاول اختيار المطعم المناسب نظرا لكثرة وتنوع المطاعم هناك التي توفر اختيارات لكل الأذواق، كما يوجد الكثير من المطاعم العربية فى وسط المدينة ومعظم الأسعار فى متناول الجميع.
إدنبرة ليست مجرد مدينة بل هي تجربة تستحق أن تعيش أجوائها، وتختبر إحساسك بها، فهى مدينة الأساطير والحكايات، إذ يتناغم الماضي بالعيش مع الحاضر، وفي كل خطوة تخطوها داخل المدينة تبدو وكأنك تتصفح كتاب تاريخي قديم، فكل زقاق يشبه سطرا طويلا من التراث المحكي بالحجارة.
حتما هي مدينة ستمنحك الدهشة، إذا زرتها مرة فأنت لم تعد سائحا عابرا بعدها بل ستصبح جزءا من الحكاية.

0 تعليق