لم يعد قياس نجاح رائد الأعمال مرتبطا بالساعات الطويلة التي يقضيها منحنيا فوق شاشة الحاسوب. هذا ما تؤكده مقالة "جودي كوك" المنشورة في مجلة "فوربس" الاقتصادية في أغسطس/آب 2025.
المقالة تصف المشهد المألوف لرائد أعمال يعمل بلا توقف، ومع ذلك يشعر بأن النتائج تهرب من بين يديه كالرمل. وتلفت المقالة إلى أن المشكلة ليست في ضعف الجهد، بل في اتجاهه الخاطئ.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listوتدعم هذا الطرح دراسة مستقلة نشرتها مجلة "هارفارد بزنس ريفيو"، وهي مجلة مهنية متخصصة في علوم الإدارة، حيث خلصت إلى أن ما بين 60% و70% من ساعات عمل المؤسسين تُستنزف في مهام منخفضة القيمة.
وتضيف الدراسة أن تجاوز 55 ساعة أسبوعيا لا يرفع الإنتاج، بل يخفض القدرة المعرفية ويؤدي إلى قرارات أقل جودة.
وتُعمّق جامعة "ستانفورد" الأميركية، عبر مركزها المتخصص في أبحاث السلوك المعرفي، فهم هذا الواقع عندما تربط بين الإرهاق وانخفاض كفاءة اتخاذ القرار.
ويشير الباحثون هناك إلى أن الإجهاد المزمن يضعف الوظائف التنفيذية للدماغ بنسبة تتجاوز 60%، أي أن ساعات العمل الطويلة قد تعطي انطباعا بالإنجاز بينما هي تضعف جوهره.
هذه النتائج لا تقف عند حدود البحث الأكاديمي، إذ يقدم تقرير استشاري أصدرته شركة "ماكينزي" العالمية في عام 2024 تفسيرا إضافيا: عندما يشعر المؤسس أن يومه بلا نهاية، تتراكم المهام المتوسطة في طريق المهام الإستراتيجية، فيتآكل الوقت المخصص للإبداع واتخاذ القرارات العليا.
ويخلص التقرير إلى أن قادة الشركات الذين خفضوا ساعات العمل "الفعّال" إلى 4 أو 5 ساعات يوميا أصبحوا أكثر قدرة على تحديد ما يستحق العمل عليه، وأكثر حسما في إسقاط ما لا قيمة له.
ساعات أقل وقرارات أعمق
وفي المقابل، تقدّم "مجلة العمل التنظيمي" التابعة لجامعة "مينيسوتا" الأميركية نموذجا مختلفا، "فترات العمل القصيرة المكثفة تتفوق على العمل الطويل الموزع".
إعلان
ويشير الباحثون في المجلة إلى أن الدماغ يصل إلى قمّة إنتاجه خلال نوافذ تركيز لا تتجاوز 90 دقيقة، وبعدها تتراجع القدرة التحليلية تدريجيا.
ويفسر هذا الاكتشاف لماذا يحقق بعض المؤسسين نتائج مضاعفة رغم أنهم يحدّون ساعات عملهم.
وتزيد مقالة فوربس هذا الموضوع وضوحا عندما تتحدث عن الفرق بين "الطاقة الثقيلة" و"الطاقة الخفيفة".
وتأتي دراسة من مؤسسة "غالوب"، وهي مركز دراسات اجتماعية واقتصادية، لتؤكد أن توزيع المهام بناء على تأثيرها النفسي -ليس حجمها- يرفع الإنتاجية بنسبة قد تصل إلى 40%.
وتصف "غالوب" المهام الثقيلة بأنها تلك التي يخرج منها الإنسان منهكا أو فاقدا للحماس، بينما المهام الخفيفة تمنحه دفعة داخلية وتحرّك قدرته الإبداعية.
وتوصي المؤسسة بأن يعيد المؤسس فحص مهامه كل أسبوع، وأن يتخلص دون شعور بالذنب من الأنشطة التي تُثقله.
حماية زمنية صارمة
وفي سياق متصل، ينبّه "معهد الإدارة الدولي" في لندن عبر تقرير متخصص إلى خطورة المقاطعات على جودة العمل. ويذكر المعهد أن المدير يتعرض يوميا إلى عشرات المقاطعات التي تقطع أطراف التفكير وتمنع تشكّل الأفكار العميقة.
وتدعم هذه النتيجة أبحاث "معهد ماساتشوستس للتقنية" التي تشير إلى أن استعادة التركيز بعد أي مقاطعة تحتاج في المتوسط 23 دقيقة، مما يجعل العمل المتواصل شبه مستحيل دون حماية زمنية صارمة.
ولذلك، تتعامل فوربس مع الوقت بوصفه "هوية" وليس مجرد جدول، فحين يسمح المؤسس لكل من حوله بقطع يومه، فإنه يسمح لهم -دون قصد- بإعادة تشكيل مستقبل شركته، ولهذا ينصح الخبراء بخلق "ساعات سيادية" تكون خلالها جميع الأبواب مغلقة، حتى باب الهاتف.
الراحة كإستراتيجية
أما الراحة، فهي ليست ثغرة في البناء العملي، بل جزء جوهري منه. وتوضح دراسة نشرها "مركز علوم الأعصاب" في جامعة "ستانفورد" أن الدماغ يبتكر حلولا معقدة أثناء فترات الشرود أكثر مما يبتكر أثناء العمل المركز.
ويضيف المركز أن الشبكة العصبية المسؤولة عن الإبداع -المعروفة بشبكة الوضع الافتراضي- تعمل بكفاءة أعلى خلال المشي الهادئ أو قبل النوم أو أثناء الاستحمام. لهذا يُقال إن "الأفكار الكبرى تأتي عندما لا نحاول التفكير بها".
وعلى مستوى الحياة اليومية، تقترح فوربس أن يعتبر رائد الأعمال الراحة جزءا من الخطة، وهذا ما تؤكده "مجلة العلوم العصبية" في دراسة حديثة تشير إلى أن النوم العميق يضاعف القدرة على حل المشكلات بنسبة تقارب 60%، ويعيد تنظيم المناطق الدماغية المسؤولة عن الذاكرة والعمل التنفيذي.
الصمت قبل اتخاذ القرارات الإستراتيجية
هنا تظهر فكرة "السكون"، وهي إحدى أكثر النقاط التي تميّز مقالة فوربس. فالسكون ليس تأملا معقدا، بل لحظات قصيرة بلا ضجيج.
وتأتي دراسة من "مركز اليقظة الذهنية" في أوروبا لتوضح أن بضع دقائق من الصمت اليومي تخفّض التوتر الفسيولوجي وتزيد وضوح القرار بنسبة 20% إلى 30%.
ويشرح المركز أن العقل يحتاج إلى مناطق غير مأهولة ليعيد ترتيب فوضاه الداخلية، وأن صمتا قصيرا قبل اتخاذ قرار إستراتيجي قد يغير اتجاه الشركة كاملة.
الذكاء الاصطناعي اليد الثالثة لرائد الأعمال العصري
لا يمكن الحديث عن مضاعفة النتائج دون التوقف عند الذكاء الاصطناعي. ويؤكد تقرير أصدرته شركة "بي سي جي" (بوسطن كونسلتنغ غروب) عام 2025 أن الذكاء الاصطناعي يمكنه خفض زمن تنفيذ المهام المتكررة بنحو 40%، بما في ذلك الرسائل الأولية، وتنسيق البريد، وتلخيص الاجتماعات، وتحليل المعلومات الأولي.
إعلان
وفي ورقة تقنية لشركة "أوبن إيه آي"، يتضح أن الأدوات الذكية قادرة على تحويل العمل اليومي إلى سلسلة عمليات شبه مؤتمتة، مما يفتح وقت المؤسس للأفكار الإستراتيجية، أما منصة "جي تي لاب" التقنية فترصد ارتفاع إنتاجية الفرق التي تبنّت الذكاء الاصطناعي بنسبة تتجاوز 55% خلال 6 أشهر.
هذه الشواهد، من الإعلام الاقتصادي إلى البحث العلمي إلى التحليل الاستشاري إلى الدراسات التقنية، تبني صورة واحدة، هي: رائد الأعمال الأكثر نجاحا ليس هو الذي يعمل أطول، بل هو من يفهم أين يضع جهده، وكيف يحمي ذهنه، ومتى يصمت، وبأي أدوات يضاعف أثره.
العمل القليل ليس كسلا، بل أسلوب عمل جديد ينقل رائد الأعمال من إدارة المهام إلى صناعة الأثر، إنه الانتقال من الضجيج إلى القمة الهادئة، حيث تتحقق القرارات الكبرى دون أن تُستهلك الحياة.

0 تعليق