تعيش سوريا أجواء احتفالية مع اقتراب الذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد البائد، ويأمل غالبية السوريين في أن تنعكس نجاحات السياسة الخارجية على أوضاعهم المعيشية، وتفتح الباب أمام تعافي بلادهم وإعادة إعمارها.
لكن ما ينغص احتفالات السوريين هو إسرائيل، التي لم تتوقف عن اعتداءاتها وتوغلاتها في الأراضي السورية منذ اليوم الأول لسقوط النظام. وكان آخرها العملية العسكرية على بلدة "بيت جن"، التي شهدت تصدي أهالي البلدة لقوات جيش الاحتلال، وأسفرت عن مقتل 13 شخصا من الأهالي، واعترف جيش الاحتلال بإصابة ستة عناصر، بينهم ضابطان وجندي إصابتهم خطيرة.
طريق التفاوض
منذ البداية، أرسلت الإدارة السورية الجديدة رسائل طمأنة لكل دول الجوار والعالم بأنها لن تشكل تهديدا لأي منها، وأنها تبحث عن الاستقرار والأمن الداخلي، لكن إسرائيل لم تكترث بذلك، واستمرت في انتهاكاتها للسيادة السورية. ومع ذلك اتبعت الإدارة السورية دبلوماسية ذكية، وقبلت بالتفاوض غير المباشر مع إسرائيل بوساطة أميركية.
أرادت الحكومة السورية من المفاوضات التوصل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل مشابه لاتفاقية فض الاشتباك عام 1974. وعُقدت خمس جولات من المفاوضات بين الطرفين، ثم سادت توقعات خلال الأسابيع الماضية بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق أمني جديد بين الطرفين خلال الزيارة التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن، حيث تحدث بعض مسؤولي الإدارة الأميركية عن قرب إنجاز هذا الاتفاق، إلا أن الزيارة انتهت دون أن يتمّ الإعلان عن التوصل إلى أي اتفاق.
تكمن خطورة جولة نتنياهو ليس فقط في استعراضيتها الظاهرة، بل فيما تحمله من أطماع توسعية في سوريا، لذلك أراد أن يصحب معه عددا من وزراء حكومته، وكبار قادة جيشه واستخباراته
لم يتأخر الطرف الإسرائيلي في الإعلان عن انسداد طريق التفاوض، حيث أرجعت هيئة البث الإسرائيلية أسبابه إلى وجود خلافات بين دمشق وتل أبيب، تلك التي ظهرت خلال اللقاءات التي عقدها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مع وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، وتتعلق بشكل رئيسي برفض إسرائيل مطالب سوريا بانسحاب قواتها من المواقع التي احتلتها منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، والعودة إلى حدود اتفاقية فضّ الاشتباك الموقعة عام 1974 تحت إشراف الأمم المتحدة، ووقف الانتهاك والاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية.
إعلان
تربط حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية انسحاب قواتها من الأراضي السورية التي احتلتها، بالتوصل إلى اتفاق سلام كامل بين الطرفين، من دون أن تبدي أي استعداد لإعادة هضبة الجولان التي تحتلها منذ عام 1967.
الاستفزاز الإسرائيلي
تستغل إسرائيل فائض القوة الذي تملكه من أجل فرض شروطها على سوريا المنهكة من إرث نظام الأسد البائد، وهو أمر ترفضه الإدارة السورية الجديدة، التي اختارت طريق الحوار والتفاهم السياسي من أجل تطبيع علاقاتها مع دول العالم.
يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يتمكن من إخفاء انزعاجه من احتضان المجتمع الدولي الإدارةَ السورية الجديدة، وخاصة بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن، والترحيب الذي حظي به من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فلجأ كعادته إلى التصعيد، وقام بجولة استفزازية في المنطقة العازلة التي احتلتها إسرائيل بعد الإعلان عن فشل المفاوضات مع سوريا.
أراد نتنياهو أن تكون جولته بمثابة رسالة لإظهار غطرسته، فضلا عن أنها تشكل اعتداء سياسيا سافرا، يضاف إلى سلسلة الاعتداءات والتوغلات الميدانية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي السورية، وأفضت إلى احتلال أرض سورية تزيد مساحتها على 450 كيلومترا مربعا، فضلا عن احتلال الجولان منذ 1967، وفرض حضوره الأمني على المنطقة الجنوبية، الممتدة من العاصمة دمشق وصولا إلى الحدود الجنوبية، والجنوبية الغربية من سوريا.
تكمن خطورة جولة نتنياهو ليس فقط في استعراضيتها الظاهرة، بل فيما تحمله من أطماع توسعية في سوريا، لذلك أراد أن يصحب معه عددا من وزراء حكومته، وكبار قادة جيشه واستخباراته، حيث رافقه حشد كبير منهم، ضم وزير الدفاع يسرائيل كاتس، ورئيس الأركان الفريق إيال زامير، ورئيس جهاز الشاباك ديفيد زيني، ورئيس مجلس الأمن القومي غيل رايخ، وقائد الجبهة الشمالية رافي ميلو، وقائد فرقة 210 يائير فلاي.
كما ضمّ وزير الخارجية جدعون ساعر، وسفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة يحيئيل لايتر. إضافة إلى منسّق أعمال الحكومة في المناطق اللواء غسان عليّان، الضابط الدرزي، الذي كان يقود لواء غولاني قبل إصابته في كمين نفّذته "كتائب القسام" عام 2014.
لم يتوقف التصعيد أو الاستفزاز الإسرائيلي بعد جولة نتنياهو، بل تواصل عبر قيام سرب من 8 مقاتلات إسرائيلية باختراق الأجواء السورية، حيث حلّقت فوق المنطقة الجنوبية، ومحافظتي حمص وحماة وسط البلاد، وصولا إلى الساحل السوري بالقرب من الحدود التركية. ثم أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلية عن عزمها إطلاق برنامج يهدف إلى تدريب 17 شابا درزيا من السويداء على "إطفاء الحرائق بشكل مهني".
اللافت والمثير للسخرية أن يوصي وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، المعروف بعنصرية مواقفه وتطرفه وكراهيته لكل العرب، بتزويد السويداء بسيارة إطفاء، كـ"خطوة إنسانية رفيعة". ولاشك أن بن غفير لا يمتلك أي حس إنساني، كي يقوم بعمل من هذا النوع، وأن ما يريده من هديته ليس إخماد الحرائق في سوريا، بل إشعال المزيد منها، وافتعال الفتن والاقتتال.
إعلان
لم يتوقف نتنياهو عن خطواته التصعيدية، بل هاجم الرئيس أحمد الشرع، واتهمه بأنه "بدأ يفعل كل ما لن تقبله إسرائيل"، وادعى أنه "عاد منتفخا من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب… ويريد جلب قوات روسية إلى الحدود"، الأمر الذي يشي بعدم رضا الحكومة الإسرائيلية عن عودة الاتصالات بين روسيا وسوريا، وخاصة الاجتماع الأخير الذي ضم مسؤولين عسكريين سوريين وروسا في دمشق، وأعقبه قيام وفد مشترك سوري روسي بجولة ميدانية واسعة، شملت نقاطا ومواقع عسكرية في جنوب سوريا.
الإصرار الإسرائيلي
تريد إسرائيل إبقاء المنطقة الجنوبية من سوريا منزوعة السلاح، وخالية من التواجد العسكري السوري، وذلك كي تبقى بمثابة منطقة أمنية، تشرف عليها.
ولعل هذا الإصرار الإسرائيلي يقابله رفض سوري، لذلك جاء التصعيد الإسرائيلي بعد انسداد أفق التفاوض كي يشكل تحديا كبيرا للحكومة السورية؛ لأن وقف التفاوض يزيد من التوتر على الحدود السورية الإسرائيلية، ويهدد جهود إعادة الاستقرار بعد سنوات من الصراع في سوريا وعليها.
وقد يأخذ التصعيد الإسرائيلي منحى عسكريا، وما يخفف من حدته هو أن المفاوضات السورية الإسرائيلية تحظى باهتمام إقليمي ودولي.
تتذرع إسرائيل بأنها تريد من المنطقة الجنوبية في سوريا أن تشكل حزاما أمنيا لها، وأنها "مصممة على منع تكرار 7 أكتوبر/تشرين الأول من أية جهة حدودية بما في ذلك سوريا"، حسبما صرح نتنياهو، الذي زعم أن إسرائيل لديها "مخاوف حول حلفائها الدروز في السويداء".
يكشف واقع الحال أن لإسرائيل أهدافا أخرى من المنطقة الجنوبية بعيدة عن الأمن وحماية الأقليات، ذلك أن سوريا المنهكة يتركز همها الأساسي على تأمين الاستقرار، ولن تشكل تهديدا لأي من جيرانها، حسبما أعلن الرئيس الشرع في أكثر من مناسبة. كما أن السويداء محافظة سورية، وأهلها جزء أصيل من الشعب السوري، والأجدى بنتنياهو أن يهتم بدروز فلسطين وأن يمنحهم حقوقهم، وألا يستخدمهم وقودا في حروبه العدوانية ضد الفلسطينيين والعرب.
يفرض الإصرار الإسرائيلي على إبقاء المنطقة الجنوبية منزوعة السلاح تحديات كبيرة على المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، فقد أكد الرئيس الشرع "أنه من الصعب الحديث عن منطقة كاملة منزوعة السلاح"، وتساءل بشكل محق عن الجهة المسؤولة عن أمنها في حال حدوث فوضى فيها، وعن إمكانية استخدامها كمنصة من بعض الأطراف لمهاجمة إسرائيل نفسها.
الموقف السوري
هناك خشية لدى حكومة اليمين المتطرف، وكذلك لدى المؤسستين العسكرية والأمنية في إسرائيل، من أن التقارب بين الولايات المتحدة وسوريا، خاصة بعد لقاء الرئيسين ترامب والشرع في البيت الأبيض، قد يفرض عليها تقديم تنازلات ميدانية في المناطق التي احتلتها في سوريا، ولا تريد تقديمها لحساباتها التوسعية.
يتفهم الوسيط الأميركي للمفاوضات رفض الحكومة السورية الطلبات الإسرائيلية. وقد كشف الرئيس الشرع أن "الولايات المتحدة، والعديد من الأطراف الدولية، معنا في هذه المفاوضات"، وأن "الرئيس الأميركي دونالد ترامب يدعم وجهة نظرنا أيضا". وتوقع بأنه "سيدفع بأسرع ما يمكن من أجل التوصّل إلى حل لهذا الأمر".
لكن واقع الحال يشي بأن ترامب لم يمارس أي ضغط على حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية كي تتوقف عن اعتداءاتها المتكررة، وأن تكفّ شرها عن سوريا.
الواضح هو أن الحكومة السورية تسعى إلى الفصل بين الاتفاق الأمني الهادف إلى عودة إسرائيل إلى اتفاقية فض الاشتباك الموقعة في عام 1974، واتفاق السلام، الذي يستوجب إرجاع هضبة الجولان المحتلة إلى السيادة السورية، بالإضافة إلى رسم العلاقة بين سوريا وإسرائيل على المدى البعيد.
أما في المرحلة الراهنة فإن السوريين، وبعد عقود من الإنهاك والتصحر السياسي والاقتصادي والتفكك الاجتماعي، بحاجة إلى مرحلة للتعافي والتقاط الأنفاس.
إعلان
على العكس مما كان يسود في بعض التحليلات، فقد اتضح أن الحكومة السورية غير مستعجلة للركوب في قطار التطبيع مع إسرائيل، التي لا تكف عن وضع عراقيل كثيرة أمام استعادة سوريا استقرارها وأمنها بعد سقوط نظام الأسد البائد، وأن لا حدود لمخططات إسرائيل وأطماعها التوسعية التي "قد تصل إلى ميونخ"، حسبما قال الشرع لصحيفة واشنطن بوست، وبالتالي، فإن ما تريده إسرائيل من الإدارة السورية فعليا يتجاوز اتفاق سلام، ويشبه في الحقيقة اتفاق إذعان وتفريط بالأرض.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق