دخلت إيران حقبة جديدة تصاعدت فيها القومية بعد حرب مع إسرائيل استمرت 12 يوما. ويمكن القول إن هذه الحقبة أصبحت أكثر وضوحا عندما طلب آية الله خامنئي، في أول ظهور علني له بعد انتهاء الحرب الإيرانية الإسرائيلية خلال مراسم عاشوراء في 5 يوليو/تموز 2025، من الرادود (المنشد) محمود كريمي قراءة نشيد "يا إيران".
كانت إسرائيل قد وضعت خطة من مرحلتين لإسقاط النظام في إيران. تضمنت المرحلة الأولى من الخطة، التي تم تنفيذها بشكل متزامن، تدمير الأهداف العسكرية الإيرانية عبر هجمات العملاء في الداخل، وغارات الطائرات الحربية الإسرائيلية.
أما المرحلة الثانية، فكانت تهدف إلى إظهار ضعف إدارة طهران لتحريض المعارضين داخل إيران، وخلق فوضى داخلية تضع الشعب في مواجهة الجيش، مما يضمن أن تؤدي هذه العملية إلى تغيير النظام في إيران.
كشفت الحرب أن الدراسات التي أجرتها إسرائيل حول المجتمع الإيراني كانت ناقصة وخاطئة. فقد بنت إسرائيل إستراتيجيتها بالكامل على تقييم مفاده أن المجتمع الإيراني سيرى في الهجمات العسكرية فرصة وسيتحرك ضد النظام.
ومع ذلك، فضل الشعب الإيراني وضع جميع انتقاداته ومواقفه المعارضة للنظام جانبا، واختار الوقوف بجانب النظام والتحرك بموقف قومي، مفضلا ذلك على أن يصبح مصيره مثل سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان.
أدركت القيادة الإيرانية خلال فترة الحرب هذه أن قوتها الحقيقية في مواجهة الهجمات الإسرائيلية والأميركية تكمن في الوحدة المجتمعية. وفي هذا الإطار، قررت إبراز الخطاب القومي الذي كانت قد همشته بعد ثورة 1979 بحجة أنه يذكر بعهد الشاه (البهلوي)، بل وقررت إبراز الرموز العائدة لإيران القديمة.
مع طلب آية الله خامنئي من الرادود محمود كريمي قراءة نشيد "يا إيران"، أصبح من الواضح أن التوجه نحو خط قومي هو الخيار المفضل
تراجعت خطابات "الصحوة الإسلامية" و"الجامعة الإسلامية" (Pan-Islamist) التي شكلت السياسة الإيرانية منذ عام 1979 إلى الخلفية، وبدأ يحل محلها خطاب "القومية الإيرانية"، وتماثيل أبطال الحقبة الإيرانية القديمة.
إعلان
إن العملية التي برز فيها خطاب القومية الإيرانية، والتي بدأت بأمر آية الله خامنئي بقراءة نشيد "يا إيران"، تمتلك القوة للتأثير ليس فقط على السياسة الداخلية لإيران، بل على سياستها الخارجية أيضا.
القومية في إيران
توجد في إيران مقاربات وتيارات قومية مختلفة تتأثر بالأحداث التاريخية والاجتماعية والمعتقدات الدينية والمذهبية. ويمكن جمع القومية في إيران تحت ثلاثة عناوين رئيسية:
1- القومية الفارسية
يتخذ هذا التيار القومي من حقبة ما قبل الإسلام في إيران أساسا له، ويدافع عن القومية الإيرانية من خلال قيم العصر الإيراني القديم السابق للإسلام.
يذكر ضياء إبراهيمي (Zia-Ebrahimi)، الأستاذ في "كينغز كوليدج لندن"، في كتابه "ولادة القومية الإيرانية: العرق وسياسة التمييز"، أن القومية السائدة في إيران هي "قومية انسلاخية" (Dislocative Nationalism)، ويعدد خصائص هذه القومية كالتالي:
الأمة الإيرانية تمتلك تاريخا متواصلا لا يقل عن 2500 عام. فترة ما قبل الإسلام هي العصر الذهبي لإيران. العرب والإسلام هم المسؤولون عن تخلف إيران. الإيرانيون ينتمون للعرق الآري وهم أقرباء للأوروبيين.تحمل القومية الفارسية في جوهرها عداء للأتراك والعرب. وتعتبر أن أسلمة إيران هي تأثير العرب على الثقافة الإيرانية. وتُحدد التفاعل مع الدول الغربية كسياسة أصح وأنسب للتاريخ الإيراني، بدلا من تطوير علاقات جيدة مع دول الجوار. وتدافع عن ضرورة عودة إيران إلى قوتها القديمة في المنطقة الممتدة من شبه القارة الهندية إلى البحر المتوسط.
2- القومية التي لا تعطي الأولوية للهوية العرقية
دافع الكادر الذي قام بالثورة الإسلامية في إيران، وعلى رأسه آية الله الخميني، بعد الثورة، عن فكرة أنه لا فضل لأمة أو قوم في الإسلام. وابتعدوا عن شخصيات الأساطير الإيرانية القديمة؛ لأنها تذكر بعهد الشاه، وأبرزوا سياسة وخطاب "الصحوة الإسلامية" و"الجامعة الإسلامية". ورغم أن هذا النهج وصل إلى نقاط راديكالية في بدايات الثورة، فإنه لانَ مع مرور الوقت.
تمت محاولة بناء الهوية الإيرانية عبر خطاب سياسي يقف فيه "المستضعفون" ضد "المستكبرين". وتُعتبر دعوة ممثلي المنظمات المسلحة من مختلف أنحاء العالم إلى طهران في الثمانينيات، وعدم وجود كلمة "إيران" في اسم "جيش حراس الثورة الإسلامية" (الحرس الثوري)، أمثلة لافتة للنظر في هذا الصدد.
بالنسبة لأصحاب هذا النهج، القومية ليست تمجيد الهوية العرقية، بل هي تقوية إيران وتقدمها من جميع النواحي.
اختارت إيران أن تتوحد داخليا بأساطيرها القديمة بدلا من أن تنقسم تحت الضغط الخارجي
3- القومية التوحيدية
يمكن اعتبار هذه القومية بمثابة القومية التي تُقرب وتُوحد بين النوعين الآخرين. تسعى هذه القومية، التي يُعبر عنها بـ"القومية الدينية-الوطنية"، إلى الجمع بين إيران ما قبل الإسلام وإيران ما بعد الإسلام.
في تقييم المفكر وعالم الاجتماع الإيراني الشهير علي شريعتي للقومية، لا أهمية للعرق والدم والأرض. يعتبر علي شريعتي القومية شخصية وهوية دينية، ويقيم إيران ما قبل الإسلام وما بعده ككلٍ واحد. وقد شرح شريعتي أفكاره حول القومية بالتفصيل في كتابه "التعرف على الهوية الإيرانية الإسلامية".
إعلان
ووفقا لآية الله مرتضى مطهري، الذي يُعتبر أحد منظري الثورة الإسلامية الإيرانية، فإن إيران ما قبل الإسلام وما بعده تُشكل القومية الإيرانية والهوية الوطنية.
يدافع مطهري عن أن الإسلام ضد الجوانب السلبية للقومية. وفي كتابه "الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران"، الذي يتناول الهوية الإيرانية والعلاقة بين إيران والإسلام ويقدم وجهة نظر مختلفة للهوية الوطنية الإيرانية، يورد العبارات التالية:
"بما أن الأمة الإيرانية ذكية وتمتلك تقليدا حضاريا، فقد مالت إلى الإسلام وخدمته أكثر من الأمم الأخرى. ولأن الإيرانيين قريبون من روح الإسلام ومعناه، فقد أظهروا تقاربا مع أهل البيت أكثر من غيرهم".
كذلك، فإن القومية التي دافعت عنها "حركة حرية إيران"، التي أسسها مهدي بازركان، وإن أظهرت بعض الاختلافات بعد عام 1997، هي في الواقع قومية بعيدة عن العنصرية وتقيم إيران ما قبل الإسلام وما بعده معا.
التوجه نحو القومية
أدركت إيران خلال الحرب التي استمرت 12 يوما مع إسرائيل أن القوة الحقيقية للدولة ليست في الدبابة أو المدفع أو البندقية، بل في المجتمع الذي حقق وحدته وتماسكه.
ومع طلب آية الله خامنئي من الرادود محمود كريمي قراءة نشيد "يا إيران"، أصبح من الواضح أن التوجه نحو خط قومي هو الخيار المفضل.
ولكن أي قومية؟
نشيد "يا إيران"، الذي طلب آية الله خامنئي قراءته، كُتب في بدايات الحرب الإيرانية العراقية، وغناه المغني الإيراني الشهير محمد نوري. كُتب النشيد لإبقاء المشاعر الوطنية للشعب الإيراني حية، ولرفع معنويات الجنود. وبالتالي، لم يختر خامنئي نشيد "يا إيران" بشكل عشوائي، ولم يطلب قراءته عبثا.
وعقب خطوة آية الله خامنئي هذه، نُصب تمثال في ميدان انقلاب، الذي يتمتع بأهمية رمزية لإيران وتُقام فيه العديد من الاحتفالات الرسمية، وعلى رأسها ذكرى الثورة الإسلامية، يُظهر الإمبراطور الروماني فاليريان وهو يركع أمام الملك الساساني شابور الأول.
في عام 260 ميلادية، خرج الإمبراطور الروماني "ليسينيوس فاليريانوس" (توفي 260) بجيش كبير في حملة نحو الشرق لوقف تقدم الملك الساساني شابور (توفي 270) في سوريا وبلاد الرافدين. لكن تفشي الطاعون في الجيش قبل بدء الحرب أدى إلى وفاة آلاف الجنود. واجه الجيش الروماني الضعيف القوات الساسانية في محيط الرها (أورفا) وحران وتعرض لهزيمة ثقيلة، خاصة بتأثير الفرسان المدرعين. ولإنقاذ ما تبقى من جيشه، ذهب فاليريانوس مع وفد صغير إلى المعسكر الساساني للتفاوض على السلام مع شابور، وتشير المصادر الرومانية إلى أنه تم أسره هناك نتيجة "خدعة" أو "فخ". بينما سجلت المصادر الساسانية أن شابور أسر فاليريانوس بيديه شخصيا.
قضى فاليريانوس، باعتباره الإمبراطور الروماني الأول والوحيد الذي أسره العدو، بقية حياته في الأراضي الساسانية، وتم تخليد مشهد ركوعه بينما يمتطي شابور حصانه في النقوش الصخرية في نقش رستم.
التمثال الذي نُصب في ميدان انقلاب بالعاصمة طهران يشير إلى هذه الحادثة التاريخية. وبعد نصب التمثال، تم إعداد صور تُظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو والرئيس الأميركي ترامب وهما يركعان أمام آية الله خامنئي، وتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقبل ذلك بفترة قصيرة، تم تدشين تمثال ضخم يصور صراع رستم، أحد أهم شخصيات الأساطير الإيرانية، مع التنين، في مدينة شاهين شهر التابعة لأصفهان وسط مراسم احتفالية.
وكذلك، وبينما كانت الاشتباكات مستمرة، نُصب تمثال لرامي السهام آرش، أحد أبرز أبطال الأساطير الإيرانية، في ميدان ونك، الذي يُعد منطقة حيوية أخرى في طهران.
تُقيَم هذه التطورات، التي حدثت تحديدا خلال الحرب الإيرانية الإسرائيلية وبعدها، على أنها محاولة من آية الله خامنئي والدولة الإيرانية لجمع الشمل الإيراني حول الثورة الإسلامية والتاريخ الإيراني.
إعلان
وبناء على ذلك، تهدف إيران، من خلال إبراز الأساطير الإيرانية ما قبل الإسلام التي ابتعدت عنها في السنوات الأولى للثورة بحجة تذكيرها بعهد الشاه، إلى جمع الشعب الإيراني حول "القومية التوحيدية" التي تجمع بين إيران ما قبل الإسلام وإيران ما بعد الإسلام.
الخاتمة
اضطرت إيران، في ظل ظروف صعبة واستثنائية مثل الحرب والتخريب والاختراقات الاستخباراتية، إلى تفضيل التوجه نحو خط قومي يجمع بين إيران ما قبل الإسلام وإيران ما بعده.
ورغم أن سياسة إيران القومية الجديدة لها مكاسب، فإنها تنطوي أيضا على بعض المخاطر والتهديدات.
إن توجه الدولة الإيرانية رسميا نحو "القومية التوحيدية" قد يفتح مجالا واسعا وخطيرا لتوسع وتعزيز تيار "القومية الفارسية" غير المتصالح مع مبادئ الثورة الإسلامية وتاريخ إيران ما بعد الإسلام.
إذ تم رصد تزايد قوة الإيرانيين الذين يتبنون القومية الفارسية في وزارات ومؤسسات حساسة مثل وزارة الخارجية الإيرانية، والجيش الإيراني، والحرس الثوري، ووزارة الدفاع خلال فترة رئاسة حسن روحاني.
ويُذكر أن تأثير الدبلوماسيين والبيروقراطيين الذين يتبنون القومية الفارسية داخل الدولة في نشوب التوترات مع تركيا والعالم العربي، وعلى رأسها تدهور العلاقات مع أذربيجان، كان أكبر مما هو متوقع.
وفي حال عدم إدارة العملية بشكل جيد، فمن المحتمل أن تقوى شوكة هياكل مثل أنصار الشاه ومنظمة مجاهدي خلق داخل إيران، ارتباطا بالقومية الفارسية.
ولكن إدارة العملية بخطوات وخطابات صحيحة قد تحقق الوحدة والتماسك الذي تحتاجه إيران في هذه الفترة الصعبة التي تمر بها.
إضافة إلى ذلك، فإن التوجه القومي الجديد سيؤدي إلى تقليل دعم واهتمام إيران بهياكل مثل حزب الله، والحشد الشعبي، وأنصار الله مقارنة بالسابق. وبالفعل، نلاحظ منذ شهر يونيو/حزيران تراجع اهتمام إيران بحزب الله والهياكل الأخرى، واستخدامها لغة أكثر اعتدالا في تصريحاتها المتعلقة بالمنطقة.
كذلك، وبسبب العملية الصعبة التي تمر بها، ستوقف إيران انفتاحها الخارجي الذي بدأ مع الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وستوجه كامل قوتها وطاقتها نحو الداخل.
وبتوجيه طاقتها نحو الداخل، وبمقتضى توجهها السياسي الجديد، ستدخل إيران في تفاعل أكثر إيجابية مع دول المنطقة، لزيادة حلفائها وضمان دعم جيرانها في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق