د. عبدالعظيم حنفي*
كلمة التضخم قد تكون واحدة من أكثر الكلمات شيوعاً في الاقتصاد. لقد دفع التضخم البلدان إلى فترات طويلة من عدم الاستقرار. غالباً ما يطمح محافظو البنوك المركزية إلى أن يُعرفوا باسم «صقور التضخم». فاز السياسيون بالانتخابات بوعود بمكافحة التضخم فقط، ليخسروا السلطة بعد فشلهم في القيام بذلك. حتى أن التضخم تم إعلانه العدو العام رقم 1 في الولايات المتحدة - من قبل الرئيس جيرالد فورد في عام 1974.
وفي هذا السياق تخبرنا مراكز دراسية غربية أن كثيراً من جوانب التضخم ليس مفهوماً تماماً: لماذا تضررت بعض الأسر بشدة في حين أن أسراً أخرى لا تكاد تشعر بأثره، بل ربما تستفيد منه؟ كيف تأثرت المعركة ضد التضخم بتخمة المدخرات والمدفوعات الحكومية التي أتت بها جائحة «كوفيد 19»؟ ما أهمية صدمات العرض ذات الصلة بالجائحة والغزو الروسي لأوكرانيا؟ وترى أن الأهداف المتطورة للسياسة النقدية تزيد صعوبة الفهم للتضخم، فطالما ركزت السياسة النقدية على السيطرة على التضخم من خلال تحقيق الاستقرار على مستوى الطلب الكلى. وقد قامت البنوك المركزية بتوسيع نطاق أهدافها لتشمل الاستقرار المالي والمخاطر المناخية والجغرافية – السياسية الاشتمال الاجتماعي. وتسهم نماذج الاقتصاد الكلى بدور رئيسي في المساعدة على اجتياز هذا المشهد المعقد. فالنماذج تساعد صناع السياسات على تفسير الملاحظات التجريبية بشأن حالة الاقتصاد، وتشير إلى الكيفية التي ستؤثر بها مرتكزات السياسات المختلفة في أهدافهم. ومن ثم تكون مرشداً لقراراتهم بشأن السياسات وتقيس النماذج الكمية نقاط القوة المختلفة المؤثرة، وتساعد على تقييم المفضلات بين الأهداف المتنافسة. غير أن النماذج التقليدية تتغاضى عن أوجه عدم المساواة في الدخل والثروة، وتفترض أن ما يعود بالنفع على المستهلك التقليدي، حسب تعريفه في النماذج، لابد أن يعود بالنفع على الاقتصاد ككل. وترى تلك المراكز الدراسية أن هناك فئة جديدة من النماذج الكمية ملائمة بشكل خاص لإرشاد القائمين على البنوك المركزية في هذه الأجواء الجديدة على السياسة النقدية، حيث يمثل توزيع الثروات والدخل اعتباراً أساسياً. وتجمع النماذج المعروفة باسم النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين (HANK models) بين نماذج الوكلاء غير المتجانسين (المركز الرئيسي لخبراء الاقتصاد الكلى في دراسة توزيعات الدخل والثروة) وبين النماذج الكينزية الجديدة. (الإطار الأساسي لدراسة السياسة التقذية والتغيرات في الطلب الكلى). وتقدم «النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين» دروساً جديدة عن إعادة التوزيع والتأثيرات غير المتجانسة للسياسة النقدية، وتسلط ضوءاً جديداً على الأهداف التقليدية للبنوك المركزية بشأن السيطرة على التضخم وتحقيق الاستقرار على مستوى الناتج. وتذكر تلك المراكز الدراسية أن هناك عدداً من الدروس العامة وبعض الأفكار الأولية عن الكيفية التي يمكن أن توضح من خلالها هذه النماذج معالم بيئة التضخم المرتفع. ومن أبرز تلك الدروس:
* أولاً، أن بعض السفن يطفو إلى الأعلى والبعض الآخر يغرق:
تتلخص النظرة التقليدية للسياسة النقدية في أن «المد إذا ارتفع ترتفع معه كل السفن»، غير أن النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين ترى أن هذا الأمر محض خيال.
فالعديد من قنوات انتقال أثر السياسة النقدية لها تأثيرات متباينة، ومتعارضة أحياناً على الأسر المختلفة. فعلى سبيل المثال، تتوقف التأثيرات المباشرة لتغيرات أسعار الفائدة على الميزانيات العمومية للأسر. فانخفاض أسعار الفائدة يعود بالنفع على المدينين الذين تنخفض مدفوعاتهم للفائدة (مثل الأسر المعيشية التي لديها قروض عقارية بأسعار فائدة قابلة للتعديل)، ويضر بالمدخرين الذين ينخفض دخلهم من الفائدة. وللسياسة النقدية أيضاً تأثيرات غير متجانسة من خلال أثرها في التضخم:
* أً: يعود التضخم بالنفع على الأسر ذات الديون الاسمية الكثيرة التي يعاد تقييمها بالتخفيض:
ب: ترتفع أسعار بعض السلع مقارنة بسلع أخرى، وتستهلك أسر مختلفة هذه السلع بنسب غير متساوية. وأخيراً: فإن التأثيرات غير المباشرة للسياسة النقدية ليست متساوية على دخل الأسر المتاح، وهو ما يرجع إلى أن بعض الأسر تتعرض أكثر من غيرها لتقلبات النشاط الاقتصادي الكلى.
وفي النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين، لا تقتصر أهمية قنوات إعادة التوزيع هذه على دورها في فهم هوية الرابحين والخاسرين في السياسة النقدية، بل أيضاً لأنها في صميم كيفية عمل السياسة النقدية، أي أن إعادة التوزيع تحدد تأثيرها الكمي في مجملات الاقتصاد الكلى. وبقدر ما تقوم القنوات الموضحة أعلاه بإعادة التوزيع من الأسر ذات الميول الحدية المنخفضة للاستهلاك إلى الأسر ذات الميول الحدية المرتفعة للاستهلاك (من المدخرين إلى المنفقين)، يتعاظم الأثر الاقتصادي الكلى للسياسة النقدية. وتختلف أيضاً آثار إعادة التوزيع باختلاف البلدان. فمثلاً، تزداد قوة هذه الآثار في البلدان التي ترتفع فيها معدلات الفقر أو عدم المساواة، ما يؤدى أيضاً إلى اختلاف في انتقال أثر السياسة النقدية بين الاقتصادات المتقدمة والبلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. فالنماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين تجبرنا على ترك الخيال، حتى يمكننا الفصل بوضوح بين تحقيق الاستقرار وإعادة الت وزيع.
* ثانياً، البصمة المالية لها أهميتها:
هناك مفهوم خاطئ آخر منتشر على نطاق واسع، وهو الرأي القائل بأن السياسة النقدية يمكن فصلها عن سياسة المالية العامة. ومن خلال تعريف عدم المساواة في الدخل والثروة، تعيد النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين إرساء رابط قوى بين الاثنين، موضحة كيف تترك السياسة النقدية «بصمات مالية» مهمة. فعندما يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة تزداد تكاليف الاقتراض على الخزانة، ويتعين تمويل الزيادة من خلال زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل، أو من خلال التضخم في المستقبل. وفي النماذج الكينزية الجديدة للوكلاء غير المتجانسين. فإن الآثار الكلية لارتفاعات أسعار الفائدة تتأثر تأثراً هائلاً بتفاصيل التوقيت وكيف ومتى يمكن للحكومة أن تعوض هذا العجز المالي، ونوعية الأسر التي تتحمل العبء. وهكذا، فإن البصمة المالية للسياسة النقدية تحقق المزيد من إعادة التوزيع، ما يتسبب بدوره في تضخم الصدمة أو تخفيفها، تبعاً لما إذا كانت تحول الموارد من المدخرين إلى المنفقين أو العكس. ويؤدى هذا العالم إلى الحفاظ على رابطة لا تنفصم بين البنوك المركزية والخزانات. فكلما زاد الدين الذي تدين به الحكومة وقصر أجله، كانت البصمة المالية أكبر. وبشكل أعم، تمثل هذه النماذج الجدية أيضاً بيئة طبيعية لدراسة آثار سياسة المالية العامة على الكفاءة الإنتاجية الكلية. ودرجة التأمين الاجتماعي، ومدى إعادة التوزيع بين الأسر.
* كاتب مصري

0 تعليق