عاجل

"عيد زواج".. حب عائلي تحت رقابة ناعمة وأكاذيب متفق عليها - الأول نيوز

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي

share2

يطل شبح الروائي البريطاني جورج أورويل في فيلم "عيد زواج" (Anniversary) للمخرج جان كوماسا، كمرجعية كابوسية تذكّر المشاهد بأن التحكم في الذاكرة أخطر بكثير من السيطرة على الواقع ذاته. لا يسعى كوماسا إلى استعادة العالم القاتم في "1984" أو "مزرعة الحيوان" بصورهما الكلاسيكية، بل يقدم نسخة معاصرة من الخوف، حيث تنشأ الرقابة من داخل الأسرة، وتتجذر الحقائق البديلة عبر العاطفة لا العنف.

يرسم الفيلم صورة مأساوية لتحول الحياة العائلية والذكريات المشتركة إلى ساحة إنكار واستبدال للحقائق، حيث يصبح الحب نفسه أداة لإعادة صياغة الماضي. وفي جوهره، يطرح العمل سؤالا وجوديا قاسيا: ماذا يتبقى من الإنسان حين يُطلب منه أن يشارك في كذبة جماعية باسم الحب أو النجاة؟

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

عُرض فيلم "عيد زواج" في سبتمبر/أيلول الماضي ضمن مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، ونال موجة من الإعجاب المتوجس، خصوصا أنه يأتي في لحظة تشهد فيها المجتمعات حول العالم استقطابا متزايدا وصراعا محموما على الحقيقة والذاكرة.

حفل كاشف

تبدأ أحداث الفيلم في منزل عائلة تايلور في واشنطن، حيث تستعد الأم إيلين تايلور (ديان لين)، أستاذة علوم سياسية تتمتع بسمعة أكاديمية قوية، وزوجها بول تايلور (الممثل كايل شاندلر)، صاحب سلسلة مطاعم ناجحة، للاحتفال بالذكرى السنوية الـ25 لزواجهما. يبدو المنزل دافئا ومرتبا، لكن تحت هذا الهدوء تتخفّى توترات عميقة تظهر تدريجيا مع التقدم في السرد.

يصل الأبناء الأربعة واحدا تلو الآخر، الأولى هي سينثيا (الممثلة زوي دويتش)، وتعمل محامية بيئية، تؤمن بالعمل المؤسسي والإصلاح القانوني، وتصل الثانية، وهي آنا (الممثلة مادلين بروير)، وهي فنانة كوميدية تعتمد على السخرية كدرع ضد هشاشتها الداخلية. ثم تصل بيردي (الممثلة ماكينا غريس)، وهي طالبة مراهقة بارعة في علوم الحياة، تمتلك إحساسا مبكرا بالعدالة، وأخيرا، يصل الابن جوش تايلور (الممثل ديلان أوبراين)، الابن الأكبر، أو الكاتب الذي يبحث عن ذاته ويكافح ليجد مكانه وسط عائلة متفوقة.

إعلان

من اللحظة الأولى تبدو العلاقة بين الأبناء والأبوين متوترة، لكن الجميع يحاول الإبقاء على مظاهر الود في عيد زواج الأبوين، لكن دخول شخصية جديدة إلى المشهد يغير مسار الليلة بالكامل، إنها ليز نيتلز (الممثلة فيبي دينيفور)، وهي طالبة سابقة لدى الأم، تركت الجامعة بعد خلاف حاد معها حول ورقة بحثية سياسية.

تظهر ليز برفقة جوش، في علاقة تجمع بين الإعجاب والتأثير العميق الذي سيمتد إلى بقية العائلة، وتقدّم لجوش كتابها الذي يصبح حجر الأساس لحركة اجتماعية واسعة تُعرف باسم "التغيير". هذه الحركة، التي تمزج بين خطاب الثورة الأخلاقية والعدالة الراديكالية، وتبدأ في اكتساب نفوذ كبير في الشارع الجامعي وفي العاصمة، وتتحول تدريجيا إلى قوة اجتماعية تبتلع كل مفهوم شخصي للعلاقة بالأسرة أو الدولة.

ومع انتشار الحركة، تبدأ حياة كل فرد من العائلة في التصدّع، إذ تفقد إيلين منصبها الأكاديمي بعد حملة تشهير تشنّها الحركة ضدها، بحجة أنها "حاجز نُخبوي" في طريق العدالة الجديدة. تتعرض "آنا" لاعتداء خلال عرض كوميدي اعتبرته الحركة مهينا. ويظهر صديق للعائلة، انضم إلى الحركة حديثا، ويبدأ في التصرف كأنه جزء من جهاز يراقب الجميع. حتى بيردي، الفتاة الصغيرة الذكية، تُستهدف صورتها خلال احتجاجات وتتحول إلى رمز تحمل بدلالته من دون إرادتها.

في أحد المشاهد المفصلية، يدخل إلى المنزل فريق من الموظفين الحكوميين يُعرفون باسم "المُعدِّدين"، وهم أشخاص يجرون تحقيقات تُشبه الاستجواب للتحقق من الانحرافات الأخلاقية أو الأفكار الخطرة. ويبدو حضورهم في المنزل إعلانا عن سقوط الحدود بين الخاص والعام، وتتجلى حقيقة كارثية هي أن "البيت لم يعد ملاذا".

يتفاقم الوضع عندما تتعرض مدينة واشنطن لهجوم بيولوجي يستهدف مقر شركة "كمبرلاند" حيث تعمل بيردي. وفي حين تظن العائلة أنها فقدت السيطرة على الأمور، تفاجئهم بيردي بانضمامها إلى الهجوم نفسه، في فعل يشبه التضحية التي تراها الحركة ضرورة لإعادة صياغة العالم. هذا الحدث يزلزل العائلة ويضعها في قلب فوضى وطنية.

لكن الانهيار الأكثر صدمة يحدث داخل المنزل ذاته. خلال مواجهة عنيفة تتصاعد فيها الاتهامات بين الأشقاء، تقوم سينثيا بطعن جوش بسكين المطبخ بعد مشادة حول مسؤولية كل فرد عن الانهيار الاجتماعي الذي يلتهم البلاد. الدماء التي تسقط على أرض المطبخ تصبح رمزا لانهيار العائلة، وانهيار كل ما كانت تمثله من حب، وأمان، وذاكرة مشتركة.

سرد متعدد الطبقات

استخدم مخرج العمل الفيلم سردا طبقيا، إذ يتسلل من الخاص كطبقة إلى العام كطبقة تالية، ويبدأ من قصة عائلية مضطربة في ذكرى زواج، ليكشف تدريجيا عن عالم سياسي متشقق خارج البيت، ويدعمه حوار محكوم بالتوتر، حيث يُقال القليل ويُفهم الكثير من الصمت.

أدرك صناع الفيلم من البداية أن الأسرة مكون مجتمعي شديد الحساسية والأهمية، لذلك كان عليهم أن يقدموا البؤس بشكل تدريجي غير صادم، فجاء السرد أشبه بانزلاق بطيء على سفح جبل الأسرة نحو الانهيار، ليقف على حافة الميلودراما، ليجد المشاهد نفسه أمام بناء درامي متماسك، وتصعيد عاطفي محسوب، وتقاطعات دقيقة بين السياسي والعاطفي، مع بعض الإيحاءات السياسية التي جاءت عبر الحوار، فاكتفت بالسماعي دون إيجاد معادل بصري لها.

إعلان

وتميز المونتاج بإيقاع بطيء مقصود، يدعم التوتر الخفي الذي يلف المنزل والشخصيات، مع انتقال مبكر قليلا بين المشاهد بدا كأنه نوع من التهديد الصامت، خاصة مع الانتقال البصري الهادئ الذي خلق جوا من الحصار النفسي، وكان له دور خاص، إذ مثل ثقلا نفسيا ودراميا على الفيلم والمشاهد أيضا.

لا يحاول المونتاج تفسير كل شيء، بل يسمح للفراغات بالتحدث. استخدم كوماسا الإضاءة كأداة سردية، وليست مجرد تقنية، فالبيت، الذي يعد المسرح الوحيد تقريبا للأحداث، مُضاء بإنارة طبيعية خانقة أحيانا، تُلقي بظلال طويلة على الوجوه، وكأن المكان نفسه يراقب الشخصيات.

يختتم "عيد زواج" سرديته بهدوء خانق، حيث لا خلاص ولا انفجار، بل استمرار قاتم لحياة معلقة بين الإنكار والامتثال. يُناقش الفيلم قضيته الكبرى، وهي الانزلاق الصامت نحو الفاشية داخل المجتمعات الليبرالية، من خلال حبكة عائلية ضيقة، لكنها مشحونة سياسيا.

تقنيا، يعتمد على إضاءة طبيعية خافتة، وكادرات خانقة، ومونتاج بطيء يراكم التوتر دون أن يصرح به. غياب الموسيقى يعمّق الإحساس بالفراغ، في حين أن أداء الممثلين يمنح الفيلم صدقه العاطفي. "عيد زواج" ليس فيلما صاخبا، لكنه مزعج بالمعنى الجيد، يتركك في حالة توتر فكري لا تنتهي مع نهاية العرض.

0 تعليق