في زمن لم تكن فيه الأخبار تُذاع عبر الشاشات، بل تُحمَل على ظهور الجياد وتُختم بخاتم السلطان، كانت القاهرة وطرابلس تشكّلان حبلا متينا من نسج التاريخ العربي الوسيط.
بين عاصمة مهيبة على ضفاف النيل تحكم الشرق بصولجان المماليك، ومدينة شامية عابقة برائحة البحر الأبيض المتوسط، نشأت علاقة تشبه المعادلة الدقيقة بين السيف والموج: القاهرة تمسك بقبضة القوة، وطرابلس تفتح نوافذها على العالم. كانت الأولى تعد، آنذاك، حوالي 450 ألف نسمة، في حين كان تعداد سكان الثانية يبلغ نحو 30 ألفا، أي أن الكتلة السكانية للقاهرة كانت تعادل حوالي 15 ضعفا لنظيرتها الطرابلسية.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listلم تكن طرابلس، في نظر سلاطين المماليك، مجرّد مدينة تابعة على أطراف الشام، بل كانت عينهم على البحر، ورئتهم التي تتنفس منها رياح التجارة والمعرفة. ومن هناك، عبر المرافئ الضيقة والأسوار العالية، كانت تصل إلى القاهرة أخبار البحّارة الإيطاليين، وأسرار القوافل الهندية، وصدى التحوّلات في البحر المتوسط الذي كان يغلي بالمنافسات.
إنها حكاية مدينتين جمعتهما المصلحة والهوية والمصير، حكاية القاهرة وطرابلس في زمن المماليك، حين نشأت بينهما علاقة تتجاوز الجغرافيا، وتدخل في عمق التاريخ السياسي والاقتصادي للعالم الإسلامي في العصور الوسطى.
يقول مؤسس مبادرة "سيرة القاهرة" الباحث عبد العظيم فهمي إن "القاهرة وطرابلس مدينتان تشبهان بعضهما، لا في الحجر فقط بل في الروح أيضا، مدينتان كتبتا فصولا من الحكاية العربية، حكاية العلم والعمران والتجارة والناس الذين عبروا الطرق حاملين الضوء والكلمة".
ومنذ أن أشرقت شمس دولة المماليك على ضفاف النيل في منتصف القرن الـ13 (1250م)، وحتى أفولها في أوائل القرن الـ16 (1517م)، كانت طرابلس المدينة الشامية الساحلية أكثر من مجرّد ولاية أو ميناء. كانت الرئة الشمالية لمصر المملوكية، ومعبرا لتدفّق البضائع والأفكار والعلماء، وجبهة عسكرية متقدّمة في وجه التهديدات الصليبية والمغولية على السواء.
إعلان
لكن ما الذي جعل العلاقة بين القاهرة وطرابلس متميّزة إلى هذا الحد؟ وكيف تحوّلت المدينة المتوسطية الصغيرة إلى همزة وصل في مشروع حضاري مملوكي واسع جمع بين البحر والصحراء، وبين السيف والعلم؟
رحلة عبر الزمن تعيدنا إلى القرنين السابع والثامن الهجري، حين كان المماليك يرسمون خريطة الشرق الأوسط بمداد القوة والدهاء. فقد أدى سقوط طرابلس الصليبية وولادة الولاية المملوكية عام 1289م، إلى اهتزاز العالم المسيحي في أوروبا. لم يكن ذلك السقوط وليد معركة واحدة، بل نتيجة عقود من الصراع بين القوى الإسلامية والصليبيين على الساحل الشرقي للمتوسط.
السلطان المنصور قلاوون، أحد أعظم سلاطين المماليك، قاد الحملة التي أنهت وجود الصليبيين في طرابلس، لتُعاد المدينة إلى حظيرة الدولة الإسلامية وتصبح بعد عامين فقط (1291م) جزءا من الإقليم المملوكي الواسع الذي امتد من النيل إلى الفرات.
وبحسب الكاتب والباحث الأنثروبولوجي المصري حامد محمد حامد، فإن "قلاوون حرص على أن يجعل من طرابلس المستحدثة مدينة مملوكية الطابع لا تختلف عن أي مدينة أخرى في سلطنة المماليك المترامية. مدينة تجمع بين الشقين الرئيسيين اللذين قامت عليهما دولة سلاطين المماليك: الاستقرار التجاري، والمجد الحربي".
ومنذ تلك اللحظة، تغيّر وجه طرابلس: فمن مدينة محصّنة بأبراج الفرنج إلى ولاية إستراتيجية تتبع مباشرة لسلطة القاهرة، تحت إشراف نائب السلطان في دمشق، لكن بعين مصرية تراقب عن كثب.
كانت القاهرة تدرك أن السيطرة على الساحل الشامي، وخصوصا على طرابلس، هي مفتاح الأمن القومي لمصر، وخط الدفاع الأول عن البحر المتوسط.
طرابلس.. المنفذ التجاري للمماليك نحو البحر
اقتصاديا، شكّلت طرابلس الشريان البحري الأكثر أهمية لمصر المملوكية. فبينما كان ميناء الإسكندرية يربط مصر بالغرب الأوروبي، كانت الفيحاء تربطها بالمشرق والشمال، وخصوصا مع المدن الإيطالية، مثل جنوى والبندقية وبيزا التي سعت إلى عقد اتفاقات تجارية مع المماليك لتأمين مصالحها بعد انحسار نفوذ الصليبيين.
من طرابلس، كانت البضائع المصرية، كالقطن والنيلة والذهب المُستَقدَم من النوبة، تشق طريقها نحو البحر. في المقابل، كانت التوابل والعطور والمنسوجات الفاخرة والكتب تصل من الهند عبر البحر الأحمر ثم تُنقل إلى الشام فإلى طرابلس، ليُعاد تصديرها إلى أوروبا.
هذا التبادل لم يكن مجرد تجارة، بل كان دبلوماسية ناعمة تمارسها القاهرة عبر موانئها. ففي كل صفقة بحرية، كانت مصر تُثبت حضورها كقوة اقتصادية، وتفرض رقابتها على الأسعار والضرائب والموانئ، وتستفيد من الموقع الإستراتيجي لطرابلس في ضبط التجارة المتوسطية.
ولأن التجارة تحتاج إلى نقود وعملات مسكوكة، فقد لعبت الفيحاء دورا في هذا الشأن، إذ "كانت من أقدم المدن التي أصدرت نقدا محليا خاصا بها"، وفق تعبير الباحث المصري في تاريخ المسكوكات محمد عبد الحميد، مشيرا إلى أن "الغوص في تفاصيل العلاقات التاريخية بين القاهرة وطرابلس يكشف أن تلك المسكوكات كانت أشبه بالجسور التي تربط حاضرةَ المماليك بشقيقتها العامرة على شاطئ المتوسط".
الطرابلسيون في ظل المماليك
لم تكن العلاقة بين القاهرة وطرابلس محصورة في السيف والتجارة، بل امتدّت إلى الثقافة والعمران والعلم. فقد ازدهرت المدينة الشامية في العهد المملوكي عمرانا وفكرا، حتى لقّبها المؤرخون بـ"مدينة المساجد والمدارس". وفي عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون (1310-1341)، تحوّلت طرابلس إلى مركز علمي يضاهي دمشق وحلب، إذ أُسّست فيها المدارس القرآنية والفقهية والطبية، وكان علماؤها يُدعَون إلى القاهرة للتدريس في الجامع الأزهر أو في مدارسها النظامية.
إعلان
وتبادلت المدينتان في تلك الحقبة العلماء والتجّار والأدباء الرحلات والمعارف. ويذكر الباحث المصري في تاريخ الخُطط (أحد فروع علم التاريخ، يهتم بدراسة الأماكن وجغرافيتها التاريخية) عبد الرحمن الطويل بعض الطرابلسيين الذين لمعت أسماؤهم في سماء القاهرة، مثل: الفقيه شمس الدين محمد بن يوسف الطرابلسي، والأمير حسن بن محب الدين الطرابلسي المعروف ببدر الدين المشير، والشاعر عمر بن محمد الطرابلسي.
كانت العلاقة بين النخب العلمية في المدينتين تبادلية: علماء طرابلس تخرّجوا في مدارس القاهرة، ونسخوا عنها المناهج. في حين كان علماء مصر يستفيدون من المكتبات الطرابلسية الغنية، وعلى رأسها "دار العلم" التي أسّسها بنو عمّار. ويشير مؤرخون إلى أن طرابلس أصبحت في القرن الثامن الهجري جسر المعرفة بين المشرق والمغرب، تمرّ عبرها المخطوطات والعلماء كما تمرّ القوافل.
ويرى حسن حافظ، باحث دكتوراه في التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، أن "اهتمام المؤرخين القاهريين بطرابلس باعتبارها إحدى أهم نيابات الشام نابع من نظرية المركز والطرف. وعلى الرغم من أن غالبية هؤلاء لم يزورا طرابلس ولم يروها رأي العين، إلا أنهم من خلال وجودهم في مركز الإمبراطورية الإداري والسياسي استطاعوا أن يقدموا مادة في غاية الأهمية عن مدينة طرابلس لا يمكن التأريخ لها من دون الاستفادة منها".
الدور الأمني لطرابلس: حصن الشمال المملوكي
من الناحية العسكرية، كانت طرابلس الدرع الأمامي لمصر في مواجهة الأخطار الشمالية. فبعد القضاء على الإمارات الصليبية، بقيت تهديدات المغول ثم العثمانيين تلوح في الأفق. ولذلك، أنشأ المماليك نظاما إداريا محكما في طرابلس: نائب للسلطان، وحامية دائمة، وحصون مراقبة تمتد من الساحل إلى الداخل.
كما كانت المدينة الساحلية نقطة تجمع للأساطيل البحرية المملوكية، التي استخدمت طرابلس قاعدةً للانطلاق في عملياتها ضد القراصنة في جزيرتي قبرص ورودس، بل وحتى في حملات الردع ضد إمارات الأناضول المتمرّدة.
ولعبت طرابلس دورا استخباراتيا مهما في تلك المرحلة: فبفضل موقعها البحري واتصالها بالتجار الأجانب، كانت عين القاهرة على البحر المتوسط. ومنها كانت ترِد الأخبار والتقارير عن تحرّكات الأساطيل الغربية والتجار الإيطاليين، ما ساعد سلاطين مصر على اتخاذ قراراتهم البحرية والعسكرية.
القضاء والإدارة: نظام مصري بنكهة شامية
إداريا، كانت طرابلس تتبع نموذج الحكم المملوكي الذي يجمع بين المركزية المصرية والمرونة المحلية. فالوالي أو النائب الطرابلسي كان يُعيَّن من القاهرة، وغالبا ما يكون من المماليك الكبار المقربين من السلطان. غير أن المدينة احتفظت بهويتها الشامية وبنظامها القضائي المتنوّع (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي)، ما جعلها نموذجا للتعايش الفقهي والإداري.
وكانت الضرائب التي تجمع من طرابلس ومرفئها تُرسل مباشرة إلى بيت المال في القاهرة، ما جعلها من أغنى ولايات الشام. في المقابل، كانت القاهرة تغدق عليها في مشروعات التحصين والبناء، ومنها قلعة طرابلس المهيبة التي أعاد المماليك ترميمها وتوسيعها لتصبح رمزا للسيادة المصرية على الساحل الشامي.
وعلى خط مواز، حافظت المدينة في تلك الحقبة على نسيج متنوّع يجمع بين أتباع الديانات الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، مستفيدة من موقعها التجاري على المتوسط ودورها كمحطة تواصل بين الحضارات. هذا الأمر جعلها -بحسب المهندس المرمّم اللبناني حازم عيش- نموذجا للمدن الإسلامية أو العربية أو الشرقية، والتي غالبا ما تشير إلى مدلول واحد وهي النسيج المديني الذي كان يحتوي على أعراق عدة (وليس فقط العرب) وأديان متعددة (وليس فقط الإسلام).
فقد عاشت في أحياء طرابلس القديمة عائلات يهودية ومسيحية ومسلمة جنبا إلى جنب، وتجاورت المعابد والكنائس والمساجد في مساحة واحدة تعكس روح التعايش والانفتاح. ولم يكن هذا التنوّع مجرّد وجود سكاني متجاور، بل شكّل جزءا من هوية المدينة الحضارية، إذ انخرطت مختلف المجموعات في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ما جعل من الفيحاء نموذجا لبنانيا أصيلا للتعددية التي تصمد، على الرغم من التحوّلات السياسية التي شهدتها المدينة في حقب تاريخية مختلفة.
إعلان
كما أن اللغة الإدارية والكتابية التي استخدمت في الوثائق الطرابلسية آنذاك كانت على الصياغة القاهرية ذاتها، ما يعكس وحدة الدولة. بل إن بعض المؤرخين يشيرون إلى أن طرابلس كانت -إلى جانب دمشق وحلب- منابر إعلامية مملوكية، إذ كانت تُنشر فيها المراسيم السلطانية وتُتلى في المساجد الكبرى باسم السلطان القاهري.
عندما تماهت قاهرة المعز
تركت التأثيرات الفنية والعمرانية المملوكية القادمة من القاهرة بصمتها الواضحة في عمارة طرابلس. ومن يزور أحياء المدينة القديمة اليوم، من الجامع المنصوري الكبير إلى سوق الصاغة وجامع الأمير سيف الدين طينال، يرى آثار تلك المرحلة المملوكية التي خلّدت وحدة الذوق الفني بين مصر والشام.
القباب المضلعة، المآذن المربعة، والزخارف الحجرية السوداء والبيضاء التي تشبه نظيرتها في القاهرة الفاطمية والمملوكية؛ تشهد على توحّد الهوية المعمارية. ويصف المهندس المصري أيمن عفيفي العمارة المملوكية في طرابلس بأنها "من أرقى أنماط العمارة الإسلامية في المشرق، وتمتاز بتداخل الوظيفة والجمال والرمزية الدينية والمدنية الدفاعية".
هذا الثراء البصري والتنوّع الفني طبع العمارة المملوكية في طرابلس الشام وفق رؤية عمرانية تجمع بين الصرامة الدفاعية والجمال الزخرفي. يقول المهندس المرمِّم اللبناني باسم ذودة إن العمارة المملوكية في طرابلس "تميّزت بخصوصية نابعة من طبيعة موادها، وتأثيراتها المتعددة، ووظيفتها الواقعية ضمن سياق جغرافي وسياسي حساس".
ويلفت إلى أن "طرابلس تُظهر في عمارتها المملوكية ملامح كثيرة من الطراز القاهري، سواء في تخطيط المنشآت الدينية أو في استخدام العناصر المعمارية، غير أن هذه الملامح جاءت في طرابلس أبسط وأكثر ارتباطا بالبيئة الشامية من حيث المواد والتقنيات والتعبير الجمالي".
وفي السياق عينه، يشير الأديب الطرابلسي والأستاذ الجامعي الدكتور جان توما إلى أن صورة طرابلس الهندسيّة شعرا بالأمس كانت تفوح بالبساتين والنهر الجميل والهواء العليل ووارف الظلّ والجنبات الخضر، وفق تخطيط اشتغل عليه المماليك بوضوح عمرانيّ يتناسب مع مدى البساتين الممتدّة، مع الإبقاء عليها غربا حماية من الهواء الخمسيني المحمّل بالغبار، حيث كانت أشجار الليمون تقوم بتصفيته قبل أن يلج أحياء المدينة العتيقة تبريدا طبيعيّا.
حين تراجعت القاهرة واهتزّت طرابلس
غير أن هذه العلاقة الذهبية لم تدم طويلا؛ فالتحولات الكبرى التي أصابت مركزية القاهرة في أواخر العهد المملوكي وما تلاه، انعكست مباشرة على طرابلس التي ارتبط اقتصادها وأسواقها البحرية بالشبكات التجارية والثقافية المصرية.
ومع تراجع القاهرة، بفعل الأوبئة والاضطرابات السياسية، تراجعت معها حركة العلماء والتجار التي كانت تغذّي ازدهار المراكز الحضرية في المشرق، لتشهد طرابلس بدورها اهتزازا في بنيتها الاقتصادية وتراجعا في صناعاتها وخاناتها… وراحت المدينة الشامية المتوسطية تفقد دورها الحيوي شيئا فشيئا. ومع ذلك، حافظت الأخيرة على دورها الإقليمي بفضل بنيتها العمرانية المملوكية وروحها التجارية، في حين ظلّت العلاقة التاريخية بين المدينتين خير شاهد على ترابط العواصم والمرافئ في المجال العربي، حيث يؤثر صعود إحداها أو تراجعها في مصائر الأخرى عبر الزمن.
وحين دخل السلطان العثماني سليم الأول الشام عام 1516، سقطت طرابلس من يد المماليك بعد معركة مرج دابق، وسقطت بعدها القاهرة نفسها. وهكذا انتهت مرحلة كاملة من التاريخ العربي الوسيط كانت فيها طرابلس بوابة مصر على البحر، ومصر حصن طرابلس في البر.
" frameborder="0">
ذاكرة المماليك التي لا تموت اليوم
اليوم، حين نقرأ النقوش المملوكية في الجدران الأثرية في طرابلس، أو نتأمل قبابها ومساجدها، ندرك أن العلاقة بين القاهرة وطرابلس لم تكن مجرّد فصل في كتاب الإمبراطوريات، بل تجربة حضارية مشتركة قامت على تبادل القوة والمعرفة والمصير. تقول الدكتورة لبنى مسقاوي، نائب رئيس "مؤسسة طرابلس القديمة"، إنه على الرغم من مرور حقبات تاريخية عدة على طرابلس، فإن المدينة "ما زالت تحمل ملامح العصر المملوكي في أزقّتها وأسواقها وخانتها ومدارسها. مدينة إذا سرتَ في أحيائها القديمة… شعرت بأن التاريخ لا يسكن الجدران وحسب، بل يتحرّك مع الناس في تفاصيل حياتهم".
إعلان
وشكّلت العلاقة بين طرابلس والقاهرة مثالا على الامتداد التاريخي بين مصر وبلاد الشام. ووفق رئيس بلدية طرابلس الدكتور عبد الحميد كريمة، فإن "عظمة طرابلس لا تقاس بمساحتها، بل بما مر فيها من حضارات، فهي مدينة لا تزال تنبض في أسواقها القديمة، في رائحة صابونها، في نقوش عمرانها، وفي ذاكرة أهلها".
وتحفظ ذاكرة الطرابلسيين أن الجغرافيا، مهما بلغت أهميتها، لا تصنع التاريخ وحدها، فالإرادة السياسية والثقافة المشتركة هما من يمنحان المكان دوره ومعناه. وهكذا غدت الموانئ، مثل طرابلس، شواهد على توازن القوى بين البحر والصحراء، وبين حركة التجارة ونبض المعرفة، وبين صرامة السيف ورهافة الريشة.
وفي زمن تتجدّد فيه أسئلة المشرق العربي حول سبل التكامل والتعاون، يظلّ درس القاهرة وطرابلس في العصر المملوكي ماثلا أمامنا: فالمدن لا تزدهر إلا حين ينفتح بعضها على بعض، وتُدرك أن البحر الذي يفصل بينها قد يتحوّل، بإرادة ورؤية مشتركتين، إلى الجسر الذي يصلها.

0 تعليق